وقد استطاع هذا الإعلام بنفس الوقت وكآلية استبدال في وسائل إدامة التضمين المأساوي للتاريخ والواقع اليهودي من نقل التوتر التاريخي والنفسي والديني من العلاقة مع أوربا الى العلاقة مع العرب ومحاولة استفزاز العالم كله تجاه العرب باعتبارهم المسؤولين عن ذلك الوله اليهودي بالعذابات والاضطهادات، تلك العذابات والاضطهادات التي...
تمتلك الصهيونية العالمية المال والإعلام على المستوى الدولي العام وهما من عناصر قوتها ونفوذها في العالم المعاصر، وقد تأسست فكرة المال في التراث اليهودي وفق معطيات الكتاب المقدس في فترة النفي اليهودي خارج أورشليم.
وفي نينوى كان طوبيا وهو من رؤساء اليهود يجمع المال في ايام السبي اليهودي في عهد الملك شلمانصر وابنه سنحاريب، وبواسطة هذا المال كان يعيل اليهود الأسرى بيد الكلدانيين.
جاء في سفر طوبيا (ثم إنه –طوبيا- قدم راجيس مدينة ماداي، وكان معه مما آثره به الملك عشرة قناطير من الفضة)61:1 وكان يقدم ذلك المال وفق التوراة الى بني جنسه من اليهود فقد (كان طوبيا يطوف كل يوم على جميع عشيرته ويعزيهم، ويؤاسي كل واحد من أمواله على قدر وسعه)19:1 و(يطعم الجياع، ويكسو العراة، ويدفن الموتى والقتلى بغيرة شديدة)20:1، ويبدو أنه جمع مالا كثيرا لفت انتباه اليهود الى أهمية المال في الحياة فقال في وصية له (ثم اعلم يا بني أني قد أعطيت وأنت صغير عشرة قناطير من الفضة لغابيلوس في راجيس مدينة الماديين ومعي بها صك)21:4، وهناك نص أخر في سفر طوبيا أن الملك يربعام ملك إسرائيل كان يملك عجولا ذهبية قبل السبي الكلداني لليهود.
لقد أرست تلك التجربة عند اليهود أهمية المال كأحد أهم أساليب الصراع من أجل البقاء واللجوء الى استغلاله في مواجهة الأمم والشعوب من الأغيار، لا سيما وأنهم يبتعدون دائما عن المواجهة المباشرة مع الأغيار الأعداء في نظرهم، وإذا كان تاريخهم القديم يشي بهذا المحور في عقيدتهم بالمال فإنهم في تاريخهم الحديث أضافوا إليه وباستغلاله بشكل مباشر قدرتهم وسطوتهم ونفوذهم في السلطة على الإعلام المرئي والمكتوب، مما أكسبهم قوة التأثير في الوقائع والأحداث الدولية والإقليمية إضافة الى تأثير هيمنتهم على مؤسسات المال الكبرى في القرارات الدولية النافذة بحق الدول والشعوب في العالم المعاصر.
فقد هيمنت الصهيونية العالمية على الوكالات الإخبارية العالمية وعلى الصحافة والنشر والتوزيع وامتدت سيطرتها على قنوات التلفزيون والإذاعة والسينما والمسرح، وأخطر امتدادات هذه الهيمنة هو تكريس مؤسسات الاستشراق بخدمة أفكارها وأهدافها.
فالاستشراق هو أحد أبرز مغذيات العقل الغربي وتشكيلاته الرئيسية وقد استطاع وبواسطة المؤسسات الثقافية والإعلامية أن يدرج كل تصورات الصهيونية حول العرب في المخيال الغربي وترسيخ افكاره كبديهيات مطلقة مما جعل انحياز الغرب دولا وحكومات وشعوبا الى جانب إسرائيل أمرا مسلما به.
وتتشكل الماكنة الإعلامية الصهيونية الدولية من خمس إمبراطوريات إعلامية كبرى ناهيك عن مؤسسات ووكالات دولية وإقليمية أخرى وثانوية وإمبراطوريات الإعلام الصهيوني هذه:
1- شركة “أميركا أون لاين” أكبر إمبراطورية إعلامية أميركية في الوقت الحاضر وبواسطتها تمت السيطرة الصهيونية على شبكة الإنترنيت في أميركا حيث تعتبر شركة “أميركا أون لاين” أكبر مجهز لخدمة الإنترنت في الولايات المتحدة، بل في أميركا الشمالية عموماً.
2- شركة "والت ديزني" وقد بلغت وارداتها عام 1997 ثلاثة وعشرين مليار دولار ورئيسها وكبير مديريها التنفيذيين هو اليهودي مايكل أيزنر، وتتبع شركة “ديزني” مجموعة من الشركات المتخصصة بالإنتاج التلفزيوني مثل “والت ديزني تيليفجن”، و”تاتشستون تيليفجن”، و”بوينا فيستا تيليفجن”، بالإضافة إلى شبكات الكيبل التي بلغ مشتركوها أكثر من مئة مليون مشترك، وتشمل هيمنة "والت ديزني" على عدة شركات للأفلام السينمائية يمتلكها يهود أيضا.
