بطلان قانون تصديق هذه المعاهدة لا يشمل بطلان ترسيم الحدود التي رسمتها الامم المتحدة، ولم تكن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، هي من اعترفت بتلك الحدود، فالبطلان شمل التصديق للاتفاقية وبالتالي الغاء التنظيم الاداري للملاحة المشتركة، وليس بطلان الحدود المشتركة، وهذا لا يلغي الواقع القانوني الدولي...
ابطلت المحكمة الاتحادية العليا في العراق المصادقة على اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله المشرعة بموجب قانون رقم (٤٢) لسنة ٢٠١٣، بعد الطعن امام المحكمة من قبل بعض اعضاء مجلس النواب الحالي، وجاء قرار الالغاء ذي العدد 105 وموحدتها 194/اتحادية/2023، مستندا لأحكام المادة ٦١ رابعا من الدستور العراقي النافذ، التي حددت تنظيم المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية بقانون يسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب، وهذا لم يحصل بل تم التصويت على الاتفاقية بموجب اغلبية النصف زائد واحد، كما ذهب قرار المحكمة الاتحادية الى تجريم انتهاك الدستور واعتبرته بمثابة خيانة عظمى، واشار القرار الى مطلع الدستور في حفظ حقوق العراق وتاريخه وسيادته واراضيه واولوية وعلوية الدستور على القوانين الفرعية والمحلية.
حقيقة عند التمعن والنظر بقرار المحكمة الاتحادية لا نجده قد الغى قرارات ترسيم الحدود بين الدولتين او عدم اعتراف العراق بالحدود المرسومة بينه وبين الكويت في خور عبد الله التي رسمتها لجنة الامم المتحدة المكلفة بإعادة ترسيم الحدود بين البلدين والمشكلة بقرار مجلس الامن رقم 687 لسنة 1991، اذ لم يتعرض قرار المحكمة اصلاً لموضوع الحدود البحرية في خور عبد الله والمرسومة بقرار مجلس الامن رقم 833 لسنة 1993 من قبل لجنة الامم المتحدة المشكلة لهذا الغرض، اذ ان الاساس القانوني لاعتراف العراق بترسيم الحدود بين الدولتين كان بموجب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 200 لسنة 1994 والمنشور في جريدة الوقائع العراقية رقم 3537 في 10/11/1994 الساري المفعول الذي امتثل العراق بموجبه لقرار مجلس الامن اعلاه، وبالتالي فإن العراق لا زال معترفا بالتنازلات الحاصلة في ملف الحدود لصالح الكويت ومن ضمنها حدود خور عبد الله، وفق قرار مجلس قيادة الثورة المنحل اعلاه، واستنادا الى القرارات الشرعية الدولية التي ارغمت العراق على هذا الاعتراف.
بالنتيجة ان بطلان قانون تصديق هذه المعاهدة لا يشمل بطلان ترسيم الحدود التي رسمتها الامم المتحدة، ولم تكن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، هي من اعترفت بتلك الحدود، فالبطلان شمل التصديق للاتفاقية وبالتالي الغاء التنظيم الاداري للملاحة المشتركة، وليس بطلان الحدود المشتركة، وهذا لا يلغي الواقع القانوني الدولي الذي جعل من خور عبد الله، ممر بحري مشترك بين العراق والكويت.
ان اساس الاشكال الوارد في اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله ناتج عن تكريس واعتراف حكومي نيابي بالقرارات الدولية المجحفة لحقوق العراق البحرية، في حين كان ينتظر من الجانب العراقي الاحتجاج على هذه القرارات والتقاضي بشأنها لأنها مثلت حقبة سياسية لا تمثل الواقع السياسي والدولي لعراق ما بعد ٢٠٠٣.
وبالتالي فإن تفعيل هذه الاتفاقية يعني الرضوخ للأمر الواقع بتحويل خور عبد الله من منطقة بحرية عراقية خالصة لأكثر من مائة عام الى منطقة بحرية مشتركة بينه وبين الكويت، مع اعطاء افضلية للجانب الكويتي في التحكم بالملاحة في هذا الخور في حال تشغيل ميناء مبارك الكبير الذي سيخنق المنفذ البحري الوحيد للعراق المطل على منطقة الخليج ويجعل الاطلالة البحرية الكويتية تسيطر على خور عبد الله وادارة هذا الممر المائي وستتحكم الكويت في تعيين الحدود البحرية مع العراق، ويجعل حركة السفن والنقل والصيد بفعل المغلقة ولصالح الجانب الكويتي، خاصة ان العراق لا يمتلك اطلالة بحرية واسعة كما تمتلك الكويت، اذ لا تتعدى ٣٦ ميل بحري، مقابل ١٢٥ ميلا بحريا للكويت، كما ان هذه الاطلالة مياهها ضحلة غير صالحة للملاحة، وغير عميقة لا توجد فيها ثروات حية.
