وبالنسبة لي، ما زلت أقرأ منطق أرسطو وأتساءل، عن جدوى بذل الجهد العلمي ومحاولة وضع معايير علمية لكل شيء، بينما تسير الحياة العامة في العراق بدون معايير، والشهادة الجامعية والشهادة العليا، وحتى الترقية الاكاديمية صارت سلعة يمكن شراؤها من منطقة باب المعظم...
في منطقة باب المعظم وسط بغداد، تتزاحم الكتب مع المارة، تقف على الأرصفة وكأنها ترفض مغادرة التاريخ، كل كتاب يحمل اسم صاحبه، أرسطو له مكان مميز بين غالبية المكتبات المنتشرة على جانبي طريق شارع المكتبات بجوار كلية الهندسة، إحدى كليات الجامعة المستنصرية.
لماذا أرسطو؟
لأنه المعلم الأول كما أحب الفلاسفة أن يطلقوا عليه هذا الوصف العظيم، هو من وضع أسس المنطق قبل 2400 عام، أي قبل ميلاد المسيح، أَلّفَ أكثر من 200 كتاب، وهو تلميذ أفلاطون ومعلم الاسكندر الأكبر.
حاول أن يضع قواعد للتحليل المنطقي تجعل الإنسان يستطيع أن يحلل أو يتعلم أي شيء يمكن ملاحظته حوله، وقد سمي منطق أرسطو بالمنطق الصوري، وهو من بواكير التحول نحو تنظيم التفكير الإنساني والانتقال به من الأفكار المشتتة وغير المترابطة إلى التفكير المنطقي ثم العلمي في مرحلة لاحقة.
ذات مرة حاولت فتح محادثة مع هذا الفيلسوف العظيم، وجدته ينتظر في باب مكتبة عليها لافتة إعلانية مكتوبة بخط واضح "مستعدون لكتابة بحوث التخرج، ورسائل الماجستير والدكتوراه".
انتابتني مشاعر الغضب والخجل من اللافتة فقررت إيقاف مشروع الحديث مع أرسطو، لأنه لم يكن من أولوياتي هذا اليوم، أكملت مسيرتي إلى مجمع كليات جامعة بغداد في باب المعظم، فقد كنت بحاجة ماسة لبعض المصادر العلمية من كلية الآداب لإكمال مشروع بحثي لدراسة الدكتوراه في الإعلام من جامعة بغداد.
وفي طريق العودة شاهدت أكثر من لافتة إعلانية، مكتوبة بخط واضح وكبير "مستعدون لكتابة بحوث التخرج ورسائل الماجستير والدكتوره". لكن بعض مكاتب الاستنساخ تستخدم عباراة أقل حدة مثل "مستعدون لتوفير مصادر بحوث التخرج ورسائل الماجستير والدكتوره"، إلا أنها تشير إلى نفس الهدف، كتابة بحث تخرج أو رسالة ماجسيتر أو أطروحة دكتوراه.
رغبت بشدة في محادثة أرسطو من جديد، إلا أن صديقي قد اتصل بي حيث وصل تواً إلى دار الكتب والوثائق قرب مقر وزارة الدفاع، وهي لا تبعد عن منطقة باب المعظم سوى بضع مئات من الأمتار، ذهبت إلى دار الكتب وأخذت ما أحتاج إليه من مصادر علمية، واتفقت مع الموظفين لتحضير الباقي منها خلال الأيام القادمة، لأن عملية البحث تتطلب مني العودة مرات عدة لهذه المؤسسة المعرفية وغيرها، ولمدة تصل إلى عامين أو أكثر.
خرجت من دار الكتب والوثائق، وحاولت استثمار ما تبقى من الوقت، وتقدمت خطوات نحو شارع المتنبي، القريب من دار الكتب، ومنطقة باب المعظم للإطلاع على آخر إصدرات دور النشر العلمية ولا سيما في مجال بحثي.
استطيع القول أن ما فعلته من زيارة للمؤسسات العلمية وأسواق تجارة الكتب هو الروتين الأسبوعي لطلبة الدراسات العليا في الجامعات العراقية، وإذا أردت الحديث بدقة أقول هذا روتين الغالبية من طلبة الدراسات العليا، أما الجزء المتبقي فهم أقلية يكبر حجمها يوما بعد آخر.
الأقلية المتعاظمة لا تعرف الجهد، ولا زيارة المؤسسات العلمية للإطلاع على التراث الفكري، كل ما يقوم به أعضاء هذا النوع من طلبة الدراسات العليا هو التواصل مع أحد مكاتب الاستنساخ في منطقة باب المعظم وعقد صفقة تجارية بين ثلاثة أطراف:
الطرف الأول: الزبون، وقد يكون طالباً في المرحلة الجامعية الأولية، او طالب دراسات عليا، بل وحتى أستاذ جامعي يريد شراء بحث لترقيته العلمية.
