الليبرالية وفق نظرياتها المؤسسة لها هي ذات منزع مطلق وثابت تاريخي وغير قابل للاستثناء من القاعدة، وهو ما يفسر ذلك الإكراه المتبع من جانب أنظمتها السياسية، ويفسر أيضا ذلك التعنت الغربي لا سيما الأميركي تجاه الثقافات والتقاليد الفاعلة والموجهة للإنسان والحياة في مجتمعات الشرق لا سيما مجتمعات المسلمين...
تشكل الليبرالية في الغرب الحديث مفهوما أساسيا في كل توجهاته السياسية والاجتماعية والثقافية أو معيارا وازنا في كل اتجاهاته النظرية والعملية، أو هكذا يبدو انطباع الغرب عن ذاته او ما تروجه وسائل الفكر والإعلام المنبثقة عن مؤسساته وانظمته، وقد اعتمد الفكر الغربي مصطلح "الليبرالية"[1] في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ولكنه يحيل مفاهيم الليبرالية الى قبل ذلك في عصر التنوير في القرن الثامن عشر الميلادي، أو حتى قبل ذلك الى أفكار الفيلسوف الإنكليزي جون لوك في القرن السابع عشر الميلادي في تنظيراته للحرية الطبيعية للأفراد وللمساواة الطبيعية بينهم وصياغة العقد الاجتماعي الذي يتنازل به الأفراد عن بعض حقوقهم الطبيعية مقابل واجبات يفرضها ذلك العقد على الحاكم.
إن الحرية والمساواة هما صلبا العقيدة الليبرالية ومنهما يستمد مفهوم الليبرالية تعريفه بإيجاز، ولكن هذين المفهومين الميسرين خضعا الى تنظيرات وتأويلات عديدة في الفكر الغربي جعل من تنوعات الليبرالية واشتقاقاتها النظرية تدخل كل الميادين في الحياة الإنسانية بل واستحوذت على السياسة والاقتصاد وعلاقات الاجتماع، وصولا الى النزعات المفرطة في الفردية والتي هددت نظام الأسرة باعتباره نظاما قامعا للفردية اعتمادا على مبدأ الحرية المبدأ الأساس في الليبرالية.
لقد ركزت الليبرالية على تفكيك مفهوم الجماعة من خلال إيلاء الفردية تلك الأولوية الباذخة في الفكر الليبرالي وكانت تمارس ذلك التفكيك للجماعة التقليدية طبعا من خلال تفكيك قيمها وتقاليدها وتبرر ذلك تحت شعار أو فكرة التقدم ذات الجذر الليبرالي تاريخيا وهي تستند الى تطورات وتقدم الوسائل التقنية والصناعية في القرن التاسع عشر الميلادي.
ويبدو أن البرجوازية التي أنجبت الليبرالية كانت تعي أهمية تفكيك نسق الجماعة اجتماعيا وثقافيا لصالح الفردية حتى تضمن نسقا من نظام في العمل يوازي ذلك العمل في الحقل الذي يستند الى فكرة وقيمة الجماعة، فلم تعد الجماعة ضرورية في حياة ونظر الفرد العامل وقد استعاض عنها بالعمل ضمن مجموعة من الأفراد أطلق عليهم "العمال" أو "طبقة العمال" ومحور العلاقة في نسقهم هو المصلحة الفردية سواء لرب العمل البرجوازي أو للعامل الفرد.
وهكذا نشأت الفردية–الليبرالية في ظل التحولات الاقتصادية البرجوازية ومن اشتقاقاتها جاءت أفكار ومبادئ حقوق الإنسان والحريات الشخصية ذات المنحى السياسي والاجتماعي الذي تبنته الليبرالية في تطوراتها عن أصولها البرجوازية وعززت تطوراتها التاريخية في تجذير انتماءاتها للتقدمية وترسيخ مقولتها في العقل الأوربي الحديث.