3- مجموعة “فياكوم” التي يترأسها ويملك 76 بالمئة من أسهمها اليهودي سومنر ريدستون وتمتلك هذه المجموعة 13 قناة تلفزيونية و 12 محطة إذاعية وتنتج برامج تلفزيونية للشركات الأخرى، وتضم الشركة أقساما للنشر والتوزيع.
4- مؤسسة يملكها ويديرها اليهودي "الابن" إدغار وهذا هو ابن رئيس المؤتمر اليهودي العالمي إدغار برونفمان "الأب" ويمتلك الابن شركتي إنتاج ضخمتين هما (إم سي إيه)، و(يونيفرسال بيكتشرز) وقد اندمجتا الآن تحت اسم (يونيفرسال ستوديوز) وهما شركات إنتاج يملكهما اليهودي إدغار برونفمان. وقام سنة 1998 بشراء شركة (بوليغرام)عملاقة التسجيلات الأوروبية بعدما دفع 6,10 مليار دولار لشركة الإلكترونيات الهولندية (فيليبس).
5- مجموعة شركات (فوكس) (تيليفجن نيتوورك) و(توينتيث سينتشري فيلمز) و(فوكس 2000) ويمتلكها اليهودي (روبرت مردوخ) وتعتبر أضخم إمبراطورية إعلامية في العالم المعاصر وتشرف مجموعة (فوكس) على كل الأنشطة السينمائية والتلفزيونية والخاصة بالنشر في الولايات المتحدة، والمعروف عن شركة "فوكس نيوز” الإخبارية مناصرتها المطلقة لإسرائيل وعدائها الشديد للقضية الفلسطينية، وغيرها من التكتلات الإعلامية الأشهر في العالم.
وفي المتابعة التحليلية للخطاب الإعلامي اليهودي – الصهيوني نلاحظ دائما التضمين المأساوي للتاريخ اليهودي واستجداء التعاطف الوجداني مع القضية اليهودية عبر التاريخ من خلال استدرار الدموع والتباكي المصطنع مع كل حديث إعلامي عن مأساة اليهود، وقد تمكن هذا الخطاب من حفر ندوب راسخة في المخيال الغربي شكلت بمرور الأيام والبث الدعائي عقدة الضمير الأوربي في الشعور بالذنب تجاه اليهود، وكانت محرقة الهولوكوست وروايات التاريخ اليهودي في وقائع الاضطهاد والمبالغ بها في كثير من الأحيان مادة ذلك التضمين الإعلامي الذي كرسته وبثته وسائل وإمبراطوريات الإعلام الصهيوني، وقد استطاع ذلك الإعلام من إزاحة التوتر التاريخي والنفسي وحتى الديني بين الغرب واليهودية ومحو كل بقايا الاضطهاد اليهودي من الذاكرة الأوربية الحديثة، وصنع هذا الإعلام أيضا أواصر من الانتماء الى الغرب وانسجامه والتركيبة الأوربية الحديثة عبر مفهوم المسيحية–اليهودية وعبر انتماءات الحداثة وشعاراتها في الديمقراطية وحقوق الإنسان والأهم من ذلك عبر انصهار أوربا والولايات المتحدة في الرأسماليات اليهودية المهيمنة على الغرب وأميركا والعالم.
وقد استطاع هذا الإعلام بنفس الوقت وكآلية استبدال في وسائل إدامة التضمين المأساوي للتاريخ والواقع اليهودي من نقل التوتر التاريخي والنفسي والديني من العلاقة مع أوربا الى العلاقة مع العرب ومحاولة استفزاز العالم كله تجاه العرب باعتبارهم المسؤولين عن ذلك الوله اليهودي بالعذابات والاضطهادات، تلك العذابات والاضطهادات التي تشكل أهم مغذيات التركيبة النفسية المتوترة دائما للشخصية اليهودية.
لقد وُضع العرب دائما وبتأثير إمبراطوريات الإعلام الصهيوني وأثار الاستشراق الاستعماري في دائرة الشعوب غير المقبولة حضاريا واجتماعيا وثقافيا وحتى دينيا في الذاكرة الأوربية الحديثة ومحاولة تسويقها عالميا الى شعوب وثقافات العالم المعاصر.
وقد بدت تلك السياسة الإعلامية اليهودية-الصهيونية واضحة بخطوطها الرئيسية والعامة في تصوير أحداث ووقائع العملية الفلسطينية الأخيرة والتي أطلق عليها الفلسطينيون (طوفان الأقصى)، فقد تم تصوير العرب بالوحوش والبرابرة في خطابات القادة الإسرائيليين والقادة الأميركيين وفي لقاءاتهم الصحفية، فقد تحولت تلك اللقاءات والخطابات التعبوية في محاضر دوائرهم الرسمية تحولت الى تدبيج التضمين المأساوي للقضية اليهودية في قبالة الوحشية الفلسطينية والعربية وعلى غرار البرامج الإعلامية اليهودية الخاصة بالشرق الأوسط وقضيته المركزية فلسطين والأقصى.
