لقد اعتقلوا التلغرام هذه المرة، وسوف يعيدون اعتقاله مرات عدة حتى يسيطروا على الفضاء العمومي العراقي خوفاً من أي صوت ناقد للسلطة الحاكمة، أما مسألة حماية البيانات وفضائها فهي المناسبة أو الذريعة التي يراد منها التأسيس لشيء يعزز قوة السلطة الحاكمة...
أعلنت وزارة الاتصالات إطلاق خدمة تطبيق المراسلات الشهير "تلغرام" مساء الأحد 12 آب 2023، بعد أسبوع كامل من الاعتقال (الحجب) على يد الوزارة نفسها التي ألقت بمسؤولية قرارها على عاتق "الجهات العليا"، و"الجهات المختصة"، دون أن تسمها في بيان اعتقال وحجب التلغرام يوم السادس من آب 2023.
لم يكن هذا الإجراء هو الأول من نوعه ضد مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد، إذ تعرضت للحجب (الاعتقال) مرات عدة، وتبرز هذه الحالة عندما تتوتر الأجواء في العراق، وتتصاعد المشكلات السياسية والاجتماعية، فتلجأ الحكومة إلى حجب منصات التواصل الاجتماعي لمنع تداعيات الأحداث، كما هو جرى خلال تظاهرات تشرين 2019.
بالنسبة لمنصة التلغرام وحالة حجبها خلال الأيام الماضية، فقد كانت حجة الحكومة بالحجب أنه جاء بعد طلب الجهات المختصة، ومن خلال متابعتنا للأسباب الحقيقية لعملية الحجب فإن بيانات حكومية حساسة قد نشرت في المنصة عبر عدد من القنوات التي يبدو أنها تعاونت مع موظفين أو جهات لها نفوذ في مؤسسات الدولة.
نعود إلى مناقشة أسباب حجب المنصة من أجل استخلاص الدروس، خشية تكرار هذا النوع من الممارسات السلطوية التي لا تملك سوى العقاب الجماعي، فهم يحجبون مواقع التواصل الاجتماعي عندما يفشلون في حفظ البيانات الحكومية، ويقطعون الطرقات عندما يفشلون في حماية أمن المواطنين، ويغلقون الانترنت حينما تتسرب أسئلة امتحانات البكالوريا.
السؤال موجه للحكومة ووزارة الاتصالات: من قام بتسريب البيانات الحكومية؟ هل أن البيانات تسربت لأن بعض الأشخاص يملكون قنوات على تطبيق تلغرام أم أن التسريب حدث بغض النظر عن وجود التلغرام من عدمه، وأن المسربين لديهم القدرة على نشر هذه البيانات في منصات أخرى.
ما يهم في هذا السؤال أن التلغرام غير مسؤول عن عملية التسريب، وفي هذه الحالة غير متهم من هذا الجانب تحديداً.
ولنفترض أن عملية التسريب حدثت بطريقة معينة، وصار لزاماً السيطرة عليها بشكل عاجل، فهل كان إغلاق تطبيق تلغرام عاملاً مساعداً على محاصرة المسربين؟
لم يكن هناك أي تأثير على عملية التسريب، لأن حجب التطبيق يمكن كسره ببرامج سهلة التحميل عبر كوكل بلاي وأبل ستور، ومن المفارقات أن جريدة الصباح الرسمية بقيت تستخدم التطبيق في نشر الأخبار ما يعني أنها استطاعت وبسهولة كسر الحجب.
باختصار يستطيع أي عراقي تحميل برامج كسر الحجب لمشاهدة الملفات الحكومية المسربة وبسهولة وهو ما حدث فعلاً.
أما عن خارج العراق، فالتطبيق لم يحجب هناك، وبقي مفتوحاً، ما يعني أن بيانات الدولة العراقية المسربة يمكن فتحها في أي دولة تسمح بفتح التطبيق لديها، فما فائدة الحجب إذا؟ هل للتستر على الفضيحة ومنع العراقيين فقط من رؤيتها؟
وإذا كانت الحكومة العراقية حسب ما تقول إن إغلاق التطبيق جاء لتحقيق أهداف أمنية حساسة، فهل تمت معالجة الثغرات؟
تقول وزارة الاتصالات إن شركة تلغرام وافقت على التعاون مع الحكومة العراقية بشأن بعض القنوات على المنصة والتي تعرض الأمن القومي للخطر.
هنا تكمن المشكلة التي تخيف جميع المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حرية الرأي والتعبير، فهل تستطيع الحكومة ضمان عدم التجاوز على حرية الرأي في المنصة بعد حصولها على التصريح بمراقبة المحتوى المنشور، وهي نفس الحكومة التي فشلت في حفظ البيانات التي تملكها بنفسها.
الحكومة غير مهيأة مهنياً وفنياً لتكون ثقة لدى الجمهور العراقي في مجال حفظ بياناتهم، ولا تتمتع بأهلية الاستقلالية لحفظ حقهم بالتعبير، الحكومة نفسها مخترقة وتتسرب وثائقها بسهولة، وتسيطر عليها جماعات لا تؤمن بسلطة القانون، وهو ما يجعل آلاف الناشطين يعتقدون بأنهم قد يتعرضون لمراقبة سرية وندخل في دوامة من الاعتقالات بحجة تهديد الأمن القومي.
لا يوجد من يرفض أن تكون هناك حماية قوية لبيانات العراقيين، لكن مشكلتنا أن من فشل في حفظها، بل وتجاوز عليها بشى الطرق يدعي أنه حاميها، ويستخدم الدعوة لحمايتها من أجل تعزيز سلطته وحماية نفسه.
لقد اعتقلوا التلغرام هذه المرة، وسوف يعيدون اعتقاله مرات عدة حتى يسيطروا على الفضاء العمومي العراقي خوفاً من أي صوت ناقد للسلطة الحاكمة، أما مسألة حماية البيانات وفضائها فهي المناسبة أو الذريعة التي يراد منها التأسيس لشيء يعزز قوة السلطة الحاكمة.
اضف تعليق