هل من السهولة ان يصنع الانسان عالما آخر عماده الحرية دون ان يسقط في الوهم، هذا اخطر ما يمكن ان يواجهه الكاتب او اي فنان، الوهم الذي يطمس الواقع بشكل يصل الى حد تشويهه. وفي أية تجربة ناضجة نعثر على ذلك الاحساس العميق الذي يضم في داخله طاقتين كبيرتين هما الخيال والحرية...
في عام 1986 فازت الارجنتين بكاس العالم, وكان مارادونا الذي تفجر ابداعا صاحب هذا الانجاز، سكر الارجنتينيون بنشوة الفوز في حين كان بورخس يحتضر في مكان ما من جنيف. ثم مات في العام نفسه, ونشوة النصر الكروي تلعب برؤوس الجميع، كان مارادونا الساحر قدرا غامضا ظهر هكذا بلا مقدمات, وكل ما قيل عن نشأته, وعشقه لكرة القدم كان غير مهم بالنسبة لنا.
كنا نراقبه, ونحن نشعر بشيء غير مفهوم على وجه الدقة، لقد كنا نحس,ونحن نراه ينطلق كسهم بان الواقع من حوله يهتز ويرتجف، كان مارادونا متمردا على صورة اللاعب الخاضع لقانون اللعبة, ومشاكسات الفريق الخصم.
في ذلك العام حدث ما حدث، مات بورخس العظيم, وظهر مارادونا حاملا كأس العالم للمرة الثانية بعد حصول الارجنتين على اللقب عام 1978. في صمت كبير رحل الشاعر والكاتب والمحاضر الكبير بورخس عن عالمنا. لم ينس الارجنتينيون لحظة فوزهم تلك الى هذا اليوم. انه عام مارادونا وهو يحمل الكأس هدية منه لبلده.
قد يصح ان اقول اي كاتب عظيم رحل, واي لاعب عظيم قد وجد. تبدو لي هذه القضية موت بورخس وظهور مارادونا نوعا من التعويض الذي تصنعه الحياة لحفظ توازن الابداع في العالم. اظن ان قانون التعويض غير مساره في هذه المرة الى اتجاه آخر, او وجهة اخرى رائعة.
لقد مات بورخس, ماذا يعني هذا للعالم وللمثقفين على الاقل؟ يعني ان الواقعية السحرية التي كان بورخس ممثلها الكبير ستتوقف او يصاب قمرها بالانكماش كجلد محترق. هذا هو ما يمكن ان يفكر فيه الانسان عند موت شخص له تاريخ كتاريخ بورخس.
لكن هذا لم يحصل فيد الحياة التي بلا حدود حفظت روح الواقعية السحرية من التلف, عوضت ذلك الرحيل بوجود آخر لا يقل روعة عن اثر بورخس الذي تعلمنا منه الكثير. كان لا بد ان يظهر بديل يكرر لنا حرية وخيال بورخس فكان مارادونا لاعب الواقعية السحرية الاعظم في تاريخ كرة القدم. ذلك الراقص الذي حبس انفاسنا.
وهذا ما اسميه بنسيج الحياة العام الذي يحيط بنا,ويمنح وعينا نوعا من المعرفة غير الروتينية التي تقلب ظواهر الواقع لترينا ما وراءه. هذه هي الواقعية السحرية التي منحها بورخس لجيل كامل من مثقفي القارة اللاتينية, وعلى رأس هؤلاء كان ماركيز وغيره.
حدود مرسومة
سيكون مارادونا بشكل من الاشكال وريث بورخس بدرجة كبيرة، وقد يظن الكثيرون ان بين الكتابة وكرة القدم مسافة بعيدة يتعذر على الانسان قياسها. هذا التفكير هو التفكير المنطقي الذي يتمرد بورخس عليه ولا يحبه. وفي كل قصائده وقصصه ازال الحدود المرسومة للنص فقالوا عن ادبه بانه ضد التجنيس، وهذه الصفة هي تمرد ادبي على قانون الكتابة الصارم.
في كتابات بورخس يوجد ذلك الغياب لمفهوم القصة والمقالة والنص النثري، يفضل النقاد وصف ادب بورخس بانه لا يخضع للتصنيف بسبب ذوبان ما تعارف عليه النقاد في كتابة القصة او المقالة. لم يكن بورخس محبا لذلك النوع من الكتابة الذي يظهر لنا بوقار مصطنع, ويتلون بمقدمات عقلية لا يستطيع بورخس هضمها.
لقد كان الفن عنده محاولة لتهديم مسلمات يظن الناس انها حقائق تفيد في زيادة معرفتنا الا انها لم تكن كذلك في اطار منهج بورخس الفني، فمثلا يظن الناس ان قوة الذاكرة هي تذكر كل شيء, لكن بورخس يقلب هذا الفهم ليتخيل شخصا يمتلك ذاكرة شكسبير, فكيف سيعيش؟ وكيف سيحس؟ وما هي نهايته؟
قوانين الواقع
بهذا الاسلوب الفني هدم بورخس قوانين الواقع ليضعنا في مواجهة واقع اخر،لذلك استطيع القول ان مارادونا هو اكثر الرياضيين الذين فهوا رسالة بورخس او اكثر من احس به، انه وريثه الشرعي الذي طبق في اثناء اللعب ما فعله بورخس وهو يكتب.
