q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

نبذ الاكراه وتوطين الاختيار الاجتماعي

المسلم بين الاعتدال والتطرف (11)

توالد الأجيال المتمردة في مختلف المجتمعات هو نتيجة لاختلالات مجتمعية متعددة، تفرض عليها أساليب حياة غير مقتنعة بها، نتيجة لغياب الاقناع القائم على التفكير الحر. وجود التناقض في مختلف المجتمعات بين الأجيال، فالجيل الجديد يتمرد على الجيل القديم ويصبح هناك تصدعا، عندما يرفض القبول بإكراه الجيل القديم له...

(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ) البقرة 256.

يتشكل الإنسان في بنائه وتطويره وإنضاجه من خلال تفكيره الحر، وحرية اختياراته في الحياة، وقدرته في اتخاذ القرار، في سلوك طريق الخير أو الشر، ومن خلال حريته يجرب ويتعلم وينضج ويسترشد ويرشد.

وقد جاءت توجيهات أهل البيت (عليهم السلام) من أجل ترشيد الإنسان وتنضيجه للوصول به إلى الكمال والتقدم في الحياة، فمع اختيار الإنسان وحريته وعدم إكراهه سوف ينمو ويتطور ويتقدم، لكنه مع الإكراه ينحرف، ويصبح سقيما عقائديا ونفسيا وأخلاقيا في حياته.

إن الاعتدال في أحد معانيه هو نفي الإكراه، وعدم تعرّض الإنسان للإكراه حتى يصبح معتدلا وسائرا في الطريق المستقيم، وعدم الانحراف، هذا الاعتدال الذي يتقوَّم بنفي الإكراه، يساعد الإنسان على النمو والنضج والتقدم في حياته، وتكامل عقله وتطوره النفسي والروحي والأخلاقي.

وقد تطرقنا إلى بعض الأسباب التي تجعل الإكراه لا ينسجم مع الدين، فالإكراه مناقض للدين وطرحنا بعض الأسباب التي تقف وراء ذلك، ونصل هنا إلى هذه النقطة الأساسية المهمة:

إن الإكراه يؤدي بالإنسان إلى انهيارات أخلاقية متصاعدة بسبب الصدمات التي يرسخها ويخلفها في النفس، حيث يؤدي به إلى أنه يتصدّع نفسيا ويصبح هشّا ضعيفا، تتآكله الأمراض النفسية والأخلاقية.

فالإكراه يؤدي من الناحية النفسية إلى مجموعة من المشكلات وهي:

الإكراه يستولد أجيالا متمردة

أولا: يؤدي إلى عناد الإنسان وتمرده تمردا سلبيا، لأنه يرى أن هذا الإكراه يفرض عليه أسلوبا في التفكير والحياة، سواء كان متمردا ظاهريا او خفيّا، فيصبح معاديا وضدا للمجتمع الذي يجبره أو يكرهه على أسلوب أو نمط تفكير معين.

فتوالد الأجيال المتمردة في مختلف المجتمعات هو نتيجة لاختلالات مجتمعية متعددة، تفرض عليها أساليب حياة غير مقتنعة بها، نتيجة لغياب الاقناع القائم على التفكير الحر.

لذلك نلاحظ وجود التناقض في مختلف المجتمعات بين الأجيال، فالجيل الجديد يتمرد على الجيل القديم ويصبح هناك تصدعا اجتماعيا وأخلاقيا أيضا، عندما يرفض القبول بإكراه الجيل القديم له، ومع رفضه لإكراه المكرِه في شيء معين، فإنه سوف يرفض ويتمرد على كل شيء حتى لو كان صحيحا.

ان الإكراه يؤدي إلى صناعة تمرد جامد متصلّب، تجاه المكرِه والقائم بالإكراه، لذلك لابد أن يتلقى الإنسان التربية الصحيحة والسليمة، تقوم على عملية الاقناع والاقتناع، وتؤكد الآية القرآنية الكريمة على هذا المطلب (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ).

الرشد يتحقق من خلال نفي الإكراه، والإكراه يؤدي إلى الانحراف الأخلاقي، وخصوصا الانحراف العقائدي، فلذلك نلاحظ أن الإكراه يولد صدمة أخلاقية كبير عند الإنسان المكرَه، ومن ضمن هذه الأزمات الأخلاقية التي لاحظناها، أنه يؤدي إلى أولا الى التمرد والانحراف، وثانيا الخوف.