وقد بدت الليبرالية في هذه التحولات فلسفة حصرية بالبرجوازية في نظر البعض وأن الحرية التي سعت الى نشر أفكارها وتطبيقاتها في ميادين الحياة هي الحرية المستثمرة برجوازيا وقد أضاعت حرية الآخرين في نظر هذا البعض، وفي ظل هذا الاستثمار الممنهج لليبرالية من جانب البرجوازية سخر الكاتب الليبرالي شارك دو روموزا بقوله يخاطب البرجوازيين (تعالوا وظفوا مصالحكم تحت حراسة أفكارنا)، ورغم أن الأيدلوجيا التي طرحتها البرجوازية حول الليبرالية سعت الى توحيدها في تعريفها واختصارها في (الحرية في كل شيء في الدين والأدب والفلسفة والصناعة والسياسة...و... بأنها انتصار الحرية على السلطة التي تريد الاستبداد وعلى الجماهير التي تطالب بحق استبعاد الأقلية) وفق منظرها بنجامين كونستان، إلا أنها تاريخيا وقعت تحت تأثير تناقضاتها الذاتية الفكرية والأيديولوجية والتاريخية.
فالمصالح الفردية التي ضمنتها الليبرالية لا تتوافق دائما والمصالح العامة من جهة ولا تتوافق أيضا ومجال الحريات الواسع الذي حاولت الليبرالية تأمينه في أيديولوجيتها، فقد شهدت ولادة اللبرالية وانتشارها في أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي موجة من الحروب الداخلية بين ممالك ودول أوربا من أجل إعادة رسم الحدود للدولة القومية الناشئة بما يضمن المصالح العليا للبرجوازية الصاعدة التي استندت الى القومية والليبرالية في نشأتها وصعودها.
وفي مناخات الحروب تنمو ظاهرة الدكتاتورية وتتحول سياسات الاستبداد الى ضرورة سياسية تؤجل العمل أو الإيمان بالحرية، فقد انتهت الثورة الفرنسية التي أسست لأفكار الليبرالية في تراث أوربا الحديث الى دكتاتورية نابليون بونابرت واتسعت حدود دكتاتوريته لتشمل دول وأراض أوربية أخرى، لكن صورته رشحت في الليبرالية باعتباره مثلا أعلى وقدمت شخصيته على أنه جندي الحرية والمساواة وفق منظري الليبرالية الأوربيين الأوائل، وأن نابليون ليبرالي وأن حياته هي الحياة الأخيرة في الكائنات الفردية العظيمة، وأنه منظما عظيما ورجل عزيمة.
وهكذا بدت الليبرالية أيديولوجيا ونظام مصالح خاصة بطبقة معينة هي طبقة البرجوازية التي نظر بعض منظريها الى البرلمان بأنه يمثل مصالح الأمة ولا يمثل المواطنين، فطالبوا بحصر التصويت بفئة الملاكين والكفاءات، ويعلق توشار على هذا التناقض في الرؤى الليبرالية بأنها تعارض بين الليبرالية المستقيمة والليبراليين المستقلين وهو تعارض موجود في جميع الأزمنة وفق قوله، لكنه ليس مجرد تعارض كما يذهب الى ذلك توشار بل هو تناقض مركب في طبيعة النظرية الايديولوجية الليبرالية وهو ما يفسر ارتداداتها السلبية على حركة التاريخ منذ القرن التاسع عشر والى مطلع القرن الواحد والعشرين الميلاديين، ويفسر انقساماتها أيضا أو محاولة تقسيم صورها وأنماطها من جانبها مراعاة للمصالح القائمة عليها والساندة لأفكارها وأنظمتها السياسية.
فهناك الليبرالية الاقتصادية التي تستند الى الثروة والملكية، والليبرالية السياسية التي تستند الى الديمقراطية البرلمانية والحكم التمثيلي، والليبرالية الفكرية التي تستند الى التسامح الفكري، أو هكذا سوقت نفسها الليبرالية في ما سعت إليه من تقديم صورة للغرب أمام العالم الحديث وريادة الغرب لهذا العالم الذي صار رهنا أو مرتهنا بالقيم الليبرالية في شروط ولوجه وانتمائه للعصر الحديث، وهو إكراه تمارسه الليبرالية في استبدادها بالشروط المتاحة من جانبها أمام الدول والشعوب في ولوجها الى العالم الحديث وتكشف التسمية الشائعة "قيمنا أو قيم الحضارة الغربية" في وسائل الإعلام والفكر والثقافة في الغرب عن هذا الإكراه الموجه نحو العالم في الامتثال الى الشروط الغربية–الأوربية في الديمقراطية وحقوق الإنسان وقائمة من المطالب الاجتماعية والثقافية التي انتهت أخيرا الى حقوق المثلية وتغيير الهوية الطبيعية للبشر عن طريق التحولات الجنسية التي بدت فيها الفردية الليبرالية بأسوأ مآلاتها وأحط نهاياتها.
