معظم الناس عاشوا عالم الدراسة في المرحلة الابتدائية، وهم يتذكرون بشكل أو آخر بعض أو كل ما كان يدور في هذا العالم الحيوي الجديد، عالم واسع ومنفتح على آفاق تفوق حجم البيت وعالمه الصغير، إنك في المدرسة الابتدائية تلتقي بعشرات الطلاب في صفّك، ومئات الطلاب في فناء المدرسة...
معظم الناس عاشوا عالم الدراسة في المرحلة الابتدائية، وهم يتذكرون بشكل أو آخر بعض أو كل ما كان يدور في هذا العالم الحيوي الجديد، عالم واسع ومنفتح على آفاق تفوق حجم البيت وعالمه الصغير، إنك في المدرسة الابتدائية تلتقي بعشرات الطلاب في صفّك، ومئات الطلاب في فناء المدرسة، فجأة تنتقل من بيتك وعائلتك التي تتكون من ثلاث أفراد إلى ستة أو سبعة أو ثمانية في أعلى الاحتمالات، إلى عالم آخر يضج بالأطفال الذين يتنافسون معك على كل شيء، فتبدأ تلك المقارنة بين شخصك وبينهم، بين قيمتك وقيمتهم، بين مقدارك ومقدارهم، بين مواهبك ومواهبهم، وفي أحيان معينة تشتعل غيرة لا يُعرَف مصدرها في الصدور لأن فلانا فاز بشارة فارس الصف أو بالقدوة، لماذا أنا لم أفز بها، العيون كلها تتوجه إلى الفائز، عشرات الأنظار تتوجه إليه بعضها يُطلِق الخير والفرج، وبعضها حيادي لا يفرح ولا يحزن ولا يشعر بروح التنافس، أما بعضها الآخر فهو الأخطر لأنه يُطلق الحسد الذي قد يصل أحيانا إلى درجة الكراهية، وهذا ما حدث معي حين حصلت على شارة (فارس الصف) في الصف الثالث الابتدائي، وأتذكر حتى اللحظة كيف غمرتني سعادة من نوع خاص، وفرح طار بي عاليا كأنّ له أجنحة حلّقت بي في فضاء الصف، فرح لا يمكن وصفه، وفي تلك اللحظات بانت العيون والنفوس على حقيقتها، حتى الأطفال يغارون من بعضهم، العينان الوحيدات اللتان رأيت فيهما الفرح النقي والسعادة البريئة هما عينا (حسنين) وهو الصديق الأول لي في هذه الحياة، من حيث تسلسل الأصدقاء، حسنين صديق الابتدائية الذي لن أنساه طالما بقيت على قيد الحياة.
أحد الطلاب الحاسدين بدأ يعبر عن كراهيته بصورة سرية عنيفة، حيث كنتُ أفقد يوميا أثناء الدوام في المدرسة أحد كتبي أو قلمي أو حتى الطعام القليل الذي تضعه لي أمي في جيب الحقيبة كي أتناوله في الفرصة ما بين الدروس مع صديقي حسنين، في البداية لم أخبر أحدا بما حدث من سرقات، لكنني أخبرت أمي فضاعفت الطعام وبدلا من بيضة مسلوقة واحدة بدأت تضع بيضتين مسلوقتين ورغيفيّ خبز، وحين نقرر تناول الأكل أفتح جيب حقيبتي فأجده فارغا، أشعرُ بالقهر والغبن وأكتم في نفسي، لأنني كنت أشعر من المعيب أن أشكو الطلاب بسبب فقدان أكلي لكن حين وصل الأمر إلى سرقة الكتب، أخبرتُ حسنين والغصة تملأ صدري، هوّن عليّ الأمر وقال كلماته الغريبة الواثقة التي لا تتناسب مع عمره، اصبر سوف نعرف اليد التي تمتد إلى طعامنا....
أتذكّرُ حتى هذه اللحظة صديقي الأول (حسنين)، ذلك الطفل الذي تقاسمتُ معه مقعد الدراسة الابتدائية لخمس سنوات متتالية، بدأتْ صداقتنا في الصف الأول الابتدائي، كان عمرهُ وعمري (7 سبع سنوات)، وبقينا معا جنبا إلى جنب في السنوات اللاحقة، حتى الصف الخامس، بعدها رحل من عالمي بطريقة غامضة.
بعد يومين من حدوث سرقة الأكل، دخلتُ الصف مع انتهاء الفرصة، فرأيت يد تمتد إلى جيب حقيبتي، أخفيت جسدي حتى لا أصدم الطالب السارق، لكنني عرفته، وحين أخبرت صديقي حسنين به، قال لي: لقد عرفته هو السارق منذ يوم أمس لكنني قررت أن لا أخبرك لأن أمي أوصتني أن لا أفضح الناس، لكنني قررت أن أخبرك دون أن أذكر أسم السارق.