ثانيا: استيطان الخوف

فمن مشكلات الاكراه النفسية ونتائجه الخطيرة هو استيطان الخوف في البناء الاجتماعي، وإنتاج الانسان الخائف، ومع الخوف يأتي الجبن، الذي سيجعله منافقا، أي تكون شخصيته مزدوجة، شخصية ظاهرة، وأخرى باطنة، فتراه يؤمن بشيء لكنه يُظهر شيئا آخر مختلف، ولهذا فإن النفاق من السلبيات الكبيرة التي تنتج عن الإكراه.

إن الإنسان الذي يتربى على هذا الأسلوب في حياته، يصبح شخصية غير مستقيمة، ولا توجد ثوابت فيه، لذلك يصبح شخصية انتهازية ازدواجية، وعندما تقرأ منتَج ثقافة الاستبداد، ستجد بأنه ينتج النفاق، والازدواجية في السلوك، بما يؤدي إلى تشكيل شخصية مريضة أخلاقيا، متلوّنة، متلاعبة، لا يوجد فيها ركيزة أخلاقية يستند إليها هذا النوع من الافراد.

ثالثا: الاكراه يستولد القلق

وهو من ضمن الأمراض الأخلاقية التي ينتجها هذا الإكراه، حيث يصبح الإنسان خائفا وقلِقا، فالخوف ينتج القلق، فيكون الإنسان غير مستقر، وغالبا ما يشعر بالضيق، وبعدم الثبات، مع غياب الاستقرار النفسي، وتراه يخاف من الغد بشكل دائم، ويخشى من المستقبل، لأن الخوف من البواعث القوية التي تقوم بتوليد القلق، حيث يفقد المكرِه ارادته وقدرته على الاختيار.

حتى المكرِه الذي يمارس الاكراه يصبح ضحية لإكراهه، حيث هدفه أن يهيمن على الآخر، فيستخدم آلات الإكراه ضد المكرَه، فيكون كلا الطرفين يعيشان القلق، مثلا عندما يفكر الإنسان بأن عدوه يمتلك سلاحا، فيؤدي به الوهم إلى الخوف والقلق، لأن صاحب السلاح قد يؤذيه، فنلاحظ أنه يعيش حالة القلق بصورة دائمة، وهذا القلق يعد من أسوأ الأمراض النفسية التي يعيشها الإنسان، وخصوصا الإنسان المعاصر.

رابعا: الإكراه استلاب للشخصية

كذلك يؤدي الإكراه إلى فقدان تقدير الذات، وفي هذه الحالة لا يشعر الإنسان بوجوده ولا بذاته ولا بحقيقته، ولا باستقلاليته الذاتية، بل يشعر بأنه لا قيمة له، لأن الإكراه عبارة عن عملية استلاب لشخصية الإنسان وقدرته على الاختيار وعلى التفكير وعلى التعقل، فلذلك يسلب المكرِه تقدير الذات للمكرَه على هذا الفعل، فيتم تدمير تقدير الذات عند الإنسان المكرَه، ولا يشعر بذاته، بل يشعر بالكراهية الداخلية لنفسه، وبالتالي تتزعزع ذاته ويصبح هشّا ومريضا نفسيا.

خامسا: فقدان الثقة في المجتمع

الإكراه يؤدي إلى فقدان الثقة بالآخرين، فالإنسان المكرَه لا يستطيع أن يُحسن الظن بالآخرين، ولا يثق بهم، لأنه مجبَر ومكرَه على نمط معين من التفكير، وعندما يكون مجبرا على نمط واحد من التفكير، فيشعر دائما بأن الآخر عدو له، والآخر متآمر عليه، فلا يثق بالآخر ويصبح المجتمع متفكّكا إلى جهات وفئات مختلفة، وإلى أشخاص متعارضين، ومتناقضين وغير منسجمين فيما بينهم.

سادسا: فقدان الشعور بجدوائية الحياة

بل يشعر بالعدمية، لأن هذا الإكراه يؤدي إلى سلب الهدف والغاية من الحياة، الآباء في بعض الأحيان لا يفهمون هذه القضية، فيقومون بعملية التربية الإكراهية لأبنائهم، لأنهم لا يفهمون خطورة هذا النوع من التربية، فيجبر ابنه على نوع معين من السلوك، فهذا الإنسان الذي يكون مجبَر على نوع محدّد من الحياة، سوف يتربى على عدم جدوائية هذه الحياة، وعدم وجود غاية فيها.

