طوفان الأقصى مثلت ضربة تاريخية لبنية النظام الاستخباراتي والعسكري والسياسي الإسرائيلي الذي فشل بشكل لا تخطئه عين الخبير والمواطن البسيط، بينما أذهل الفلسطينيون العالم بقدرتهم على التخطيط والتنفيذ بسرية قد تكون في يوم ما درساً في الحرب وأساليب استعادة الحقوق المسلوبة...
اندلعت عملية طوفان الأقصى صباح السبت السابع من تشرين الأول 2023، وهي أكبر عملية اجتياج فلسطيني للمستوطنات الإسرائيلية الواقعة في منطقة ما يسمى بغلاف غزة.
طوفان الأقصى مثلت ضربة تاريخية لبنية النظام الاستخباراتي والعسكري والسياسي الإسرائيلي الذي فشل بشكل لا تخطئه عين الخبير والمواطن البسيط، بينما أذهل الفلسطينيون العالم بقدرتهم على التخطيط والتنفيذ بسرية قد تكون في يوم ما درساً في الحرب وأساليب استعادة الحقوق المسلوبة.
وبعد العملية الفلسطينية بساعات قليلة، اشتغلت ماكينة الدعاية الاسرائيلية من أجل تلافي الفضيحة، فركزت على تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية وهي:
أولاً: رفع الروح المعنوية للمؤيدين والمستوطنين في الداخل
وهذا ما تحاول أن تعمل عليه إسرائيل لكنها فشلت به لحد الآن بسبب هول الصدمة من عملية طوفان الاقصى.
وفي هذا السياق كتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي رسالة للمستوطنين الإسرائيليين من أجل رفع الروح المعنوية لهم قائلاً: شعب إسرائيل حي وسينتصر، وأرفقها بفيديو يؤكد فيه أن إسرائيل سوف تنتصر وسوف نلقن حركة حماس درساً وستدفع ثمناً باهظاً، وشدد على أن إسرائيل سوف تنتصر عسكرياً وإعلامياً مهما حاول الفلسطينيون وجندوا كل الطاقات.
ثانياً: تحطيم الروح المعنوية للفلسطينيين ومناصريهم من العرب
وهو ما تعمل عليه اسرائيل عبر بث الرعب، وتأكيدها على إنزال عقاب شديد بالقصف الممنهج ضد المدنيين، فضلاً عن التذكير بأن إسرائيل دائماً ما كانت تنتصر ضد الفلسطينيين.
تأكيداً لهذا الهدف الدعائي والنفسي كتب أدرعي مجدداً تهديداً قصيراً عبر تطبيق أكس (تويتر سابقاً) هذا نصه: رسالة الى سكان قطاع غزة وخاصة حي الدرج عليكم التوجه الى المآوي أو الى مركز مدينة غزة حالًا.
كما كتب تغريدة سابقة بقوله: حماس فتحت أبواب الجحيم على قطاع غزة.
بينما نشر الباحث الإسرائيلي في مركز بيغن السادات إيدي كوهين خبراً مفاده أن اسرائيل ابلغت الفرنسيين والامريكيين: "اذا اعتدى حزب الله على حدودنا سنسوي بيروت بالارض".
ورسائل أخرى لا يتسع المقال لذكرها تركز على خلق حالة من الرعب والخوف لدى الشعب الفلسطيني، ومن يناصرهم.
ثالثاً: تحييد أو كسب المحايدين
تحاول إسرائيل الإستفادة من سذاجة أو عمالة بعض العرب، ومن الملاحظ اليوم أننا بدأنا نشاهد باستغراب معسكراً من المحايدين العراقيين والعرب يتحدث بأساليب شتى لنقد العمليات الفلسطينية من جهة، أو تأييد الخطاب الدعائي الإسرائيلي بشكل مباشر وغير مباشر من جهة أخرى.
في هذا السياق تؤكد السردية الإسرائيلية على أن الحرب التي تقوم بها الفصائل الفلسطينية عبثية لا فائدة منها سوى مزيد من القتل والتشريد للشعب الفلسطيني ومزيد من قضم الأراضي لصالح إسرائيل، فيعود إيدي كوهين ليكتب عبر منصة أكس أن إسرائيل قتلت 350 فلسطيني في غزة وحوالي الفين جريح، بينما بيوت زعماء حماس (جميعهم عندهم مسبح خاص) دمرت تماماً.
كوهين يقول إن فلسطين لم ولن تحرر...حقيقة
ثم يتبعها بالقول: مو حرام هذا الدم؟ لماذا هذا العبث؟؟
إمكانية نجاح الدعاية الإسرائيلية
الهدفين الأول والثاني لا يمكن تحقيقهما إسرائيلياً لحد هذه اللحظة بسبب هول الصدمة التي لم يستفق منها العالم، لأن غالبية الصحف العالمية غطت أغلفتها بصور من الاجتياح الفلسطيني للمناطق المحتلة قرب قطاع غزة، حتى أن الحرب في أوكرانيا تدحرجت إلى الصفحات الثانوية للصحف، بينما الأخبار العاجلة في المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل لا تأتي إلا بجديد الصواريخ الفلسطينية وصفارات الإنذار الإسرائيلية.
