فهناك عــزوف مــوقـفـــــــــي، مبني ومؤسس وواعِ بأهدافه ومراهناته السياسية والاجتماعية، ويفترض أن يهم هذا النمط شرائح وفئات اجتماعية ممتلكة لأشكال متفاوتة من الحس السياسي أو الثقافة السياسية والاجتماعية الموجهة. على الرغم من أن هذا العزوف لا يمكن أن يغير شيء في معادلة الحكم وطريقة إدارة السلطة والنظام السياسي...
تأخذ الاسباب الاجتماعية والاقتصادية حيزًا مهمًا في تفسير ظاهرة العزوف الانتخابي والسلوك السياسي في كل دول والعالم، ولاسيما في دول العالم الثالث مثل العراق، ولعل الاسباب الاجتماعية والاقتصادية تنافس الاسباب القانونية والسياسية في تفسير ظاهرة العزوف الانتخابي، إذ تتمثل هذه الأسباب في وجود خلل في الاندماج الاجتماعي للفرد داخل المجتمع، بحیث یتأثر بحجم ومدى التصویت أو الامتناع عن التصویت في الانتخابات بالمتغیرات المختلفة، كالتعلیم والدخل والمهنة والجنس والسن وغیرها من العوامل.
ولفهم طبيعة تأثير هذه الاسباب في حجم المشاركة السياسية وطبيعتها لابد أن نتناولها بشكل منفصل:
أولاً: الاسباب الاجتماعية
إنَّ هذا النوع من العزوف يجد أساسه في العديد من العوامل والإكراهات الاجتماعية التي تعرفها كل المجتمعات، فالمجتمع العراقي يتخذ منها مظاهر مختلفة يمكن اعتبارها وقائع موضوعية، وتتوزع مظاهر هذا العزوف في انتشار ظاهرة الأمية، التي تؤدي إلى غياب الوعي السياسي والاجتماعي وانعدام الثقافة العامة. فظاهرة الامية كسبب اجتماعي للعزوف، يمكن قراءتها من اتجاهين سلبيين: فمرة تدفع الناخب إلى الانتخاب على اساس الولاءات الضيقة أو حسب الحاجة المادية او تدفعه للانتخاب من دون وعي سياسي بشكل عام، ومرة تدفعه إلى المقاطعة التامة عن كل اشكال المشاركة السياسية.
ففي أوساط الأميين تجد اللامبالاة السياسية أرضًا خصبة لكي تنمو وتثمر ثمارها، إذ تسود بين الأميين ظاهرة الامتثال التام للسلطة القائمة والانصياع الكامل لأوامرها مهما كانت، وعدم الاكتراث بالنشاط السياسي وقضايا السياسية ككل. فالأمیة تعد أحد المعوقات التي تحول دون مشاركة الفرد في الانتخابات، ولاسيما في دول العالم النامي، فالشخص المتعلم أكثر وعیًا ومعرفة بالقضایا السیاسیة، وأشد إحساسًا بالقدرة على التأثير في صنع القرار، والاشتراك في المناقشات السیاسیة، وتكوین آراء بخصوص الموضوعات والقضایا المختلفة، إلا أن المتعلمين في العراق نجد اغلبهم أما مقاطعين للانتخابات في العراق بذريعة السخط على العملية السياسية وطريقة إدارة السلطة أو منخرط ضمن ما يسمى بالجماهير الزبائنية السياسية، التي خلقتها الاحزاب السياسية على المستوى الجماهيري.
كما أن المشاركة السياسية تتأثر بعامل السن، إذ یزداد مستوى المشاركة مع تقدم العمر، وهذه العوامل لا تشكل قاعدة مطلقة فهي تتغیر بتغیر المتغیرات الاجتماعية لكل فرد ومجتمع. فضلًا عن ذلك، تأخذ التباينات الاجتماعية مثل الانتماء القبلي وطبيعة التباين بين الريف والمدينة، والتنشئة الاجتماعية وطريق التعلم، فضلاً عن الاسباب الدينية والمذهبية، دور كبير في عزوف الناخب العراقي عن الانتخابات، ولعل الجوانب الأمنية، مثل الحرب الطائفية واجتياح داعش للأراضي العراقية وتنامي حالتي عدم الاستقرار السياسي والأمني في العراق، أدت إلى زيادة الموانع الاجتماعية امام الناخبين، ولاسيما تلك الاسباب التي ترتبط بزيادة عدد المهجرين في مخيمات النزوح. وقد تشتد خطورة الاسباب الاجتماعية وتستفحل حينما تتشابك مع الاسباب الاقتصادية والحياة الاقتصادية للمواطنين؛ الأمر الذي من شأنه أن يزيد من مقاطعة الانتخابات وتنامي ظاهرة العزوف الانتخابي بشكل كبير.
ثانيًا: الاسباب الاقتصادية
یرتبط الدخل إیجابیًا مع المشاركة السياسية، وبشكل عام يعد أصحاب الدخل المتوسط أكثر مشاركة من ذوي الدخل المنخفض، ذوي الدخل المرتفع أكثر مشاركة من ذوي الدخل المتوسط، وأن الفقر والبطالة یلعبان دورًا هامًا للزیادة في نسب الامتناع عن المشاركة السياسية؛ بسبب نقص الإمكانیات الاقتصادية التي تجعله لا یمیل إلى الاهتمام بالسیاسة، وكما أن البطالة وعدم الاستقرار الاقتصادي والازمات الاقتصادية، تعبر عن فشل النظام السیاسي والاحزاب السياسية والحكومات، وهو بدوره يؤدي إلى زيادة عدم الثقة بالنخبة الحاكمة وأحزابها السياسية، وزيادة الهوة أو الفجوة بين المواطن والحكومة أو بين الحاكم والمحكوم؛ لهذا يكون الامتناع عن التصویت، وسیلتهم لإیصال مطالبهم، كسلوك سياسي ساخط على الفشل السياسي، وهذه الظاهرة أخذت ترتفع بشكل كبير عند فئة الشباب.
