المبررات كثيرة لتضييق حرية الكلام عن العراقيين، ولا نخفي أن هناك جزء كبير من الشعب يصدق بالمبررات الحكومية، لكننا كمتابعين للشان السياسي لا يمكننا تقبل أي محاولة للسيطرة على الفضاء العام، فهو الوسيلة الوحيدة لممارسة الشعب لسلطته على الحكومة، فـ"الشعب مصدر السلطات" كما نص الدستور العراقي، ولا يمكن لهذا الشعب ممارسة سلطته إذا حجبت عنه المعلومات...
لقد اختفت الجريدة الورقية عملياً في العراق، والمواقع الإلكترونية غير عملية لصعوبة فتحها بسبب ضعف الإنترنت وتهريب خارج العراق مع النفط والدولار، جاء تطبيق التيلغرام ليكون المنصة الأولى لمتابعتهم ما يجري في بلاد الرافدين، لكونه يجمع وسائل الإعلام جميعاً في مكان واحد، لقد احبه العراقيون، واعتمدوا عليه بقوة.
وإذا أردنا تصنيف تطبيقات التواصل الاجتماعي في العراق، فيمكننا وصف تطبيق تيلغرام بأنه التطبيق الإخباري الذي يحتل مرتبة متقدمة على حساب التطبيقات الأخرى، فقد وصل عدد مستخدميه إلى حوالي 16 مليون مستخدم بحسب تصريح مدير الإعلام والعلاقات في وزارة الداخلية اللواء سعد معن بتاريخ 4 كانون الثاني 2023.
اللواء سعد معن أكد أن وزارة الداخلية تتولى رصد المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما أثبتته عبر حملتها لمحاربة ما يسمى بـ"المحتوى الهابط"، ما يعني أن الحكومة العراقية قادرة على الوصول لكل من يخالف القوانين العراقية في منصات التواصل الاجتماعي، ومن ثم لا نحتاج إلى عملية الحجم إذا تحدثنا بنية التصديق بالحكومة، ومن وجهة نظر فنية بحتة.
لكن يوم السبت الخامس من اغسطس آب توقف تطبيق تيلغرام بدون أن يعرف أحد السبب، وفي اليوم التالي تبنت وزارة الاتصالات عملية الحجب، وبررت قرارها بأنه "جاء بناء على توجيهات الجهات العليا لمحددات تتعلق بالأمن الوطني، وحفاظا على البيانات الشخصية للمواطنين، التي خرق التطبيق المذكور سلامة التعامل بها خلافا للقانون".
تصور أن وزارة مثل الاتصالات تسند قرارها إلى "الجهات العليا"، من هذه الجهات لا نعرفها؟ لماذا لم تسمها؟ لا نعرف بالضبط.
هل هي مجلس القضاء الأعلى، أم مجلس الوزراء، أم حزب سياسي معين، أم سفارة أجنبية؟
هكذا تسير الأمور في العراق، حتى الوزارة لا تعلن بشكل شفاف عن طبيعة قراراتها، وكأننا عدنا بشكل فعلي إلى زمن النظام الديكتاتوري، الذي كان يسبب القرارات بأنها جاءت بناء على ما ارتأته القيادة الحكيمة وغيرها من هذه التسميات.
ثم تكمل وزارة الاتصالات في بيانها بالقول: "إن مؤسسات الدولة، ذات العلاقة، قد طلبت مرارًا، من الشركة المعنية بإدارة التطبيق المذكور، التعاون في غلق المنصات التي تتسبب في تسريب بيانات مؤسسات الدولة الرسمية والبيانات الشخصية للمواطنين، ممّا يشكل خطرًا على الأمن القومي العراقي والسلم المجتمعي".
في هذا الجزء تظهر لنا تسمية "مؤسسات الدولة ذات العلاقة"، من هذه المؤسسات؟ ولماذا لا يعلن عنها، هل تخاف من الجمهور؟ أم أن البيان لا يستند إلى أي مبرر حقيقي فكتب بطريقة غريبة.