فإذا ما انتقلنا من الخطاب الرسمي الذي يبثه كوهين وأدرعي ورفاقهم، فإن الصحافة الإسرائيلية والغربية كانت قاسية ضد الأجهزة الرسمية، إذ وصف أهم محلّلي صحيفة "معاريف" بن كسبيت يقول: "أمس، تعرّضت إسرائيل لمفاجأة استراتيجية بحجم حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر عام 1973)، ولكن أكثر إذلالاً. في حينه كانت هناك دولتان مستقلتان مع جيشين نظاميين عظيمين، آلاف الدبابات، سلاحا جو، استخبارات ودعم من القوى العظمى، أما اليوم، فالحديث يدور عن منظمة نعرّفها كتافهة، بدون سلاح جو، بدون مدرّعات، بدون بنى تحتية، محاصرة ومعزولة أمام آلة الاستخبارت والإحباط الأكثر تطورا في العالم، وبعد كل ذلك، هي التي انتصرت.
يستمر بن كسبيت بوصف هول ما حدث: في عالم الرياضة، كان يتعيّن على حماس أن تعتزل ليلة أمس (السبت) فأعلى من هذه الذروة ما كانت لتصل، بحثوا عن صورة انتصار فوجدوا ألبوما كاملاً، أنزلوا قوة عظمى على الركبتين، وذهلوا أنفسهم من حجم نجاحهم، قبل نحو ثلاثة سنوات جلست في إحاطة عميقة لدى أحد أكبر رجالات جهاز الأمن، مسؤول عن لجم وإحباط وتصفية حماس، قال لي: "هذه هي المنظمة الأكثر جديّة". "هُم أكثر تصميما من حزب الله. هُم شجعان، هم ليسوا إمّعات، يعرفون ما يفعلون، محظور الاستخفاف بهم، يوجد لهم صبر، هم لا ييأسون، هم يستغلون الفرص، ويمكن أن يكونوا خطرين جدا".
من هذا الخطاب الصحفي يمكن أن نفهم رؤية الداخل الإسرائيلي لذاته، فهو يشعر بالذل والإهانة، وهذا الإنكسار لا يمكن إصلاحه بتغريدات لمتحدث عسكري، ولا غارات غالبية قتلاها من المدنيين الأطفال والنساء.
إسرائيل تعيش في نكسة حتى وإن استطاع جيشها محور قطاع غزة من الوجود خلال الأسابيع المقبلة، لأن عملية طوفان الأقصى ستجعلهم مضطربين نفسياً حتى وإن كانوا في أوج قوتهم، ولن يأمنوا في محيط فلسطيني وعربي لا يملك الإمكانات التقنية المتقدمة، لكنه يملك بعض المنظمات القادرة على إرباك الأوضاع الداخلية كل ثلاث أو أربع سنوات، فهل تستطيع دولة أن تقول بأنها مستقرة داخلياً، لا سيما وأن الخلافات الداخلية التي سبقت طوفان الأقصى أكبر من أن يحجبها الخطاب الإعلامي والدعائي الأجوف.
يبقى المحور الثالث الذي تستطيع إسرائيل أن تحقق نجاحاً فيه من خلال المعسكر العربي الخائف من اندلاع حرب هي في الأصل مستمرة منذ عام 1948 وحتى هذه اللحظة، إنه معسكر التطبيع مع إسرائيل، فقد طبع السادات لوقف الحرب ولم تتوقف، وطبعت الأردن والبحرين والإمارات وعلى الطريق السعودية، ولم تتوقف آلة القتل الإسرائيلية عن حصد أرواح الفلسطينيين مسلحين وغير مسلحين.
يزعم معسكر السلام وقف نزيف القتل بينما القتل مستمر، سواء توقفت الحرب أم لا، لذلك من الواجب أن لا نكون وقوداً لحرق مزيد من الأراضي الفلسطينية، فكل كلمة نسمعها في الخطاب الدعائي عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تمثل جرحاً أو ضمادة لأحد طرفي الصراع، فهل نريد جرء الفلسطيني أم تضميد جرائحه، بغض النظر عن كل شيء وكل خلاف سياسي أو اجتماعي أو ديني، لأنهم ووفق قواعد القانون الدولي أصحاب أرض اغتصبها المستوطنون وهم يحاولون استعادتها وبما يضمنه ميثاق الأمم المتحدة لتقرير المصير.
اضف تعليق