فوكو وفي منهجيته التحليلية والقائمة على تفكيك المفاهيم والقيم أو عوامل وعناصر التكوين لها، يدع كل تقييمات الشعوب لتاريخها ولأعرافها القيمية والفكرية في موضع السؤال وإعادة النظر في أصولها ومناشئها التاريخية والاجتماعية، وأخيرا يدعها في طاحونة التفكيك تجيب على تساؤلات أصل وجودها ونشأتها والتي تنتهي أخيرا ودائما الى...
يحيل ميشال فوكو وفق معادلته في السلطة التي يجدها مبثوثة في كل أنحاء التعامل في الدولة، يحيل أيضا المقاومة(**) التي تكتنف مسار هذه السلطة الى نسق القوة الذي تستند إليه دائما السلطة وإنما اختلافهما في/ ومجابهتهما بعضهما للبعض إنما يدخل في اطار من التكتيكات المتغيرة والمتحركة والمتعددة في توظيفات واستخدامات نسق القوة الذي ينتميان إليه كلاهما السلطة والمقاومة.
وهو ما يعيد النظر أو يحيل الى إعادة النظر في حقيقة ومفهوم وسلوك المقاومة بإفراغه من قيم الجمال الوطني في المتبنى التاريخي والشعبي لهذا المفهوم من خلال اقترانه الذهني والفكري بمفهوم السلطة الذي ينبني مفهوم المقاومة في وجوده الذهني والتاريخي على أسس المخالفة والمجابهة مع السلطة، وبذلك يكتسب مفهوم المقاومة وتاريخه ذلك التبجيل والتعظيم في أعراف وتقاليد الشعوب التي خاضت نضالا وصراعا مقاوما مع موجات الاستعمار التي لم تتوقف إلا بفعل المقاومة وإيمان الشعوب بها.
ترى هل كان فوكو ينبعث عن منطلقات الثقافة الأوربية في توهين القيمة العليا للمقاومة في تاريخ الشعوب المستعمرة؟ أم إنه ينبعث عن ميكانزمات اللاوعي الأوربي في التعامل مع تراث الشعوب الأخرى؟ أسئلة نتركها للمراجعات النقدية والفكرية في تقييم علاقة الغرب بعالمنا.
لكن فوكو وفي منهجيته التحليلية والقائمة على تفكيك المفاهيم والقيم أو عوامل وعناصر التكوين لها، يدع كل تقييمات الشعوب لتاريخها ولأعرافها القيمية والفكرية في موضع السؤال وإعادة النظر في أصولها ومناشئها التاريخية والاجتماعية، وأخيرا يدعها في طاحونة التفكيك تجيب على تساؤلات أصل وجودها ونشأتها والتي تنتهي أخيرا ودائما الى المعنى المضفى عليها تاريخيا واجتماعيا.. وهي بالنتيجة بلا معنى بذاتها وإنما المعنى فيها إضفاء زمني عابر خاضع للتغيير أو للإلغاء.
إن الأشياء كلها حولنا بلا معنى بالذات وهو سعي ثقافة وفكر فوكو الى ترسيخها وبالتالي فإن السلطة التي تستند الى المعنى المضفى على الأشياء لا تستند الى حقيقة بالذات وإنما الى المعرفة الناشئة في نسق هذا المعنى المضفى لذات الأشياء، وهو ما يدعوها أي السلطة الى الاستعانة بالقوة لتلافي النقص أو النقض الحاصل في أصولها المستندة على إضفاء المعنى تاريخيا واجتماعيا على الأشياء، مما يدع المراجعة في متبنيات الذات الاجتماعية والشعبية أمرا لابد منه من أجل الكشف عن مأزق اللامعنى في الأشياء بذاتها وهو الوجه الثاني من إضفاء المعنى على الأشياء لذاتها.
وفي توكيد انجرار فوكو خلف ماكنة أو طاحونة الفكر الغربي التي أوصلت العالم من حول أوربا الى اللامعنى ومرادفاته الاجتماعية والاخلاقية فإنه يسعى الى نمذجة تاريخ أوربا باعتباره نموذجا في تاريخ البشر ومعايير السلطة والمقاومة وانغماسهما في نسق القوة نجدها في تاريخ أوربا وفق فوكو.
لقد بدا مفهوم المقاومة لدى فوكو خاليا من كل التقييمات والأفكار التي صاغتها شعوب العالم حول المعنى في المقاومة وحول تاريخ المقاومة الذي صار من السمات التاريخية والشعبية المركبة للشخصية الوطنية والاجتماعية في الأعراف التاريخية والوطنية للشعوب الأسيوية والأفريقية وشعوب أميركا الجنوبية، وظلت تذكر تاريخيا بالمقارنة المستمرة مع أوربا المستعمرة وأوربا السلطة الاستعمارية الجائرة، حتى صار الاحساس الوطني ينبني في تلك الشعوب بدرجة عالية من الاستياء تجاه تاريخ أوربا المستعمرة وأوربا السلطة الجائرة، لقد امتلك مفهوم المقاومة طاقة تثقيفية ومعرفية عالية في البناء الوطني والتربية الوطنية لدول ومجتمعات ما بعد المرحلة الكولونيالية الاستعمارية في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
وكانت اتجاهات دراسات ما بعد الاستعمارية وهو مفهوم ومصطلح ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين وفي مراحل الاستقلال السياسي والعسكري الذي حظيت به دول العالم الثالث، تركز على مفهوم القوة في تشكيل المنظومة المعرفية الغربية حول المستَعمَر الذي ظل ينظر إليه دائما أنه الأخر غير الأوربي وأنه غير ديمقراطي وغير حداثي وغير ليبرالي وغير جدير بقرار استقلالي وغير ناضج الى الحد الذي يجعله يدرك حاجات وأساسيات العصر الحديث، وكانت دراسات ما بعد الاستعمارية تركز ايضا على مفهوم المقاومة كحد فاصل أو مائز بين مفهوم المُستعمِر والمُستَعمَر.
هذا المائز أو الحد الفاصل بين الغرب والعالم المستَعمَر ينساق في نظرية فوكو في سياق واحد تتماهى فيه السلطة مع المقاومة في نسق واحد هو نسق القوة وماتفرضه من قواعد وقيم في السلوك والمواقف، وبذلك لم تعد المقاومة حلقة تاريخية واجتماعية مخضت شعوب العالم أجوائها ووقائعها وانطبعت برسومها التقليدية في أذهان العالم، إنما عادت تخضع وبذات الآليات وقبلها التكوين في نسق واحد مع السلطة في عملية التفكيك التي يلجأ إليها سروش في تحليله للمفاهيم والأفكار من حوله، قد لا يصرح عمدا أو مباشرة فوكو بهذه الأفكار ولا يعتبرها من أنساق نظريته وفكرته في السلطة والمقاومة ولكنها بالنتيجة تؤدي الى هذا المتحور والمستنتج من آليات وتصاميم الفكر الغربي بعد الحذف المتعمد الذي يقوم به فوكو للجانب القيمي في مفهوم وفكرة المقاومة باعتبارها معنى مضفى تمارسه الذات الاجتماعية وتقوم بإضفائه على وقائعها وأحداثها وتاريخها، وهي أهم انبعاثات فوكو عن ثقافته المركزية ووعيه الأوربي أو حتى ميكانزمات اللاوعي الأوربي لديه.
ورغم أن السلطة كانت مبثوثة في كل حقب التاريخ إلا أن فوكو وبعد تحويره المعنى في السلطة، يعد تاريخ السلطة في القرن العشرين الميلادي وبمقارنتها بتاريخ الفقر الذي يعده تاريخيا في القرن التاسع عشر الميلادي إنما يفصح عن المغزى الأوربي في فهم العالم والتاريخ المبثوث في مسالك الوعي الاجتماعي الأوربي، وكلا التاريخين هما تاريخ أوربا الحديثة جدا، وإن نقد السلطة لدى فوكو ليس نقدا يصب في الجانب الانساني والمعنوي في تاريخ الإنسان بقدر ما هو نقد تمارسه الذات الأوربية أمام حلقات مانعة وسالبة للحريات الشخصية التي تمثل كينونة الذات الأوربية والتعريف المطلق بها في أدبيات الحداثة الأوربية ومابعد الحداثة في تاريخها المعاصر، ومن ثم رغبتها الصميمية في استباحة كل الأشياء من حولها بما فيها أنظمتها وسلطتها.
إنها ذات خرجت عن المألوف البشري التاريخي والاجتماعي بعد خروج هذه الذات الأوربية تجاه السلطة الكنسية ومن ثم الدينية والزمنية والسياسية ومن ثم السلطة القيمية والتي وصمت بالتقليدية، مثارا لدى فوكو للحديث عن المقاومة وبمعنى أخر معنى مضفى أضفته الذات الأوربية الحديثة جدا وتخلت فيه عن المعنى التقليدي للمقاومة أو المعنى التاريخي الذي درجت الشعوب على التأسيس له وإناطته بقيم الحرية والجمال.
فالمقاومة وفق فوكو توجد إينما وجدت السلطة وإينما حاولت السلطة هيمنتها كانت هناك المقاومة، وهو لا ينظر الى السلطة والمقاومة بمنظار تقليدي يتعلق بالسيادة أو المصلحة أو الإرادة أو القصد وإنما بمنظار ذاتيتهما أو آليات وتقنيات عملهما وهو معنى فوكوي مضفى تاريخيا واجتماعيا أوربيا، نجد وجهه الثاني في إفراغ بدئي وأولي يمارسه فوكو لمصطلح ومفهوم المقاومة من القيم المؤسسة له تاريخيا وتقليديا وإحالته الى اقتران شرطي بالسلطة وانحسارهما في معنى أو نسق القوة، وبغياب واضح للمعاني الرافدة له في الحرية والتحرر ومطالب الاستقلال وهوية الشعوب المركبة اجتماعيا وسياسيا في تاريخ المقاومة.
لقد أوحى فوكو بنمط جديد من المقاومة ينسجم ومكونات أو كينونة الذات الأوربية في الحميمية تجاه الرغبات المكبوتة والممنوعة شرعا وعرفا وقانونا وما تمثله تلك الممنوعات من السلطة التي يبرر فوكو مقاومتها شكلا وضمنا في مشروعه الفكري والثقافي ويقدم نفسه نموذجا لهذه المقاومة، فقد أصيب فوكو أخيرا بمرض الأيدز وانقضت حياته وهو يعيش لحظة المقاومة امام السلطة في الممارسات الشاذة ولعلها تجربة كان يمارسها في تطبيقاته في الخروج على المألوف البشري كإحدى أهم علامات النقد أو التمرد أو المقاومة امام السلطة..
اضف تعليق