إنَّ مواقفنا الذهنية قابلة للتغيير. من ثم، فحتى إن كنا بفطرتنا ننزع إلى المثالي من الأمور ولا شيء دون ذلك، فمع الوقت والجهد، يمكننا التحوُّل إلى طريقة التفكير المتطورة لنتبنَّى رؤيةً أكثر إيجابية لكل جوانب الحياة تقريبًا، بدءًا من الكيفية التي نعمل بها على تحسين علاقاتنا وصولًا...
لعلَّ أهم خطوة نحو فهم طريقة التفكير هي معرفة أن الناس يَختلفون في الطريقة التي يُفكِّرون بها في مسببات الإحباط والفشَل في حياتهم. فبعض الناس يلومون أنفسهم وعيوبهم ونقائصَهم على الأحداث السَّلبية. فهم يَستغرقون في هذه العواقب السيئة ويجترونها ويَمعنون في تأنيب أنفسهم. وهناك ناس آخرون يتبنَّون طريقة تفكير أكثرَ إيجابية في مواجهة الفشل والإحباط. فهم يُدركون أن الصعوبات تحدث لجميع الناس ويحاولون أن ينظروا للأمور بموضوعية.
ولعلَّك تستطيع أن تتخيَّل أن الناس الذين يُظهرون رفقًا بأنفسهم في مواجهة الأحداث السلبية يَجنُون نتائج أفضل. فهم يُعانون من مستويات أقل من القلق والاكتئاب ويشعرون بسعادة أكبر ويُخالجهم تفاؤل أكبر بوجه عام إزاء المستقبل. فمثلًا طلبة السنة الأولى في الجامعة الأكثر رفقًا بأنفسهم خلال هذا التحوُّل الحياتي الصعب نَراهم أكثر اندماجًا وحماسًا في الحياة الجامعية.
طريقة التفكير التي نتبنَّاها لرؤية أنفسنا والعالم لها أبلغ الأثر في كل جوانب حياتنا تقريبًا، بما في ذلك السرعة التي نَسير بها، وقوة ذاكرتنا، وتفاعلنا مع أحبائنا.
لكن ها هو الخبر الأهم: إنَّ مواقفنا الذهنية قابلة للتغيير. من ثم، فحتى إن كنا بفطرتنا ننزع إلى المثالي من الأمور ولا شيء دون ذلك، فمع الوقت والجهد، يمكننا التحوُّل إلى طريقة التفكير المتطورة لنتبنَّى رؤيةً أكثر إيجابية لكل جوانب الحياة تقريبًا، بدءًا من الكيفية التي نعمل بها على تحسين علاقاتنا وصولًا إلى الطريقة التي نتقدَّم بها في العمر. نستطيع جميعًا أن نتعلم التفكير في الأشياء بأسلوب جديد، لنعيش حياة أكثر سعادة وأوفر صحة كثمرةٍ لذلك.
أدناه بعض الأمثلة على ما للتغيُّرات الدقيقة في طريقة التفكير من تأثير عظيم.
اتخذ وسمًا جديدًا
حتى التغيُّرات البسيطة في البيئة من الممكن أن تُحدِث تحولًا في مواقفنا الذهنية وتُؤثِّر تأثيرًا حقيقيًّا على المُحصلات. من الأمثلة على ذلك، عزم كيفن دورتي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بايلور، على تغيير مواقف الطلبة الذهنية من الاختبارات، المُثيرة للجزع دائمًا. فاستخدم استراتيجيات متنوعة لتغيير هذه التوقُّعات السَّلبية. مبدئيًّا، سمَّى أيام الاختبارات «احتفالات تعليمية» ليخلق توقُّعات إيجابية إزاء مستوى أداء الطلاب. وثانيًا، جاء في هذه الأيام ببالونات وزينة وحلوى ليخلق بيئة تعليمية احتفالية. كان هدفه هو «أن يُشيع جوًّا للتقييم يدعم التعليم والمرح.» بعبارة أخرى، أراد أن يتحوَّل بالمواقف الذهنية للطلبة تجاه الاختبارات من الرهبة والخوف إلى المرح والاحتفال. وقد أتَت مجهوداته ثمارها. فقد أدَّت هذه الاستراتيجيات لدرجات أفضل في الاختبارات.
يمكننا جميعًا استخدام هذه الاستراتيجية البسيطة لتغيير الطريقة التي نُفكِّر بها في مشاعرنا من أجل تحقيق نتائج أفضل. هل يتملَّكك الجزع من إقامة الحفلات، أو التحدُّث في اجتماع، أو عرض نخب في حفل زفاف؟ عليك أن تُعيد صياغة قلقك باعتباره يقظة نشاط تجعلك مُنتبهًا ويقظًا. هذا بالضبط ما يفعله الرياضيون المحترفون والممثلون والموسيقيون ليفعلوا أفضل ما في وسعهم في المواقف البالغة الخطورة. يستغرق تبنِّي طريقة تفكيرٍ جديدة بعض الوقت، لكن مع الممارسة يمكننا جميعًا أن نتعلَّم تغيير أنماط التفكير التي لا تعيننا على التكيُّف مع المواقف وتحقيق نتائج أفضل.