فهناك في مواجهة قوانين اللعبة, وامام فريق خصم كان مارادونا يحاول ان يكشف لنا واقعا اخر يقترب كثيرا من قصص بورخس. كان مارادونا يسجل الاهداف, ويراوغ برشاقة غزال, ويتلاعب بخصمه مبديا قدرا من المهارة يتفوق على حد القانون الذي يخفي مهارات اللاعبين من حوله. لم يكن يسلي متابعيه وانما كان مارادونا يمنحنا الامل في الايمان بان الواقع,وكل ما نراه ليس هو الافق الوحيد الذي يمكننا رؤيته. وهذا هو ما فعلته كتابات بورخس بنا.
اذن لنقل ان الرياضة تستلهم فن مدرسة الواقعية السحرية حين لم تسلم بقانون يفرض على الجميع ان يخضعوا له. وكما تمرد بورخس لتخليص الواقع من قيد ما هو روتيني وعقلي ومتفق عليه تمرد مارادونا على قانون اللعبة, فسجل بيده هدفا.
هذا لا يعني ان الهدف مقبول لكن الواقع لا يبقى كما هو بين قدمي لاعب ورث احساسا كبيرا بفرديته ولم يكن ذلك الهدف الا لقطة تنسجم مع تاريخ مارادونا تماما كما كانت اجواء قصص بورخس تنسجم مع مزاجه, وتشاؤميته غير التقليدية.
اهداف مارادونا هي استعارات بورخس. هناك تشابه كبير بين قصص بورخس, وحضور مارادونا في المستطيل الاخضر. الفردية الرافضة لكل ما يقيدها, واليقين بان العالم ليس محصورا في نطاق ضيق. وان الذات الانسانية تملك طاقة نورانية في الكشف عن خفايا الواقع الذي لا يراه الكثيرون. انها تجربة التخيل الذي لا يقهر, ولا يضعف امام برودة بعض استنتاجات العقل التي يصدقها من يصدقها. لنقل أننا امام تزيين الواقع, واظهاره بشكل لافت, وجميل.
الفردية, ونداء الواقع غير المرئي للروح الكبيرة, وكذلك الحرية, كل هذه القيم تتجلى في نصوص بورخس, وتنعكس ايضا في اقدام مارادونا الساحر, وكأن هناك تناغما بين فن الكتابة ورياضة كرة القدم. بمعنى ادق قدم مارادونا عالما متخيلا صنعه بنفسه.
وهل من السهولة ان يصنع الانسان عالما آخر عماده الحرية دون ان يسقط في الوهم، هذا اخطر ما يمكن ان يواجهه الكاتب او اي فنان، الوهم الذي يطمس الواقع بشكل يصل الى حد تشويهه. وفي أية تجربة ناضجة نعثر على ذلك الاحساس العميق الذي يضم في داخله طاقتين كبيرتين هما الخيال والحرية. واذا بحثنا في اي فن او لعبة او حياة انسانية فوجدنا فيها هاتين الطاقتين فسنشعر بأننا نتغير كي نفهم معنى نسيج الحياة, وحقيقة حياتنا خلف هذا النسيج الواسع بلا نهاية.
كتجربة شخصية افكر دائما بهذا الامر: كيف ننتبه لما يحدث؟ حين كان بورخس يكتب باسلوبه الذي يشبه تدريبا لجعلنا نستيقظ فجرا لمراقبة الحديقة او الافق كنت اعرف ما الذي فعله مارادونا. انه يدخل من الباب الذي فتحه بورخس. هذا يعني ان اسلوب اداء التجربة مختلف لكن الروح واحدة. انه التمرد على قيود الكتابة وازالتها, كما كان يفعل مارادونا في الملعب حين ينطلق متلاعبا بكل شيء. اذن هو الظهور الحي للخيال الذي يجعل الواقع الذي نعرفه يتضاءل لنرى واقعا اخر يختلف.
حين تحدث بورخس عن منهج الاستعارة في كتابه فكرت في الواقع بهذا الرجل المثير للانتباه الى حد العجب. ترى هل تتطلب الاستعارة منهجا كي تسمى بهذا الاسم؟وما اكثر الاستعارات والصور الشعرية التي تكوم في نص شعري قصير, وهذا الاسراف في استخدام الاستعارة اصبح دليلا على عدم وجود انفعال حقيقي في نص الشاعر.
لا اريد ان ابتعد عن كلام بورخس لاني اود ان اعلق على قضية فنية يواجهها الكاتب دائما وهي لحظة الكتابة, وما يرافق تلك اللحظة من غموض لا احد يحس به الا الكاتب نفسه. فهناك انفصال وعمل فردي كبير يقوم به هذا الكاتب او ذاك لانجاز رواية او ديوان شعر. لنتذكر انا اتحدث عن الكاتب الحقيقي, وفضلت ان اضرب مثلا ببورخس.
اضف تعليق