كان حري بالفاعل السياسي العراقي الاحتجاج على انشاء ميناء مبارك الكبير والتحفظ عليه واستخدامه اداة مهمة للتقاضي امام المحكمة الدولية لقانون البحار، لكن بموجب اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله اصبح هذا الامر منتهيا وتحول العراق الى دولة قارية شبه مغلقة لا يمتلك اي منفذ بحري واسع، خاصة ما ترسخ في المادة (٣) من هذه الاتفاقية التي نصت ان السفن الاجنبية الداخلة الى الخور تقوم برفع علم جنسيتها فقط، دون رفع للعلم العراقي او الكويتي، وبما ان هذا الممر هو الوحيد الذي تمر فيه السفن الداخلة للعراق فلن ترفع اي سفينة العلم العراقي كما كان في السابق وسيخسر العراق اجور الارشاد البحري والخدمات الاخرى اضافة الى المسائل الرمزية والسيادية والقانونية المتعلقة بهذا الموضوع، في حين ان هذه السفن التي ستدخل للكويت سترفع العلم الكويتي لأنها لن تمر من خلال ممر خور عبد الله؛ لان الكويت تمتلك غاطس بحري عميق يسمح للسفن والبواخر المرور والدخول للموانئ الكويتية من اماكن وجهات اخرى، وبالتالي سيكون للكويت حق المشاركة في استحصال اجور الارشاد الملاحي والخدمات الاخرى بموجب المادة (١٠) من الاتفاقية بين الطرفين.
في حين وفقا لقواعد القانون الدولي وبموجب اتفاقية الامم المتحدة لأعالي البحار عام ١٩٨٢ والتي عدت العراق من الدول المتضررة جغرافيا، الامر الذي ادى الى تكدس الموانئ العراقية في منطقة محدودة وضيقة، ألزمت الامم المتحدة الكويت ان يسمح للعراق بمرور السفن الذاهبة الى موانئه في شمال خور عبد الله في المياه الاقليمية الكويتية دون ان يلزم العراق برفع العلم الكويتي او دفع الرسوم، وصولا الى ميناء ام قصر وخور الزبير.
وفقا لأعلاه فإن الاستفادة من خور عبد الله كممر ملاحي يجب ان يقتصر على العراق كما كان سابقا لان الكويت لا تحتاجه اساسا لوجود بدائل بحرية وموانئ بحرية، ويبدو ان انشاء ميناء مبارك والالحاح على وجود اتفاق لتنظيم الملاحة البحرية في خور عبد الله يفسر ان الدوافع سياسية اكثر منها اقتصادية؛ خاصة انه حتى منطقة الصيد الكويتية في الخور لا تستخدم من قبلها وكانت سابقا منطقة صيد عراقية خالصة، وبالمقابل تقوم الكويت باعتقال الصيادين العراقيين وفقا للقانون الكويتي عن دخولهم للاستفادة من الثروات السمكية الحية المتروكة في هذه المنطقة.
ان الاثار والتداعيات الناشئة عن اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية بين العراق والكويت مضرة بالعراق وتكرس الواقع السياسي والدبلوماسي الضعيف للعراق الذي يجسد جملة من التنازلات الممنوحة للكويت دون وجه حق او مقابل وتبدو غامضة، ولهذا يجب ان يلغي البرلمان الحالي هذه الاتفاقية بالكامل، وكان هنالك قرار سابق عام ٢٠١٧ حول هذا الالغاء برلمانيا لكنه لم يفعل، وعلى الجانب العراقي التقاضي وفق قواعد القانون الدولي لحماية حقوقه البحرية والملاحية بغض النظر عن القرارات الدولية المقيدة للعراق خارج اتفاقية اعالي البحار لعام ١٩٨٢.
اضف تعليق