فضلاً عن ذلك، إذ يعاني العراق من ظاهرة الفساد المالي والإداري، ولاسيما بعد عام 2003، وتحولت هذه الظاهرة إلى بنية مؤسسية، تدار من أطراف واحزاب سياسية لها ارتباطات إقليمية ودولية، حتى أخذ العراق يحتل المراتب الأولى المتقدمة بالفساد والاختلاس وتبيض الاموال؛ مما انعكست سلبًا على خيارات الناخب العراقي ورغبته الانتخابية مع كل دورة انتخابية.
فضلاً عن ذلك، يمكن قراءة الاسباب الكامنة وراء العزوف الانتخابي لدى الناخب العراقي، بعدة مستويات، فقد تتعدد دوافع العزوف وأسبابه بتعدد دوافع المشاركة، وتكون القناعة بضرورة إثبات المواقف الشخصية أو الإحساس بواجب المواطنة أو الخضوع لإنتماء سياسي أو اجتماعي سببًا رئيسيًا للمشاركة، ولاسيما في حالة ترسخ ثقافة اللامبالاة بالشأن السياسي، إذ أصبح غالبية المجتمع العراقي ينظر إلى السياسة والعمل السياسي على أنه مرادف للفساد، ولم يعد يرى جدوى من ممارستها، أو أن يكون دوره مؤثرًا في تغيير معادلة الحكم أو إدارة الدولة؛ لهذا يعبر عنها بالمقاطعة مرة، وبرفضه لمراجعة تحديث سجل بياناته في سجل الناخبين مرة أخرى، رغم توفرهم على الشروط اللازمة لذلك.
وتتعدد مستويات العزوف الإنتخابي لدى الناخبين بعدة إشكال ومستويات: فهناك عــزوف مــوقـفـــــــــي، مبني ومؤسس وواعِ بأهدافه ومراهناته السياسية والاجتماعية، ويفترض أن يهم هذا النمط شرائح وفئات اجتماعية ممتلكة لأشكال متفاوتة –بالطبع في مضمونها ومعناها- من الحس السياسي أو الثقافة السياسية والاجتماعية الموجهة. على الرغم من أن هذا العزوف لا يمكن أن يغير شيء في معادلة الحكم وطريقة إدارة السلطة والنظام السياسي في العراق؛ لكون العملية الانتخابية في العراق أصبحت بمثابة (العملية الزبائنية)، فضًلا عن القوانين الانتخابية التي تجري بموجبها الانتخابات، وعدم وجود نسبة مئوية معتمدة دستوريًا للقبول بنتائج الانتخابات (كحد أدنى)؛ الأمر الذي يضمن وجود كل الاحزاب التقليدية في عملية تشكيل الحكومات.
كذلك هناك عــزوف نــاجـم عن بـدائــل استقطـــاب متـــعددة: مثل الانشغال بثقل أعباء اليوم وبعض أشكال التدين أو التصوف، أو تفضيل العمل الجمعوي والثقافي أو تعاطي المخدرات وارتياد المقاهي (الأنترنت) ونوادي الألعاب الرياضية أو الفنية أو الإلكترونية. كذلك هناك عــزوف مبـعثــه عــدة عـوامــل مـوضوعيــة: كالأمية والفقر المادي والمعنوي والعوائق الجغرافية، وكذلك طبيعة وأسلوب الإقتراع وما يرتبط به من تعقيدات أو مشكلات فنية تنظيمية وإدارية مختلفة، فقد لوحظ عدم توصل بعض الناخبين ببطائقهم الإنتخابية على سبيل المثال. فضلاً عن ذلك، هناك عــزوف لا مبــال ناتــج عن نفــور مجـانــي من المشـاركــة السياسيــة: إذ أن هناك العديد من المواطنين من الجنسين، ومن مختلف الشرائح والأجيال من لم يشارك طوال حياته في أي محطة انتخابية، كما لم يكن له أي اهتمام مباشر بالشأن السياسي أو الحزبي، إلا أن هذا النمط من العزوف له بواعثه السيكولوجية والسوسيولوجية التي تجعله، كغيره من أشكال السلوك السياسي والاجتماعي.
بالمجمل يبدو بأن الاسباب الاقتصادية والاجتماعية وما يتعلق بهما من مسببات، تعد أحد أهم دوافع العزوف الانتخابي وعائق كبير ضد التغيير السياسي والمشاركة السياسية، ولعل هذا الامتناع أو العزوف يصب في صالح القوى والأحزاب السياسية التقليدية الموجودة في دائرة الحكم وإدارة الدولة منذ عام 2003 وحتى الآن؛ الأمر الذي يدفعها إلى تعزيز موقفها السياسي وخلق حالة من الزبائنية السياسية والجماهيرية للحفاظ على مكاسبها السياسية والانتخابية مع كل دورة انتخابية (نيابية أو محلية)؛ الأمر الذي من شأنه أن يحافظ على الوضع السياسي القائم ونسبة المشاركة السياسية، بحيث لا تصل نسبة المشاركة إلى نسب متدنية جدًا، قد تحرج الدولة والقوى السياسية أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، ولا ترتفع إلى مستويات عالية من شأنها أن تحرج القوى السياسية التقليدية وتهدد وجودها السياسي ومكاسبها السياسية والاقتصادية التي بنتها خلال العشرين سنة الماضية.
اضف تعليق