كالإنسان الذي يشعر بالنتيجة أنه لم يتخذ القرار الصحيح في الحياة، لأنه تربَّى على عدم الاستقلالية وعدم اتخاذ القرار الصحيح، فإنه يشعر بأن الحياة غير مجدية، فهو لم ينمُ نموا صحيحا تصاعديا تراكميا يؤدي به إلى أنه يكون مستقلا في حياته وفي تفكيره، كالابن الذي يجبره الأب منذ طفولته على أن يدرس دراسة خاصة معينة وهو غير راغب بها، فعندما يصل إلى مرتبة متقدمة من العمر، يشعر إنه لم ينلْ الفرصة الكافية في حياته.

قد يصبح طبيبا أو مهندسا أو أي مهنة في الحياة رغما عنه، بالتربية القسرية والإكراهية، لذلك يبقى يشعر بأنه لم يحقق شيئا جيدا في حياته، لأن هذه الحياة ليست مجدية له، فتنتابه حالة من العدمية، وفقدان الأمل والرؤية الإيجابية في الحياة.

سابعا: الإكراه يجعل الإنسان لامباليا

ويصبح منعزلا تضمحل عنده حالة الشعور بالمسؤولية، لأنه يشعر بأنه لا شيء وغير مهم في هذا المجتمع، فيصبح هو أيضا لا مباليا في مسؤولياته تجاه المجتمع من ناحية أداء الواجبات، لأنه عندما يكون مكرها لا يجد لنفسه حقوقا، فلا أحدا أعطاه حقه في الحياة، وحقه في الاختيار، وحقه في الحرية، وحقه في اتخاذ القرار، وحقه في أن يكون مستقلا.

فيُسلب منه هذا الإدراك والفهم الحقوقي، فلا يشعر بوجود واجبات عليه، ويكون لا مباليا، لذلك فإن المجتمعات والعائلات المستبدة التي تقوم على التربية الاستبدادية تخلق إنسان يكون بالنتيجة لا مباليا في طريقة حياته، وغير مبالي بالآخرين دون شعور بمسؤولياته.

ثامنا: الإكراه يجعل الإنسان فاشلا

إنسان غير ناجح، لأن النجاح عملية تراكمية تقوم على النضج، والإنسان قد ينجح في حياته، وقد ينجح في ظاهره، لكنه في واقعه وفي معناه وفي باطنه قد يكون فاشلا، لأنه تربّى على الإكراه وعلى هذا الطريق المحدد له مسبقا، طريق واحد لا غير لم يختره هو في حياته، لذلك بالنتيجة يكون هذا الإنسان فاشلا في حياته وفي طريقة تفكيره.

تاسعا: صناعة الكاذب

والكذب من الصدمات الأخلاقية التي يولّدها الإكراه على الإنسان، حيث تتم صناعة الإنسان الكاذب بالإكراه، لأن الكذب ينبع دائما من الخوف المستولد من الإكراه، فالإنسان الذي يتعرض للإكراه يكذب حتى يحمي نفسه من سطوة الاكراه، وهكذا يتربّى على الكذب لأنه يتلقى العقاب دائما فتؤدي به التربية القاسية والعنيفة إلى أن يكون كاذبا باستمرار وان لم يكن هناك اكراه في بعض الحالات، لأنه تعلّم عندما يكذب ينجو من العقاب والعنف ضده.

فيكذب ثم يكذب ثم يكذب حتى يصبح كاذبا في واقعه وأخلاقه، وسلوكه، وشخصيته، أما الإنسان الصادق فهو صادق دائما لأنه لا يخاف شيئا، وهو حرّ مختار، ويتحمل المسؤولية، فلا يخاف من أن يقول الصدق، ويكون دائما محميّا بحرية اختياره.

فعندما يخطئ لا يكذب، بل يعترف بخطئه، يعترف من خلال صدقه وهذا الاعتراف بالخطيئة من خلال صدقه، يجعله ينمو وينضج ويرشد في حياته، لذلك فإن نبذ الإكراه يؤدي إلى رشد الإنسان من خلال صدقه، من خلال عدم شعوره بالخوف، وتقديره لذاته، وثقته بالآخرين، ومن خلال تحمله لمسؤولياته في الحياة.

بناء النظام على نبذ الاكراه

هذه الرواية نستفيد منها لدعم فكرة نبذ الإكراه، حيث الإمام علي (عليه السلام)، يسلط الضوء فيها على بعض الجوانب السياسية والاجتماعية والأخلاقية في قضية الإكراه، وبناء المجتمع السليم، وتأسيس النظام السليم، عبر بناء التعاون فيما بين الأفراد، وايجاد الاستقامة الاجتماعية والفردية من خلال عدم الإكراه وعدم الاجحاف، وعدم إجبار الحاكم للمحكومين.

عن الإمام علي (عليه السلام):

(ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَلَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ. وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ. وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَكَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ..). (1)

المسؤولية الاجتماعية وبناء النظام

إن بناء المسؤولية الاجتماعية حيث يكون فيها الكل مسؤولا، سوف يؤدي إلى خلق النظام السليم والأليف القائم على حرية الاختيار، والتآلف فيما بين الناس تآلفا عميقا.

بالنتيجة فإن هذا البناء هو عزّ للدين وانتصارا له، لأنه لا إكراه فيه، حيث (عز الحق بينهم فقامت مناهج الدين).

(واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السنن)(2) أي أن كل الطرق قد انفتحت، عندما يؤدي الجميع التزاماتهم تجاه بعضهم بعضا، بالنظام الرحيم والليّن الذي ليس فيه إكراه، وعندها سوف يتحقق الاعتدال، وتنفتح الطرق السليمة والمستقيمة للوصول إلى النجاحات والازدهار والاستقرار الاجتماعي، (فصلح بذلك الزمان وطاب به العيش، وطُمِع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء)، هذه القراءة من الناحية الإيجابية.

الانحراف الديني

أما من الناحية السلبية (وإذا غلبت الرعية واليها)، إي إذا تحكّمت الرعية بواليها بقصد التمرد، فالرعية أو المجتمع يتمرد على الحاكم نتيجة لفساده ولظلمه ولضعفه وعدم حزمه، (أو أجحف الوالي برعيته)، أي أنه ظلمَ، وجارَ وأكره، وأجحف، واستبد هذا الحاكم وسلب حقوق الناس، (وظهرت معالم الجور. وكثر الإدغال في الدين وتركت محاج السنن. فعمل بالهوى. وعطلت الأحكام. وكثرت علل النفوس).(3)

فيظهر الظلم، وتطفو الاضطرابات العقائدية، ويكثر الإدغال في الدين، الإدغال يعني الدخول العميق المجهول المدمر الذي يؤدي إلى الفساد والانحراف والتيه والضلال، وكأنما يدخل الإنسان في أدغال الغابة، فهناك فرق كبير بين السهول الخالية من الأشجار الكثيفة العملاقة وبين أشجار الغابة، لأنه في الأرض السهلة يتضح الطريق أمامك، والنور يكون واضحا، أما في الغابة فإنها تكون مظلمة ولا توجد فيها طرق واضحة، فيضيع الإنسان ويتيه فيها.

هنا يصبح الدين مجهولا، أي أن الإنسان يكون تائها ومنحرفا عقائديا، وتظهر الفرق الضالة، والاجتهادات الشخصية في الدين، وهي اجتهادات خارجة عن الطريق المستقيم، لأنه (عُمل بالهوى وعُطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس)، فالمجتمعات مريضة أخلاقيا ونفسيا، وتكون سقيمة، فتكثر علل النفوس، حيث يؤدي الانحراف العقائدي الى نشوء الأمراض النفسية والأخلاقية والعكس كذلك.

نتائج إجحاف الحاكم

الوالي هنا يشمل جميع من يتولى مسؤولية معينة، فالإنسان المسؤول عندما يُكرِه الآخرين على فعل شيء معين، فإنه يُجحف بحق هؤلاء الرعية، وهؤلاء المحكومين، وبالنتيجة يؤدي ذلك بهم إلى الإصابة بالمرض النفسي والمرض الأخلاقي الذي يحصل في المجتمع.

ويؤدي ذلك إلى انحلال المجتمع، وتعطيل الحقوق، وانتشار الباطل وإذلال الناس، واختفاء الخير وصعود الشر، (فهنالك تذل الأبرار وتعزّ الأشرار)، أي يصبح الأشرار هم المسيطرين في المجتمع، حيث لا يوجد في هذا المجتمع عملية أخلاقية اختيارية، لينمو فيها الإنسان وينضج، لذلك يصبح هذا المجتمع محكوما من قبل الأشرار والفاسدين والظالمين، وبالنتيجة يتم انتهاك الحقوق وتكثر التبعات على المجتمع.

تعاون الاحرار

فكيف يمكن إيقاف الوصول إلى هذه المرتبة في قضية الانهيار الديني والاجتماعي والأخلاقي والنفسي، وانتهاك الحقوق وتعطيل الأحكام وتعطيل الدين.