والمبرر الأساسي في طلب "الجهات العليا"، و"المؤسسات ذات العلاقة"، بوقف تسريب بيانات مؤسسات الدولة والبيانات الرسمية للمواطنين.
هنا نسأل وزارة الاتصالات، من أين جاءت هذه البيانات المسربة؟
بمعنى أن طريقة الاستحواذ الأولى على البيانات هل كانت بسبب التطبيق نفسه؟ أم أن هناك موظفين وجهات سياسية تستحوذ على البيانات في خرق واضح للقانون، ثم تقوم بتسريبها على منصاتها الإلكترونية.
وإذا كانت الحكومة جادة فعلاً في وقف عمليات التسريب، فلا تحتاج إلى طلب لإدارة تطبيق تيلغرام بالسيطرة عليه، إنما من خلال ضبط ما يجري في مؤسسات الدولة، وكيف تسرب البيانات وحتى أدق تفاصيل العمليات العسكرية السرية عبر متعاونين داخل الأجهزة الأمنية وجهات سياسية مهيمنة على الساحة العراقية.
وإذا ما حلت مشكلة الخروقات في الأجهزة الحكومية عندها لا تحتاج إلى حجب التيلغرام ولا هذا الصداع الذي اربك العراقيين.
وما نفهمه أن الحكومة ليست مسيطرة على بياناتها، والأخطر أنها تحاول أن تستغل ضعفها في الإمساك بمسربي البيانات واتخاذ عمليات التسريب كذريعة للسيطرة على تطبيقات التواصل الاجتماعي.
نعم هناك توجه حكومي واضح ومدعوم بقرار سياسي بضرورة السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي ولا سيما في المجال السياسي، ولأن تطبيق تيلغرام ينشط في مجال الاخبار والمعلومات السياسية، بدأت عملية حجبه، وقد تأثرت الحكومة بالخطاب الإعلامي المعارض عبر منصات التواصل.
ومن المتوقع أن نشهد عمليات حجب أخرى لتطبيقات التواصل لا سيما مع بروز ظاهرة جديدة هي قوانين تجريم الكلام، مثل قانون جرائم المعلوماتية، وقوانين التحريم التي تتعلق بشخصيات معينة بحجة ثقلها وجماهيريتها.
وتأتي الحملة امتداداً لحملات أخرى كنا قد حذرنا من خطورتها، وهي حملة ما زعم أنها لمحاربة المحتوى الهابط، لكنها كانت البداية لتكميم الأفواه والسيطرة على الفضاء العراقي العام، وها نحن نحصد ما بدأته الحكومة من شيطنه لمواقع التواصل ومستخدميها لينتهي الحال بالسيطرة على تطبيق تيلغرام وهو المنفذ السياسي والإخباري للعراقيين.
لا نعلم بالخطوة التالية، لكنها حتماً ستضرب بقوة وتضيق بشدة على الحريات العامة، لا سيما وأن مساحة الإعتراض باتت أقل تأثيراً والشعب خائف من الاعتراض على القرارات الحكومية خشية استغلال سخطه من قبل جهات معينة، أو اتهام المعترضين بأنهم متعاونين مع جهات خارجية.
المبررات كثيرة لتضييق حرية الكلام عن العراقيين، ولا نخفي أن هناك جزء كبير من الشعب يصدق بالمبررات الحكومية، لكننا كمتابعين للشان السياسي لا يمكننا تقبل أي محاولة للسيطرة على الفضاء العام، فهو الوسيلة الوحيدة لممارسة الشعب لسلطته على الحكومة، فـ"الشعب مصدر السلطات" كما نص الدستور العراقي، ولا يمكن لهذا الشعب ممارسة سلطته إذا حجبت عنه المعلومات.
اضف تعليق