فقد تحدث الرئيس بايدن عن أعمال وتصرفات بربرية نسبها الى المقاومة الفلسطينية وشنّع عليها قيامها باغتصاب النساء وقتل الأطفال بطريقة الذبح الداعشي وإحراق الأسرى اليهود ودون مستندات حقيقية أو أدلة جنائية أو جرمية ينبني عليها حكم رئيس أقوى دولة في العالم تتبنى أحكام وقرارات المجتمع الدولي كما تروج أو تصدر نفسها في العالم، وفي استعادة الذاكرة المأساوية المصنوعة توراتيا ومن ثم صهيونيا ومحاولة توجيهها وتوظيفها في الحدث الأخير في عملية طوفان الأقصى تحدث بايدن في خطابه الأخير بتاريخ 10/10/2023م قائلا (هناك لحظات في هذه الحياة – وأنا أعني هذا حرفيًا – يُطلق فيها العنان للشر الخالص المحض على هذا العالم لقد عاش شعب إسرائيل إحدى هذه اللحظات في نهاية هذا الأسبوع على أيدي منظمة حماس الإرهابية الملطخة بالدماء – وهي جماعة هدفها المعلن هو قتل اليهود) وقال أيضا (ذُبح أكثر من ألف مدني – ليس مجرد قتل، بل ذُبحوا – في إسرائيل. من بينهم ما لا يقل عن 14 مواطنا أميركيا قتلوا ذُبح آباء وهم يستخدمون أجسادهم في محاولة لحماية أطفالهم، تقارير تبعث على الغثيان عن أطفال يُقتلون)، وذكر بايدن وكأنه مراسل صحفي يعمل على تدبيج الأخبار دون التأكد منها قائلا (عائلات بأكملها قُتلت ذُبح شباب أثناء حضورهم مهرجانا موسيقيا للاحتفال بالسلام – للاحتفال بالسلام اغتُصبت نساء واعتدي عليهن وتم الاستعراض بهن كجوائز تذكارية).. وهكذا يتم تشغيل آليات المواجهة اليهودية والصهيونية والقائمة على التضمين المأساوي للقضية اليهودية تجاه التحديات السياسية والحقوقية التي ينادي ويطالب بها شعب فلسطين..
وفي تكرار ذلك الأسلوب الإعلامي المراوغ بدا وزير خارجية الولايات المتحدة متقمصا للشخصية اليهودية وبصيغتها المأساوية في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نتنياهو في تل أبيب بتاريخ 11/10/2023م فقد كشف عن يهوديته العرقية قبل تمثيله دولته كوزير للخارجية فيها وفي هذا خروج غير مألوف على الدبلوماسية الدولية وبصيغة بكائية ومأساوية تحدث عن أسلافه اليهود الناجين من الاضطهاد ومن محرقة الهولوكوست، وقد اكتملت تلك البكائية المصطنعة بحديث بلنكن عن ذبح الأطفال وقتلهم أمام أهاليهم وقتل النساء واغتصاب الفتيات وتقطيع وحرق الأجساد وهو ذاته التضمين المأساوي الذي درج عليه الإعلام اليهودي الصهيوني، وقد أثار ذلك الكلام سؤال بعض الصحفيين عن أدلته ومشاهداته في تلك الوقائع فأدعى مشاهدتها دون دليل وقد أضطره ذلك السؤال الى إنهاء المؤتمر الصحفي.
وفي طريقة تكرارية ومشهدية تحاول أن تكون مؤثرة في الداخل الإسرائيلي وفي الخارج الأوربي لجأ رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو الى ذات الإلقاء الإعلامي التمثيلي، لقد بدا نتياهو متباكيا حزينا متأثرا جدا بمشاهد قتل الأهالي أمام أبناءهم وقتل الأطفال أمام أهليهم كما يزعم وفيها دلالة يحملها نتنياهو وفق قوله على عداء المدنية والحضارة لاسيما باحتفاء المقاومين بمشاهد قطع الرؤوس وحرق الأجسام وتقطيعها وإحراق الناس وهم أحياء دون أي دليل بتقرير أو تصوير في إدعاءاته، ولكنها الماكنة الإعلامية الصهيونية وقبلها التوراتية التي حفرت تلك المشاعر والأحاسيس الموهومة في اللاوعي اليهودي الذي ما أن يواجه التحديات التاريخية والسياسية ولاسيما العسكرية حتى يستحضر التضمينات المأساوية والبكائية التوراتية والصهيونية..
اضف تعليق