q

جميل هو البحر كعينيك.. هادئ كمحيّاك.. عميق كأفكارك.. كبير بحجم أحلامك او ربما آلامك..

ومخيف كطريقة حتفك!!

ها هو البحر التهمك إذاً.. فتح ذراعيه وضمّك الى أحضانه بعد أن قذفك الوطن وأغلق ذوو القربى أبوابهم في وجهك..

فضلته على تراب الوطن فعانقت أمواجه جثمانك..

وغرقت مع أحلامك..

وقفت سناء على ساحل حزنها وبؤسها تروي البحر بدموعها وتشكو إليه همومها..

عادت الذاكرة الى الوراء واسترجعت كلمات ابنها الوحيد وكل ما تملك من هذه الدنيا..

"أفضل الموت في عرض البحر على حياة الذل والفقر والخوف"

عبثا حاولت إقناعه بالعزوف عن قرار الهجرة.. كانت تؤثر الصمود والبقاء في أرضها على حياة الغربة..

ولم تكن لتسمح له بالسفر دونها ولا هو سيقبل بتركها وحيدة..

جلست على رمال الشاطئ بعد أن هدّها وقع المصاب..

كفكفت دموعها وتبسّمت هنيهة وهي تنصت لصوت البحر.. كم كان حسان يحب البحر..

لا يزال صدى كلام ابنها يتردد على مسامعها وهو يردد أبياتاً شعرية لنزار قباني ويخاطبها..

هل تجيئين معي الى البحر؟

لنحتمي تحت عباءته الزرقاء..

هل تدخلين معي في احتمالات اللون الأزرق..

واحتمالات الغرق والدوار..

أجابته ممتعضة: لنحتمي بخيمة الوطن..

لا أريد الدخول في احتمالات الموت والغربة؟

أضافت بحزن "البحر غدار" يا ولدي..

أجابها بغضب "والزمن غدار" فضلا عن ذلك.. كثيرا ما تكذب الأمثال..

ثم أترغبين أن تنتهي حياتي ومشاريع مستقبلي برصاصة كاتم تخترق رأسي كما فعلوا بأبي الذي راح دمه هدرا وهو من خيرة الضباط وقد كرس حياته لخدمة الوطن!!

الوطن لا يرضى لنا بعيشة الذل ونحن نلهث وراء لقمة العيش والكرامة بعد أن تخلى عنا الجميع..

لم تقوى على مجاراته في حديثه المنطقي..

في نهاية المطاف وافقت كارهة بالمخاطرة بحياتهم في سبيل الوصول لبلاد الأمن والرفاهية حيث ستقدر هناك مواهب ابنها الذكي الطموح في الوقت الذي لم تستطع بلاده أن تحقق أمانيه اللامتناهية..

طاوعته مرغمة وهي التي جن جنونها عندما علمت أن في تلك البقاع لا اذان يرفع ولا مقام يزار!!

إلا أنها ضحت برغباتها في سبيل ابنها وطاقاته التي أخمدها العمل المضني الذي لا يليق لا بمكانة أبيه ولا بقدراته المتميزة..

باعت ام حسان حليّها وهيّأت ما ادخرته طيلة حياتها لتحمّل تكاليف السفر وهي التي احتفظت بها قبلا لتزويج قرة عينها..

لكن جرت رياح آمالها بما لا يشتهي القدر!!

يمَّمت وجهها شطر البحر وهي تثق بنداء داخلي يخبرها بأنها ستعود قريبا..

لم يكذب إحساسها يوما.. فقد كانوا يسمونها بـ (صاحبة النبوءات)

كانت تعلم بأن زوجها سينال الشهادة.. وأنها ستدفن بالقرب منه..

أما حسان فلم تستطع أن تتنبأ بمستقبله سوى أنه سيترك المدرسة على الرغم من تفوقه..

جمعتها سفينة الموت بالكثير من البؤساء اختلفت بلدانهم وتشابهت معاناتهم..

كأنهم هاربون من مدينة ضربها الطاعون..

أعطت العذر لهجرة البعض ولامت البعض الاخر..

مساكين.. تقطعت بهم السبل.. فروا من الفقر والنزاع.. يستجدون الرحمة من أجانب يحملون فيضا من الانسانية المفقودة في أوطانهم..

بكت بحرقة وهي تسترجع الفصل الاخير من قصة هذا السفر.. تذكرت مشاهد الذعر والهلع.. أطفال صغار ونساء وشباب بعمر الورود قضوا نحبهم في ذلك الحادث الأليم..

إنثقب بالون أحلامهم التي لم يقدر لها ان تتحقق..

كانت سناء من القليلين ممن ظفروا بـ سترة نجاة.. فلم يوجد منها العدد الكافي في سفينة حملت أضعاف قدرة تحملها!!

كان حسان يجيد السباحة وقد سابق الموج ليصل الى الشاطئ.. لكن الموت كان الأسبق إليه!!

الموت خطف الواحد تلو الآخر وأطلق سراحها!!

الشمس تجنح للمغيب.. وسناء واضعة رأسها بين ركبتيها.. غارقة في بحر من الذهول.. غير مصدقة ماذا جرى!!

خطت بيدين مرتجفتين كلمات عتاب وحزن على ورقة.. ورمتها في البحر..

نظرت الى الأفق البعيد وهي تتمتم..

في أمان الله يا ولدي..

اما انا فعائدة الى وطني و(كل عاشق صوب محبوبه يميل)

على الرغم من كل التسهيلات التي قدموها لي وقبولهم لطلب اللجوء والإقامة في أي بلد أريد.. معززة مكرمة كما كنت تردد دائما!!

إلا اني أؤثر العودة الى الوطن.. وهو في أسوء حالاته!!

الى ارضي وارض اجدادي..

الى الحياة القاسية.. الى الفقر والخوف والظلم..

الى وطن انهكته الحروب ويزف في كل يوم شهيد..

الى بلدي المثخن بالجراح..

ولولا الأمل بنهوضه وتعافيه لما عدت اليه..

هي ليست نبوءتي.. هي نبوءة سماوية مقدسة..

سأعود وأضمّد جراحه مع الاوفياء الذين لم يتركوه وحيدا..

طعن الوطن في ظهره من الغرباء..

وها هو اليوم يطعن في قلبه ومن أبنائه وهم يتخلون عنه..

عادت أدراجها من حيث أتت وتركت على الشاطئ قلبا مكسورا فقد عزيزا.. لكنه ينبض بحب الوطن!!

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق