q
النظرية النقدية صيغة جديدة للنقد يقوم على المبادئ الأصيلة للفكر التنويري، ويرسم هذا النقد ملامح العصر وآفاق البناء للمشروع الحداثي، عصارة الآراء والأفكار الرامية للنقد وإعادة البناء للمجتمع ككل إيمانا من الرواد الأوائل بضرورة العمل على نقد ما هو شمولي أيديولوجيا، ونقد لما هو زائف يعيق النظر...

النقد آلية في الفهم وإعادة البناء بالمنظور الكانطي للكلمة، نقد للنظرية التقليدية والنظر للمجتمع بناء على التاريخ ومسار تطور للمجتمعات الغربية الصناعية دون التوسيع من هامش الفكرة لإلغاء التسلسل والترابط في الحضارة الإنسانية أو السير من البداية نحو النهاية والاكتمال في فلسفة الوعي والحرية على الطريقة الهيجيلية.

طابع النظرية النقدية أنها ثورية، بمعنى آخر أن النظرية النقدية صيغة جديدة للنقد يقوم على المبادئ الأصيلة للفكر التنويري، ويرسم هذا النقد ملامح العصر وآفاق البناء للمشروع الحداثي، عصارة الآراء والأفكار الرامية للنقد وإعادة البناء للمجتمع ككل إيمانا من الرواد الأوائل بضرورة العمل على نقد ما هو شمولي أيديولوجيا، ونقد لما هو زائف يعيق النظر في أهداف العقلانية الغربية وانحراف اليسار عن التنوير، كذلك مناهضة النزعة المادية، واختلال النظام الرأسمالي في تكريس الطبقية والهيمنة.

ملامح النقد بناء المجتمع الديمقراطي التعددي، ناهيك عن الانتقال النوعي نحو مجتمع الحرية والعدالة، ولنقل بعبارة أخرى طموح الجيل الأول والثاني للمدرسة النقدية تحرير الفرد والمجتمع من سلبيات الثورة الصناعية، وتحريره من استلاب الآلة الإعلامية، وبذلك يتم ترسيخ فلسفة جديدة بمثابة ثورة وانقلاب في القيم بعيدا عن النظرية التقليدية، كما رسمتها الوضعية والماركسية الفجة والعقلانية الأداتية والنظم الفاشية، ميلاد مدرسة فرانكفورت من خلال تأسيس معهد البحث الاجتماعي بعد الحرب العالمية الأولى، معهد متشعب الدراسات والرؤى في صميم النقد للمجتمع البورجوازي وأزمة الإنسان المدجن فاقد للبعد الثوري والإنساني أو الإنسان دو البعد الواحد، الذي يعاني الاغتراب والاستلاب، ويفتقد للتنوير.

مشروع المدرسة بكل أطيافها وروادها بناء نظرية متعددة المصادر والمنطلقات، مدرسة تعنى بالحياة والواقع، وتقلل من هيمنة النزعة الوضعية والعقلانية الأحادية، ولا يعني الرفض المطلق للماركسية أو الوضعية، لكن هناك قصور في النظريات الأحادية عن استيعاب المتغيرات والظروف الاجتماعية التي تشكلت ونتج عنها ثقافة جديدة، مراحل تطور المدرسة من البدايات حسب توم بوتومور في كتابه "مدرسة فرانكفورت" تنقسم لأربع مراحل أساسية عرفت من خلالها نموا وتراكما في الأفكار والمواقف، بين الجيل الأول ويمثله "هوركهايمر وأدورنو وماركوز" والجيل الثاني ويمثله "هابرماس وأكسيل هونيت".