الطرف الثاني: صاحب مكتب الاستنساخ، وهو منسق عملية التواصل لعقد صفقة البحث.
الطرف الثالث: شخص مجهول يقوم بعملية إعداد البحث، وقد يكون هذا الشخص أستاذاً جامعياً له خبرة في كتابة البحوث، وهذا هو السائد، أو خريج دراسة أولية تعلم فن سرقة المواد الفكرية ووضعها في البحوث لتبدو شبيهة بالبحث العلمي الرصين.
أين يجري كل هذا الفساد العلمي
لا يرتبط الفساد العلمي، وبيع البحوث العلمية في منطقة باب المعظم فقط، بل هذا هو الجزء المرئي من جبل الجليد، هناك جزء مغمور تحت مياه المؤسسات الأكاديمية، حيث تباع وتشترى البحوث بشكل ثنائي بين كاتب البحث ومشتريه، بدون الحاجة إلى الوسيط صاحب المكتبة.
ويوجد نوع آخر يتمثل في الحصول على قبول للدراسة في جامعة أجنبية من جامعات البلدان النامية سيئة السمعة، وهناك تجد كل أشكال التزوير وسرقة البحوث وبيعها بدون رقيب أو حسيب، ففي حملة واحدة استطاعت وزارة التعليم اصطياد 27 ألف بحث مسروق من جامعة لبنانية معروفة أصبح بعض خريجيها وزراء في الحكومة العراقية الحالية.
يزداد عدد الباحثين المزيفين، ويدخلون بالالاف إلى المؤسسات الحكومية ويضعون حرف الدال قبل أسمائهم للإشارة إلى أنهم قد حازوا على شهادة الدكتوراه (المزيفة)، ويترقون في المناصب على هذا الأساس، وفوق كل هذا يخربون ويدمرون كل مكان يدخلون إليه أو يحصلون على منصب فيه، لدرجة أنهم أصبحوا تهديداً حقيقياً للأمن القومي المعرفي العراقي.
المشهد العام الذي أتحدث عنه في هذا المقال أشاهده منذ كنت طالباً في مرحلة البكلوريوس ثم الماجستير والدكتوراه، والآن في حياتي المهنية كأستاذ في الجامعة.
في المقابل ومع كل تلك المراحل أشاهد باحثين في العراق يجتهدون ويواصلون الليل بالنهار من أجل إخراج بحث علمي رصين يخدم المجتمع، ويمثل إضافة إلى التراكم المعرفي في بلاد الرافدين والمعرفة الإنسانية بشكل عام.
بالعادة لا يحصل المجتهدون على نصيبهم الذي يستحقون، وفي أغلب الأحيان تسحقهم ماكينات المحاصصة الحزبية لصالح الباحثين المزيفين.
والباحثون المجتهدون يتساءلون بنفس الطريقة التي تعلموها من المعلم الأول أرسطو: إذا كانت الحكومة قادرة على الوصول إلى زعيم داعش وقتل كل هذا العدد من أمراء التنظيم بشكل أسبوعي، فمن المنطقي أنها قادرة على محاسبة كل من يضع لافتة لبيع البحوث أو من يرصد متلبساً ببيع او شراح البحوث داخل العراق وخارجه.
وإذا كانت الحكومة قادرة على محاسبة الفاسدين عبر هيئة النزاهة الاتحادية وتقاريرها اليومية عن القبض أو ضبط المتلبسين بالرشوة، المنطقي أن تستطيع نفس الهيئة ضبط مكاتب الاستنساخ متلبسة ببيع البحوث العلمية.
وإذا كانت الحكومة عازمة على إصلاح جميع قطاعات الدولة العراقية وتعلن عن إنجازات في هذا المجال، من المنطقي أن ترصد تجارة البحوث الاكاديمية المزيفة لأنها أخطر ما يهدد الإصلاح في العراق.
لكن الحكومة لا تفعل، ولا نعرف السر الذي يدفعها للسكوت عن تجارة البحوث الاكاديمية وهي معروفة ومرصوردة حتى للمواطن البسيط ولا تحتاج إلى جهد استخباري. المرجح أن الحكومة هي من تريد زيادة الباحثين المزيفين على حساب جودة التعليم.
وبالنسبة لي، ما زلت أقرأ منطق أرسطو وأتساءل، عن جدوى بذل الجهد العلمي ومحاولة وضع معايير علمية لكل شيء، بينما تسير الحياة العامة في العراق بدون معايير، والشهادة الجامعية والشهادة العليا، وحتى الترقية الاكاديمية صارت سلعة يمكن شراؤها من منطقة باب المعظم.
أتساءل عن المنطق الذي يستطيع تفسير وجود كتب عظيمة لعلماء وفلاسفة في منطقة جعلت شراء البحث العلمي أرخص من بدلة وربطة عنق يلبسها كثير من الباحثين المزيفين.
اضف تعليق