(فعليكم بالتناصح.. وحسن التعاون..)، التعاون الحر بين أشخاص أحرار، لأن التعاون يحدث بين الأحرار ولا يكون بين المكرَهين، المكرَه ليس لديه قدرة على الاختيار، ولا يكون عنده القدرة على اتخاذ القرار الصحيح. فالإنسان المكرَه لا يستطيع التعاون لأن التعاون يتم بين أصحاب الإرادة الحرة، وهنا تبدأ عملية التناصح، وهو يعني التكافؤ المتوازن بين الاطراف، فالتناصح خلاف الإكراه، والنصيحة تعني إرشاد وموعظة هداية للإنسان الآخر من خلال الكلمة الطيبة والحسنة والصالحة، وهذا يؤدي بذلك الشخص إلى أن يصبح صالحا في حياته.

تناصح المصلحين

فالتناصح بين الأفراد يؤدي إلى بناء مجتمع صالح، وأصل التعاون يقوم على هذا التناصح والتعاون على ذلك، والإصلاح الاجتماعي والنفسي والأخلاقي يبدأ من عملية التناصح، والتبادل الحر بالأفكار وفي محاولة ترميم المجتمع وإنقاذه من الأمراض الموجودة، فهذا التعاون الاجتماعي مهم في عملية بناء الإصلاح.

كما قلنا أن التناصح والتعاون يقوم على حرية الاختيار ونفي الإكراه، كذلك نحن نقول إذا أردنا أن نبني مجتمعا متناصحا، ومجتمعا متعاونا، فلابد أن ننبذ ونبعد الإكراه عن حياتنا، ولا نُكرِه الآخرين، بل نشجعهم على التفكير الصحيح والسليم في حياتهم، وعلى اتخاذ القرارات الصحيحة، حتى يصبحوا أناسا صادقين مؤمنين متدينين صالحين في دينهم وفي عقائدهم وفي أخلاقهم.

للبحث تتمة...

................................
(1) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، الخطبة 216-خطبها بصفين.
(2) واعتدلت معالم العدل جمع [مَعُلَمُ] وهو ما ينصب في الطريق للإرشاد إلى جهته، حتى لا يضل المارة وجرت على أَذلالِها جمع ذِل بكسر الذال بمعنى محجة الطريق السُّنَنُ أي جرت سنن اللّه وأحكامه، على وجوهها فصلح بذلك الزمان إذ ليس المراد من صلاح الزمان وفساده إلاّ فساد الناس وصلاحهم. (توضيح نهج البلاغة، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي)
(3) الإدغال في الأمر إِدخال ما يفسده فيه، إذ كل جانبٍ يَجر الدين إلى جانبه ليقوي جبهته، ومن المعلوم إن ذلك موجب للتأويل والاختلاف ونسبة ما ليس من الدين إلى الدين وتُرِكَتُ مَحاجُّ السُّننِ جمع محجة، بمعنى وسط الطريق أي سُّنن الإسلام.
فعُمِلَ بالهوى عوض الهدى وعُطِلَّتُ الأحكام إذ لا يُنفِّذها كل جانب عِناداً على الجانب الآخر وكَثُرتُ علل النفوس أي أمراضها الباطنية من قبيل الحسد والغل والافتراء وما أشبه. (المصدر السابق)

اضف تعليق


التعليقات

hamed
العراق
احسنت مقال قيّم..
جدير بالذكر، الاشارة لنقاوة الايمان وسط النظام السائد، بمعنى حينما يكون النظام السائد نظام استبدادي ستكون نقاوة الايمان منخفضة لان الاستبداد سيجعل الانسان مختل السلوك ويعمل الاشياء ارضاءً للمستبد( أياً كان نوعه: اخلاقي، ديني، سياسي، اقتصادي، اجتماعي) بمعنى آخر انه سينشغل، عن دينه وايمانه؛ في كيفية تجنب المستبد وهنا تكون نقاوة الايمان أقل.
لكن حينما يكون النظام القائم على الحرية وحرية الاختيار، لن يضطر الانسان الى اعتماد سلوكيات معينة، لأجل تجنب المستبد كما اتضح اعلاه؛ تبعده عن اتصاله بخالقه أي انه سيوفر الوقت ويستثمره افضل استثمار في توثيق علاقته بخالقه والتقرب منه بكل افكاره وسلوكه.
النتيجة ان نقاوة الايمان مع الحرية تكون أكبر من نقاوة الايمان مع الاستبداد.2023-07-19