والمراحل المتتالية عرفت تطور للنظرية وحضور النظرية الماركسية في النقد، والمرحلة الجديدة تتعلق ببناء منطق جديد يسترشد بمنجزات العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ذلك يعني الزيادة في جرعة الحداثة وتأسيس حركة تنوير جديدة قوامها التواصل المبدأ المؤسس للمجتمع، العقل التواصلي ضد العقل الشمولي المنغلق، وضد العقل الاداتي، حدود هذا العقل في الادعاء والهيمنة، وبسط السلطة التي لا تؤمن بالحوار والتشارك أو لا تساهم في بناء عالم مشترك للتفاعل والتبادل، لأن المجتمع شبكة من العلاقات أساسه التواصل، ويستدعي هذا الفعل قدرات وكفاءات أخلاقية ولغوية في التوجيه وليس الهيمنة، هذا المجتمع الرأسمالي الصناعي يشوبه النقص ويعتريه التشويه من هيمنة الايدولوجيا الأحادية، وكل الأدوات التي تعمل على الحد من توهجه، من الثقافة الاستهلاكية، والإعلام التابع للشركات المهيمنة، وكذلك الطابع التقني لوسائل الإنتاج، وهنا يتحدد موضوع النقد.

تأسس معهد البحث الاجتماعي من طرف النمساوي في الاقتصاد السياسي الماركسي كارل غرونبرغ، تبنى المعهد ماركسية متفائلة أو استلهم بعض أدوات التحليل الماركسي في نقد الاقتصاد السياسي والنظام الرأسمالي بصفة عامة، هذا النقد الصريح الخاص بتقسيم العمل والتشيؤ والاغتراب، ومجمل الآثار المادية والنفسية على العمال في المجتمع الصناعي، ولأن المجتمعات الغربية نتاج للسيرورة في الإنتاج والتطور، اقتضى الأمر التنويع في الطرائق وأدوات الفهم من خلال توظيف مناهج وتقنيات العلوم الإنسانية، مجال السوسيولوجيا والتحليل النفسي، فكانت نشأة المدرسة النقدية نتيجة العوامل السياسية والاقتصادية، ومحاولة في انتشال الإنسان من الأزمات المتعددة، وإحياء روح الابستيمولوجية الكانطية في مبدأ التنوير، واستعمال النقد كأداة للتحرر والفهم من هيمنة الأنظمة الشمولية.

فالوضعية غير ملائمة في فهم الحياة الاجتماعية، طابع النظرية النقدية أنها ثورية تنويرية، والنقد للواقع السياسي والاجتماعي هو الأساس للبحوث الاجتماعية، طموح هؤلاء الرواد بناء نظرية عقلانية جديدة تعيد الاعتبار للإنسان وتنتشله من هيمنة الثقافة الأحادية السائدة في الإعلام والفن والتلفزيون، وكل أشكال الدعاية، ووسائل الاتصال الجماهيري، في مهمة ترويض الإنسان، هذا المجتمع الأحادي يقيم التعارض مع النظريات المناوئة والمخالفة في الرؤى، فالعقلانية الغربية حسب "هربرت ماركوز" و"هوركهايمر" رسخت الطابع التقني، خلق هذا المجتمع حاجات زائفة وإنسان نمطي التفكير والسلوك، ركبت في الفرد مجموعة من الحاجات الاستهلاكية، مجتمع اللذة في حاجة للتوازن بين الايروس واللوغوس، ثورة على عالم يعتريه الاختلال، ويسوده الاضطراب بفعل الرغبة الجامحة في الاستهلاك والاندفاع نحو الربح، ماركيوز وفكرة الإنسان ذو البعد الواحد.

نقطة التقاء مع ماركس والماركسيين في مشكلة ماهية الإنسان ومشكلة معالجة تناقضات المجتمع الصناعي بناء على واقع الحال للمجتمعات المعاصرة، وفي واقع القهر الاجتماعي واستلاب الإنسان واغترابه، دعوة لمناهضة اقتصاد السوق والنظريات التقليدية خصوصا الوضعية والعقلانية لأن المجتمع الصناعي المتقدم يكرس للبعد الواحد، ويرسخ فكرة التنميط،، من التبعية للسيد والعبد إلى التبعية لنظام السوق، كما تعمل التكنولوجيا بكل أدواتها المتطورة على ذلك من خلال التوحيد والشمولية، والعمل على صناعة الثقافة التي ينهل منها الجميع، فمن المستحيل أن يختار الإنسان أسلوب حياته، وأن يكون سيد نفسه، ما يرغب في بنائه ماركوز يتعلق باستشراف وإقامة مجتمع الوفرة، مجتمع الحب والجمال، تلك الحياة الجمالية التي يتجلى في إيقاعها إنسانية الإنسان بعيدا عن الاستلاب والرتابة.