وقد كانت تلك المآلات ناتجة عن عسر الكونية في المبادئ الليبرالية التي تجاوزت النسبية الاجتماعية والثقافية التي تحكم أنظمة العالم وتقاليده الاجتماعية والثقافية وصولا أحيانا الى الإخلاقية، وإذا كانت الفردية تعبير عن الحرية المبدأ الأساس في الليبرالية الكلاسيكية أو النظرية فإن الليبرالية في تطبيقاتها السياسية وحتى الاجتماعية تحولت الى أدوات في القمع والإكراه المباشر تاريخيا وغير المباشر إجرائيا، فالإجراءات الليبرالية قد ارتهنت بالقيم النفعية والمصالح المادية وتغليبها على القيم الإنسانية العليا وهو إكراه تمارسه وتبثه من خلال وسائلها الإعلامية والثقافية المهيمنة في العالم.
فالليبرالية وفق منظريها لاسيما الحديثين واستنتاجا عن نظرياتها المؤسسة لها هي ذات منزع مطلق وثابت تاريخي وغير قابل للاستثناء من القاعدة، وهو ما يفسر ذلك الإكراه المتبع من جانب أنظمتها السياسية، ويفسر أيضا ذلك التعنت الغربي لا سيما الأميركي تجاه الثقافات والتقاليد الفاعلة والموجهة للإنسان والحياة في مجتمعات الشرق لا سيما مجتمعات المسلمين.
وأخيرا أضاف إليها الغرب مجتمعات روسيا والصين وصنفت دولها تحت يافطة الأنظمة الدكتاتورية التي تعد ألد أعداء الليبرالية وفق التوجيه الثقافي والليبرالي لمجتمعات الغرب والمسؤولة عن ترويجه الليبرالية السياسية، فيما تتجاهل الليبرالية الفكرية التعامل مع الثقافات الاجتماعية الأخرى وفق مبدأ التسامح الذي ترفع شعاراته وتطالب العالم بالعمل به.
وأما الليبرالية الاقتصادية فإنها على استعداد للعمل مع كل الأطراف والأنظمة التي توفر لها فرصا استثمارية مربحة وتتجاهل كل قيمها الليبرالية التي تنتمي إليها فكريا وثقافيا، وذلك هو أشد تناقضات الليبرالية الذاتية ونقيضها الكامن في صيروراتها التاريخية والمسؤولة عن كل الفوضى الحاصلة في عصور ازدهارها في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وما تسببت به من حروب ونزاعات أدت في كثير منها الى حالات القتل الجماعي والابادة في حروبها الكونية وقبلها في حروبها الداخلية في أوربا وحروبها الاستعمارية في العالم.
ولازال هذا العالم تعصف به الفوضى الناجمة عن التناقضات البنيوية في الليبرالية التي تحكم العالم نظريا بالحرية ومبادئ حقوق الإنسان وعمليا بدكتاتورية المال والقوة التي تبسط نفوذها الدولي من خلالهما وتدع العالم دوما على شفا حرب كونية، باتت ملامحها تنذر بخطر وقوعها نتيجة سياسات فرض القوة التي تنتهجها استراتيجيا الدولة الليبرالية الكبرى وهي تتقمص سياسات نظام مستحدث وطارئ على التاريخ السياسي للعالم، وهو النظام الدكتاتوري الدولي الذي تعد الولايات المتحدة الأميركية ممثله ومحتكره السياسي والاقتصادي وهو نتاج التورم غير المسيطر عليه في ثيمة الفردية في النظرية الليبرالية.
اضف تعليق