سيكون من الجيد بناء العراق نصباً موازياً لنصب الحرية يسمى "نصب المسؤولية"، ليبرز فيهم كل من يجد في نفسه الكفاءة على اتخاذ القرارات الصحيحة مكاناً لإظهار هذه الكفاءة ويكون محفزاً لغيره ليكون مسؤولاً عن نفسه، وهذه الفكرة تنطبق مع الدستور العراقي الذي يعلي من شأن المواطن ويجعله صاحب السلطة الأعلى...
يقف نصب الحرية شامخاً وسط العاصمة بغداد في منطقة الباب الشرقي، وقد تحول إلى رمز للثورة ضد أخطاء السلطة الحاكمة لنظام ما بعد ٢٠٠٣، فالتظاهرات والتجمعات المناهضة للقوى المهيمنة اتخذت من ساحة التحرير ومحيطها منطقة حصرية للصوت المعارض ورمزاً للتحرر من قيود السطوة والسلطة.
والحكومة السابقة برئاسة السيد مصطفى الكاظمي انتبهت لرمزية ساحة التحرير فأعادت تأهيلها تقرباً من القوى المعارضة لنظام الحكم والأحزاب والمهيمنة على مسارات اتخاذ القرار في العراق الديمقراطي.
لم تكن ساحة التحرير مجرد نصب تذكاري للحرية، بل هي ممارسة فعلية يومية نشاهدها في الفعاليات السياسية والاجتماعية المعبرة عن أصحابها.
لكن الحرية وحدها لا تكفي لتحقيق شروط المجتمع الديمقراطي المعتمد على نفسه في إدارة الدولة والمعبر عن هذه الاعتمادية دستورياً بأن "الشعب مصدر السلطات"، أي هو من يستطيع اختيار من يحق له تسنم المناصب السياسية في العراق وهم أعضاء البرلمان.
ولا يمكن للمواطن اختيار ممثليه بشكل يطابق الواقع إلا من خلال تحمله المسؤولية، وأي مسؤولية؟
أن يكون الفرد مسؤولاً عن تصميم عقله وتفكيره بالطريقة التي يراها مناسبة، والمواطن المسؤول وفق هذا المنظور ليس ذلك الذي يصرخ في ساحة التحرير ضد السلطة الحاكمة بينما يقف مع جزء آخر منها لأن هذا الجزء ينتمي لايدلوجيته، رغم تشابه الجزأين في الفشل الإداري والهدر المالي والسطوة على موارد البلاد.
شاهدنا الكثير من هؤلاء المتظاهرين في فترات سابقة، فهم ينتمون إلى قوة سياسية معينة ويأتمرون بأوامرها، حتى حينما يخرجون بتظاهراتهم المطالبة بإصلاح الوضع السياسي، تحدد شعاراتهم مسبقاً بقرار من الزعيم فقط.
قد يجادل البعض أن هذا جزء من نشاط الأحزاب السياسية، بينما الحقيقة غير ذلك، فالنشاط السياسي لا يعني الخضوع التام لزعيم الحزب، بل ان القرارات داخل الأحزاب يفترض أنها تتبع منهاج الحزب لا زعيمه، وحتى الزعيم نفسه يخضع للمنهاج العام للحزب، لا أن يكون الحزب أداة لقمع آراء الأعضاء الآخرين وإبراز جوانب السلطوية للزعيم.
فالحزب في النهاية مؤسسة تعمل على تنشئة القادة السياسيين، لا ان تتحول إلى أداة للطاعة العمياء.
عضو الحزب هو شخص مسؤول عن تصرفاته وفق ما يتناسب مع البرنامج السياسي للحزب، وهذا البرنامج بكل تأكيد قد خضع لنقاشات معمقة، ورؤية وأهداف محددة، وعلى أساس الرؤية والاهداء يستطيع الأشخاص الانتماء له.
وحينما تكون داخل مؤسسة حزبية تتحمل مسؤوليات كبيرة تجاه البلد، فانت كمواطن دخل في مضمار مهم لخدمة المجتمع.
لو طبقنا جملة من المعايير الناظمة للعمل الحزبي سوف نجد العديد من الأنشطة التي نقوم بها باسم الحرية والتعبير عن الرأي تخلو من القرار الحر، بل تخلو من تحمل المسؤولية.
العديد من الأشخاص يرفعون شعار "شدها براس عالم واطلع منها سالم"، والمقصود هنا الهروب من تحمل المسؤولية وإلقاء مسؤولية اتخاذ القرارات المصيرية على عاتق شخص واحد، إما يكون زعيماً لحزب سياسي معين، او شيخ عشيرة او رجل متنفذ بصفة من الصفات الدينية وغيرها من مراكز القوة والقرار.
الحل الأفضل لظاهرة الاتكالية السياسية، هو بتحمل المسؤولية من قبل المواطنين أنفسهم، عبر تعليم أنفسهم في مختلف مجالات الحياة وبما يصب في مسار محدد يجعلهم قادرين على اتخاذ قرارات مسؤولة.
والتعليم المدرسي والجامعي سيكون احد أبرز الروافد لتخريج مواطنين مسؤولين عن اتخاذ قراراتهم وغير اتكاليين بشعارات "شدها براس عالم واطلع منها سالم".
وسيكون من الجيد بناء العراق نصباً موازياً لنصب الحرية يسمى "نصب المسؤولية"، ليبرز فيهم كل من يجد في نفسه الكفاءة على اتخاذ القرارات الصحيحة مكاناً لإظهار هذه الكفاءة ويكون محفزاً لغيره ليكون مسؤولاً عن نفسه.
وهذه الفكرة تنطبق مع الدستور العراقي الذي يعلي من شأن المواطن ويجعله صاحب السلطة الأعلى في الدولة والمالك الأول للقرار في البلاد.
لماذا لا يكون لدينا نصب للمسؤولية.
اضف تعليق