يتسلح رواد مدرسة فرانكفورت بالفكر الماركسي والجدل الخاص بهيجل، ويأخذون مجموعة من المفاهيم، ومن هناك يطمحون في نقد المجتمع من أجل تنوير يعيد الاعتبار للإنسان، هناك قهر يمارس على الإنسان تحت هاجس الخصاص والحرمان، وبدافع الزيادة في الإنتاج، والسيطرة على الطبيعة، وإذا تأملنا في غايات النظام الرأسمالي الصناعي فإننا نعود للوراء، للزمن الذي سادت فيه النزعة الوضعية والعقلانية العلمية الغربية لتحليل الواقع الإنساني اليوم، هذا التحليل لا يقتصر على فهم وتفسير الدولة وأيديولوجيتها لكنه يعمل كذلك على بناء نموذج للمجتمع المتحرر من هيمنة التقنية وسلطة العقل الاداتي، مشروع مستمر ومتجدد من قبل "هابرماس"، هذا المشروع مؤسس على تأملات فكرية في أعمال السابقين من الفلاسفة ورواد علم الاجتماع الغربي.

مشروع بناء نظرية الفعل التواصلي، وفكرة الفضاء العام كنماذج لإرساء السياسات الديمقراطية، وتفعيل النقاش العمومي السبيل نحو المجتمع المنفتح والمتعدد، العالم المعيش نتاج للتفاعل والانسجام بين الناس، يتشكل هذا العالم من قيم ورموز وخطاب يتخذ أبعادا تقنية وأخلاقية وجمالية تعبيرية، ما يرمي إليه هابرماس بالنقد كل ما هو أحادي، وكل ما يقلل من الاضطهاد الاجتماعي، ويزيد جرعة في الحداثة، من هنا يتجلى التنوع في مشروعه الفلسفي الذي لا ينفصل عن المشروع الحضاري الغربي في شقه السياسي والاجتماعي، حوار لا ينتهي مع الفكر السابق بالمجابهة والنقد والتجاوز معا، نقد للعقل الاداتي ونقد ماركس والكشف عن ماهية التقنية بوصفها أيديولوجيا العصر، وضبط العلاقة بين المعرفة والسلطة للخروج من هيمنة وسائل الاتصال والسلطة والمال.

إنه يرغب في بناء عالم جديد يكون فيه الامتثال العقلاني الطوعي أفضل من الانصياع العاطفي، تكون الشرعية للقانون والرأي العام الموجه لكل فعل ينطلق من الفضاء العمومي، ويستجيب للتحولات البنيوية دون أن يهيمن الفكر الشمولي أو الايدولوجيا التي تدعي الكمال والحقيقة، هابرماس منظر اجتماعي وسياسي، فكره يتغلغل في سياسة الدولة الألمانية، وينتشر في مجتمعات أخرى لما ينطوي عليه من جدة وأصالة، يتناسب هذا الخطاب والرؤية للتقدم والاختلاف.

أسس النقد يتمركز في هدم فلسفة الذات وفلسفة الوعي، وغاية الفعل التواصلي البحث عن المشترك الإنساني الذي يرسي التفاهم والتواصل بين الذوات، لا معنى للهيمنة والإرغام، اللغة جسر مهم لإقامة علاقة تفاعل بين الناس، أو تأسيس عقلانية تواصلية مما يعني تأثر هابرماس بإسهامات الفلسفة التحليلية، وتصنيفات ماكس فيبر للفعل الاجتماعي وأبحاث "بارسونز" وملامح من البرغماتية والمدارس السوسيولوجية المعاصرة عن دلالة الرموز وقيمة المعنى، حيث نجد نقدا للماركسية في مفهوم القيمة، ونقل الأخلاق من التجريد إلى الواقع، ومن الفرد إلى المجتمع، الوسائل الممكنة تتعلق باللغة والألفاظ المناسبة، مجموعة من المعايير المساهمة في خلق مجال للتواصل، ومجموعة من العوائق ضد التواصل وأخلاقية المناقشة كالربح والمال والتسلية، وتزييف الوعي الاجتماعي من خلال الآلة الإعلامية، وتوجيه الرأي العام أيديولوجيا، العقلانية التواصلية نمط تفكير وأسلوب للحياة الاجتماعية والسياسية تتأسس على التواصل والتفاهم، وعلى روح المجتمع المفعم بالحرية والاختيار، فلا يمكن إغفال المحددات الأساسية كالديمقراطية الاجتماعية والتشارك، وسلطة الرأي العام.

