لقد أحدث غزو العراق وأفغانستان فراغاً كبيراً في السلطة وغيّر كثير من معادلات القوة الأقليمية التي كانت قائمة قبل ذلك. أدى هذا الأختلال غي موازين القوى الأقليمية لصالح أطراف معينة الى صعوبة، بل أستحالة، حل المشاكل والخلافات التاريخية المتجذرة من خلال الحوار المباشر بين دول الأقليم وبدون وجود كفيل دولي ضامن...
قلت ان علاقة أميركا بالمنطقة منذ 11 سبتمبر 2001 لغاية اليوم مرّت بثلاث مراحل كبرى (الدخول والخروج ثم العودة)، وفي كل مرة بنت أميركا سياستها في المنطقة على افتراضات خاطئة سببت لها قرارات أقل ما يقال عنها خاطئة وغير كفؤة.
وبعد أن أدركت أميركا خطأ استراتيجية الدخول (2001-2010)، عادت مضطرة للمنطقة بعد احتلال داعش لإراضي عراقية وسورية واعلانه دولة الخرافة. ومرة أخرى وقعت ادارتي أوباما وترامب اللتان صممتا ونفذتا استراتيجية الخروج exit strategy للأوام (2011-2023) في افتراضات خاطئة كبرى أهمها:
أ. (ان الخلافات بين دول المنطقة يمكن ان تحل بدون ضغوط دولية). لقد احدث غزو العراق وأفغانستان فراغاً كبيراً في السلطة وغيّر كثير من معادلات القوة الاقليمية التي كانت قائمة قبل ذلك. أدى هذا الاختلال في موازين القوى الاقليمية لصالح أطراف معينة الى صعوبة، بل استحالة، حل المشاكل والخلافات التاريخية المتجذرة من خلال الحوار المباشر بين دول الاقليم وبدون وجود كفيل دولي ضامن.
ب. (أنه يمكن معالجة هذا الاختلال في القوى الاقليمية من خلال استرضاء تلك القوى وفي مقدمتها ايران والسعودية واسرائيل بصفقات اقتصادية أو سياسية). لم تؤدي هذه الفرضية سوى الى ابقاء النار مشتعلة تحت الرماد بدلا من ايجاد مقاربات جديدة تقوم على استراتيجية امنية واضحة لكل المنطقة، وليس جزءً منها فقط.
فاسترضت أمريكا أيران ببعض المغريات والحوافز الاقتصادية، في حين حاولت استرضاء السعودية بتصريحات وزيارات دبلوماسية ووعود سياسية، في الوقت الذي اطلقت فيه اتفاقات ابراهام لاسترضاء اسرائيل وتطمين مخاوف العرب في مواجهة ايران.
ت. (ان أهمية المنطقة الاستراتيجية قد تراجعت، بعد تراجع أهمية النفط، وباتت تقتصر على مكافحة ارهاب داعش). أدى ذلك الى سحب كثير من الأصول الاميركية الاستراتيجية باتجاه الصين، وتخلي امريكا عن أهم أصول قوتها الناعمة (تحالفتها الاستراتيجية والتاريخية في المنطقة) والابقاء على مزيج ضعيف من أصول قوتها الخشنة.
ث. (لم تعد القضية الفلسطينية مركزية في صراع الشرق الأوسط وتوارت في اهميتها كثيراً مقارنة بالحرب على الأرهاب). بالتالي يمكن تجاوز الفلسطينيين والاتجاه نحو التطبيع بين العرب واسرائيل دون المرور بالمحطة الفلسطينية.
ج. (الارهاب بمختلف اشكاله ومنظماته هو المرض الذي يجب استئصاله). فشلت الادارة الاميركية وحلفائها في ادراك أن الارهاب هو عارض لأمراض أخرى أهمها الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، والفقر، والتخلف والدكتاتورية، وأنه ليس مرضاً بحد ذاته.
ح. (اطلاق يد اسرائيل كوكيل أمني مطلق الصلاحية عن أمريكا ومصالحها). وخلال هذه الفترة التي أُطلقت فيها يد اسرائيل اقليمياً، بخاصة في مواجهتها مع ايران، تم اغفال التحولات الجذرية في بنية السياسة الاسرائيلية والتي أدت الى اختلال هيكلي كبير واستقطاب شديد وزج جيشها في صراعات سياسية عميقة.
العودة للمنطقة. لقد أدت هذه الافتراضات الخاطئة للسياسة الأمريكية في المنطقة الى تصاعد حدة الصراعات بخاصة بين محوري ايران (ووكلائها) من جهة، وكل الدول العربية الخائفة من التمدد الايراني، واسرائيل من جهة أخرى. وفي الوقت الذي كان يتوقع فيه كثير من المراقبين تطور المواجهة الموجودة أصلاً بين المحورين في مناطق الصراع التقليدية في المنطقة (اليمن، العراق، سوريا، لبنان)، فاجئت حماس الجميع بهجومها على اسرائيل في 7 أكتوبر بعد أن اكتشفت ان فلسطين قد توارت أهميتها دولياً وأقليمياً بخاصة في أعقاب مسلسل التطبيع مع اسرائيل، وأن سلطتها في غزة باتت مهددة ليس بسبب سباق التطبيع فقط بل بسبب تململ الفلسطينيين الذين تحكمهم من سنين الحصار الطويلة وتحميلهم لحماس والسلطة الفلسطينية كثير من أسباب معاناتهم.
فقد كشف استطلاع للرأي أجراه البارومتر العربي في الاسبوعين الذين سبقا 7 أكتوبر ان نسبة الغزيين الذين كانت لديهم ثقة بحماس لم تتجاوز 29 بالمئة وأن 72 بالمئة قالوا ان الفساد منتشر في مؤسسات الحكم في غزة.
ادت المفاجئة الحمسية لإسرائيل الى صدمة مشابهة لصدمة 11 سبتمبر سواء في اسرائيل أو امـريكا. وســـارعت أمريكا لإرسال قواتها وحاملات طائراتها للمنطقة فضلاً عن اطلاق سيل من القرارات السياسية غير الرشيدة والمنحازة تماماً لإسرائيل دون وعي لانعكاساتها الاستراتيجية على امريكا قبل المنطقة. مرة أخرى تصرفت السياسة الاميركية بشكل سريع (مثلما حدث في مرحلتي الدخول والخروج) وبنت سياستها بناءً على افتراضات خاطئة سيتم تفصيلها في مقال قادم.
.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
اضف تعليق