لا أعرف من القائل أن هناك في قلب الظلام زاوية مضيئة علينا أن نبحث عنها دونما ملل ولا كلل حتى نعثر عليها كي نعمل على ردع الظلام، وإذا افترضنا أن الخدمات الصحية في العراق دون المستوى المطلوب، وهذا ما يشير إليه الواقع، والشواهد كثيرة على ذلك، ولكن في قلب هذا الظلام...
لا أعرف من القائل أن هناك في قلب الظلام زاوية مضيئة علينا أن نبحث عنها دونما ملل ولا كلل حتى نعثر عليها كي نعمل على ردع الظلام، وإذا افترضنا أن الخدمات الصحية في العراق دون المستوى المطلوب، وهذا ما يشير إليه الواقع، والشواهد كثيرة على ذلك، فإن الظلام الصحي موجود في هذا الجانب ويهيمن عليه.
ولكن في قلب هذا الظلام لابد أن نعثر على مصابيح صحية متفردة تضيء هنا أو هناك، منها الخبر الذي قرأناه قبل أيام قليلة تعرض شاب عمره 24 سنة إلى حادث دهس مما تسبب له بنزيف في الدماغ أفقده الوعي وتوقف قلبه عن النبض مدة عشرين 20 دقيقة، لكن فريق طبي مثابر مكون من عدة أطباء استطاع أن يعيد الحياة إلى هذا الشاب واستعاد القلب عمله بعد عشرين دقيقة من التوقف.
حدث في محافظة الديوانية بحسب مصادر إعلامية، ولو أن هذا الأمر يحدث في دول أخرى لاشتعلت وسائل الإعلام العالمية من أقصاها إلى أدناها، ولهذا تعد هذه الحادثة الصحية واحدة من العلامات المشرقة في التاريخ الصحي العراقي.
ما أريد أن أتحدث عنه في هذه الكلمات ما عشته بنفسي ورأيته بعيني في المستشفى التركي في كربلاء (مستشفى الإمام الحسن عليه السلام)، فواقع الخدمات الصحية المظلم، فيه مصابيح مضيئة، والحادث الطبي الجراحي أعلاه الذي حدث في الديوانية هو أحد هذه المصابيح، لكن المستشفى التركي هو شعلة كبيرة ومضيئة على الدوام، ولها القدرة على طرد الظلام عن الخدمات الصحيحة المقدَّمة من قبل وزارة الصحة العراقية للمواطنين.
بشاشة وجوه الأطباء
حين دخلت إلى المستشفى التركي مع مريض هو أحد أفراد عائلتي، فوجئت أولا بالتعامل الإنساني الأخلاقي العالي من قبل حماية المستشفى (الشرطة) المسؤولين عن دخول وخروج المراجعين من المستشفى، فقد استقبلونا بكلمات الترحيب والود، وبدا في وجوههم بشاشة لم نرها في وجوه الذين يقدمون الخدمات للناس في الدوائر الرسمية، حيث تكون وجوههم في الغالب عابسة وغاضبة وفي أفضل الأحوال صامتة.
بعد الدخول في باطن المستشفى فوجئنا بالنظافة الكبيرة، والمظهر الأنيق للممرات والردهات والغرف، ونظافة الزجاج والأبواب، بالإضافة إلى التصميم الراقي والمصاعد الصالحة للعمل، وكانت وجوه الأطباء والممرضات طافحة بالبشر والابتسام، كأنك تدخل في مكان ترفيهي وليس مستشفى، وهذا المشهد الإنساني الراقي انعكس بشكل مباشر على نفوسنا ووجوهنا، فشعرنا بالاطمئنان الكبير.
ثم لاحظتُ طبيعة العمل المنظّم حيث يقوم الجميع كل بعمله على أفضل وجه، وهناك طابور للرجال وآخر للنساء للحصول على تذاكر أو بطاقات العلاج بطريقة سلسة جدا، وعندما وصلنا إلى قسم (الدَيْزلة/ غسيل الكلْية) استقبلنا موظف الاستعلامات بأسلوب لطيف محبب، ثم استقبلنا مسؤول هذا القسم الأستاذ (عبد الحسين فرهود) بطريقة أكثر من رائعة، حيث الترحيب وبشاشة الوجه وتسهيل المراجعة إلى أقصى حد ممكن.
وبعد الاجراءات الورقية التي تم انجازها في دقائق، مع بقاء الأسلوب الإنساني اللطيف حاضرا عند جميع العاملين والموظفين في هذا المستشفى، جاء دور العلاج العملي وبدأ (غسيل الكلية) وراح الكادر يقوم بواجبه بطريقة إنسانية كبيرة، توحي بأننا في مستشفى خاص ونحصل على هذه الخدمة مقابل ثمن كبير مدفوع مسبقا.
التعامل الإنساني العالي مع المرضى
لكننا في الحقيقة لم ندفع دينارا واحدا لأننا في مستشفى عائد للحكومة العراقية، وفي أثناء العمل المستمر والخدمة المتواصلة لعدد غير قليل من المرضى، لاحظت قدوم شخصين إلى قسم غسيل الكلية، وتكلما مع المسؤول وتبيّن أنهما من قسم التفتيش والمراقبة، وقد أبديا بعض الملاحظات والتوجيهات وأكدا على أن المرضى هم أمانة في أعناق العاملين في هذا القسم وسواه من اقسام المستشفى، ثم سألا بعض المرضى والمرافقين لهم عن طبيعة وجودة الخدمات الصحية المقدَّمة، بعد ذلك شدّا على أيدي العاملين وغادرا المكان كأنهما ملاكيْن صالحيْن وليس مهمتهما المراقبة والتفتيش.
وقبل نهاية عملية الغسيل التي تستمر بين ثلاث إلى أربع ساعات، يتناوب الأطباء المختصون على زيارة المرضى وتدقيق ملفاتهم وتقاريرهم وتحاليلهم الصحية، ويسألونهم بعض الأسئلة ثم يكتبون لهم العلاج الطبي المناسب والمطلوب، مع حضور بشاشة الوجوه بطريقة ليست مقحمة ولا مصطنعة وإنما تشعر بها طبيعية وصادقة.
بعد الانتهاء من تقديم هذه الخدمة الطبية يتم تحديد جلسات الغسيل القادمة، وفق جدول زمني ومواعيد دقيقة جدا لاستيعاب جميع المرضى، دونما أي تداخل أو تضارب أو زحام حيث يحصل الجميع على العلاج الذي يبقي المرضى على قيد الحياة شرط الاستمرار بغسيل الكلية بشكل دائم ومنتظم، وبعد المغادرة، يودعك (الشرطة) عند باب الخروج من المستشفى بنفس الوجوه الكريمة السمحة...
وعندما خرجنا من المستشفى وابتعدنا عنها قليلا سألت ابني: هل هذا المستشفى حكومي؟، فأجاب: بنعم، ثم قلت له هل هو في العراق، فتبسّم وقال: نعم، وما الغريب في ذلك؟، فقلتُ له: إنه مصباح أو شعلة صحية في كتلة كثيفة من الظلام.
اضف تعليق