التعبير هنا مطلب مهم، والفضاء العمومي سابق على القوانين المدنية، والفعل ليس دائما تواصليا بل يكون كذلك من أجل منفعة أو مصلحة، ويمكن تقسيمه حسب الأهداف والغايات، نماذج من الفعل المحدد بالغائية والفعل المحدد بمعايير الجماعة، والفعل الدرامي، والفعل التواصلي، فعل هادف لتبادل المعلومات والأفكار والخبرات بين الذوات المتفاعلة، العقل التواصلي فاعلية لتجاوز العقل المتمركز حول ذاته، تجاوز العقل المنغلق الذي يدعي الإطلاقية والدقة والتعميم.

العقل التواصلي فعال في تجسيد التواصل، ينشد تأسيس الفضاء العمومي كمجال للنقاش، وأخلاق التسامح، عقل يروم نبذ العقائد والأيديولوجيات المنغلقة والشمولية، هذا الفضاء العمومي ما هو إلا المجتمع المنفتح الذي يحقق الديمقراطية والتشارك في صناعة الحياة السياسية والاجتماعية، فضاء عمومي تلتقي فيه الذوات للحوار والتفاهم كأنه الفضاء العمومي اليوناني الموسع الذي شمل المجتمع بكامله، ويرمي لتوسيع هامش بناء الفكرة، وتفعيل القرار والرأي من الوسط العام.

الفضاء العمومي بمثابة فكرة وأيديولوجية يشارك فيه الناس بوصفهم أندادا وأضدادا، في نقاش عمومي طلبا للحقيقة والمنفعة العامة، بعيدا عن ثقافة الصالونات والنوادي والمقاهي في القرن التاسع عشر، الفضاء العام يستوعب المكونات الاجتماعية، يعيد تشكيل وبناء الرأي دون تزييف الوعي، وتوجيه الجماهير من خلال هيمنة القوة الإعلامية، السيادة هنا للشعب، وهو المبدأ الأصيل للديمقراطية، الفضاء العمومي حلبة للحوار والسجال الفكري في قضايا مختلفة، يوجه ويراقب وينتقد مجمل السياسات العمومية، يطرح أفكارا للنقاش والحوار، ويعتبر هذا الأمر بمثابة فكرة سليمة في مجتمع ديمقراطي يتميز بالحريات والمشاركة الواسعة في السلطة، والقوة الإقتراحية للأفراد، إنه الحيز المعنوي الذي يتم فيه عقد النقاشات العامة، من أجل اتخاذ القرارات التي تساعد على تدبير الشأن العام.

يضاف الفضاء العمومي لمجموعة من المفاهيم المترابطة في بناء الدولة الليبرالية، في بعدها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فضاء للحرية والعدالة والسيادة للشعب، يتشكل من القوى الحية في المجتمع، ومن الأفراد والجماعات، ومن هنا يتبلور الوعي الجمعي وروح المجتمع الديمقراطي في إقامة أنظمة عادلة، ومدخلا مهما للزيادة في الديمقراطية، كما يقلل من استفراد النخب في صياغة القرارات الأحادية دون العودة للرأي العام، وما يتم تداوله من أفكار مفيدة للمنفعة العمومية.

هكذا يمكن اعتبار مدرسة فرانكفورت بروادها من الجيل الأول والثاني مدرسة في النقد والبناء للمجتمع الديمقراطي المتجدد وللعقلانية التواصلية. آراء تصب في تمتين الحوار والتفاهم وعدم الإقصاء أو التقليل من الآخر، الفعل التواصلي بديلا للعقل الأداتي ونقيضا للإكراه والهيمنة.

اضف تعليق