حسنين طفل وإنسان لا يشبه الآخرين، أتذكّر حتى اللحظة صفاته التي ألهمتني وعلمتني الصداقة الصادقة، في شخصيته تجد الذكاء والفقر يجتمعان بشكل غريب، وتجد الحنان الذي يشبه حنان الأمهات، تجد الأمان أيضا بالقرب منه، والصديق الذي يُشعرك بالأمان يجب أن لا تبتعد عنه مطلقا، بل عليك أن تحرص عليه كأنك تحرص على نفسك، وهذا ما فعلته بالضبط كل تلك السنوات التي قضيناها معا في الدراسة الابتدائية.
لم يخطر في بالي أنني سأفقده في لحظة غير محسوبة، لكن حينما غاب فجأ’ عرفت أن هذه الدنيا لا أمان لها مطلقا، حسنين الذي أظهر الحرص على مصلحتي دائما، شبَّ على هذا السلوك، الصدق في الصداقة، ودعم الصديق والدفاع عنه، والتضحية من أجله، أتذكّر في إحدى المرات أنني نسيت أجلب الطعام معي إلى المدرسة، كانت أمي رحمها الله تضع لي كالعادة، في جيب الحقيبة (لفافة بيض مسلوق)، في أحد الصباحات لم تقمْ بذلك، ربما لأن البيت كان يخلو من البيض، أنا كنتُ معتادا على تناول لفافة البيض في الفرصة بين الدرسين الثالث والرابع، وكان حسنين يجلب معه لفافته أيضا، كنّا نتناول طعامنا معا، أأكلُ من لفافته ويأكل من لفافتي، كان عالمنا بريئا صادقا خاليا من الخديعة بكل أشكالها.
في ذلك اليوم حين حانت الفرصة بين الدرسين الثالث والرابع، قررنا أنا وحسنين أن نتناول طعامنا، فتحتُ جيب الحقيبة فلمْ أجد شيئا فيها، صُدمتُ وكدتُ أبكي، مدَّ حسنين يده إلى حقيبته ولم يجد لفافته أيضا، لم يكن معنا فلوساً كي نشتري من الحانوت المدرسي، هيمنَ علينا الحزن والصمت وازداد الجوع أضعافاً. إلى الآن لا زلت أتذكر وجه حسنين الحنون وهو يعتذر لي عن هذا الحدث، ويعدْني بأن ما جرى لن يتكرر، ويهدّئ من حزني ونقمتي ويقلل من إحباطي، مرّت سنوات طويلة على هذا الموقف الذي حفرَ تفاصيله حفراً في ذاكرتي، كان الطلاب الآخرون يأكلون لفافاتهم بنهم، وهناك من يشتري بكثرة من الحانوت المدرسي، أنا وحسنين الوحيدان اللذان بقيْنا نتضوّر جوعا.
تكرّر هذه المشهد أكثر من مرة، فرغم أنني كنتُ أضع اللفافة في جيب الحقيبة وأتأكدُ من ذلك بنفسي، لكن حين تحلّ الفرصة بين الدرسين الثالث والرابع، أفتح جيب الحقيبة فلا أجد لُفافتي، وكذلك يحصل مع صديقي حسنين، وحين اشتكينا الأمر إلى المعلم جلب لنا طعاما بنفسه وعلى نفقته من الحانوت المدرسي، لكنّ الفقدان لم يتوقف على الطعام، بدأت بعض كتبي المدرسية تختفي من الحقيبة، كذلك حصل هذا مع حسنين حيث توصلنا إلى من كان (يسرق طعامنا وكتبنا وحتى أقلامنا)....
أتذكر ما قاله لي حسنين عن سبب السرقة التي نتعرض لها، قال: أتعلم لماذا يسرقوننا؟، وأكمل كلامه (لأننا أذكياء)، فالذكاء يثير حفيظة الآخرين ويدفعهم لإلحاق الأذى بك.
عرفتُ من صديقي حسنين الطالب الذي كان يسرقنا، ولم أخبره بأنني عرفته قبل أن يعرفه هو لكنني أخفيت اسمه عن حسنين وهو في نفس الوقت أخفاه عني، لكن بعد مرور شهور حين بلغنا نهاية السنة الدراسية أخبرني بذلك، وقلت له أنا أيضا عرفته ولم أخبرك به.
في السنة الابتدائية الأخيرة، غاب حسنين، لم يعدْ إلى المدرسة بعد انقضاء العطلة، ربما مات، أو انتقلت أسرتهُ إلى مدينة أخرى أو بلد آخر، كل ما أعرفه أننا حين افترقنا في بداية العطلة الصيفية بين الصفين الخامس والسادس، لم نلتقِ بعدها قطّ، ولا أعرف السبب، شعرتُ في حينها أنني فقدتُ أول وأهمّ صديق صدوق.
اضف تعليق