كن مغامرًا
العديد من الناس —بل ربما أغلبهم— يخوضون الحياة خائفين من المجازفة؛ لأن مع المجازفة يرتفع احتمال الفشل. لذلك نبقى في وظائف لا نجدها مجزية وفي علاقات لا تمنحنا السعادة. لدى أغلبنا طريقة تفكيرٍ تنفِّر من المجازفة وتشجِّعنا على الرضا بالاستقرار بدلًا من الإقدام بجسارة على المجهول.
أثناء عملي في هذا الكتاب، ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي قصة رائعة عن امرأة شابة تُدعى نويل هانكوك، وقد فقدت عملها كصحفية في مدينة نيويورك حين أُغلِقَت الشركة التي كانت تَعمل فيها. رغم أنه كان بإمكانها أن تبحث عن فرص للعمل قرب موطنها، فقد اتخذت قرار الانتقال إلى سانت جون، إحدى جزر العذراء في البحر الكاريبي. ووجدت وظيفة بائعة مثلجات في الجزيرة وهي تعيش الآن حياة مختلفة كليًّا.
يقرأ الكثير من الناس عن مثل هذا القرار المصيري الجِذري ويتخيَّلون الإقدام على مجازَفة مشابهة في حياتهم... لكن عندئذٍ يستبدُّ بهم توتُّر بالغ. بيد أن الأبحاث تشير إلى أننا نندم على الأشياء التي اخترنا ألا نفعلها أكثر مما نَندم على الأشياء التي اخترنا فعلها. ففي إحدى الدراسات سُئل الناس ما الشيء الذي سيفعلونه بطريقة مختلفة لو أمكن أن يعودوا بالزمن إلى الوراء. ما يزيد عن نصف مشاعر الندم كانت على التقاعُس — على غرار كان يجدر بي دخول الجامعة أو إتمام الدراسة بها، كان لا بدَّ أن أدخل مجالًا مهنيًّا مُعيَّنًا، كان لا بد أن أبذل اهتمامًا أكبر بعلاقات اجتماعية أو زواج. على النقيض، ١٢ في المائة فقط كانت ندمًا على أفعال — ما كان يجب أن أدخن، ما كان يجب أن أتزوَّج مبكرًا، ما كان يجب أن أبالغ في الكد. (٣٤ في المائة أخرى كانت غير محددة.) تثبت هذه الدراسة أننا نَنزع للندم على التقاعُس أكثر من الأفعال.
لذا فلنُفكِّر في التخلُّص من طريقة تفكيرنا الكارهة للمُجازفة ولنقدِمْ على أحد الأفعال التي قد نخشاها. فلتترك الوظيفة التي لا تشعر فيها بالسعادة. اذهب في رحلة حول العالم بدلًا من البقاء في بيئتك المريحة والمألوفة. وكما قال الكاتب إتش جاكسون براون الابن: «بعد ٢٠ عامًا من الآن سيكون شعورك بالإحباط من الأشياء التي لم تفعلها أكبر من شعورك بالإحباط من تلك التي فعلتها. فلتتخلَّص من قيودك. أبحر مُبتعدًا عن الميناء الآمن. ودَعْ قاربك للرياح تحملك إلى حيث شاءت. استكشف. احلم. اكتشف.»
كن مؤمنًا بالتغيير
في جزء سابق من هذا الفصل شرحت كيف يَتباين الناس في اعتقاداتهم بصدد ثبات صفات بعينِها أو قابليَّتها للتغيُّر. لكن مهما كان موقعنا بين الطرفَين، فمن الممكن أن يؤدي تبنِّينا لطريقة التفكير المتطورة إلى فوائدَ كبرى. مثال على ذلك، يُؤدي تعليم طلاب المدارس الثانوية أن يتبنَّوا طريقةَ تفكير متطورة بشأن الذكاء والشخصية إلى حصولهم على درجاتٍ أعلى وبلوغهم مستوياتٍ أدنى من الضغط النفسي والأمراض العُضوية.
كذلك من الممكن أن يُحدِث التحوُّل في طريقة تفكيرنا تغيُّرًا في الطريقة التي نتفهَّم بها الآخرين من نواحٍ شتَّى مهمة للغاية. ففي إحدى أعمق التجارب التي دلَّت على فوائد خلْق طريقة تفكير متطورة، أعطى الباحثون الناسَ إحدى مقالتَين عن التعاطف ليَقرءوها.
قرأ نصف المشاركين المقالةَ التي تقول إنَّ القدرة على التعاطف سِمة قابلة للنموِّ مع الوقت. إذ تقول هذه المقالة: «الناس يتعلَّمون ويَتطوَّرون على مر الحياة. والقدرة على التعاطف لا تَختلِف عنهم. فمن الممكن أن تتغيَّر هي الأخرى. ليس الأمر سهلًا دائمًا، لكن إن أراد الناس فبوسعِهم تطويعُ مقدارِ ما يشعرون به من تعاطُف مع الآخرين. فليس بين الناس مَن قدرتُه على التعاطُف صلبة مثل الصخر.»
وقرأ النصف الآخر مقالةً تشير إلى أن القدرة على التعاطُف ثابتة إلى حدٍّ كبير؛ ومن ثَم فهي لا تتغير. إذ تقول هذه المقالة: «تتشكَّل القُدرة على التعاطف لدى أغلبنا في سنٍّ صغيرة جدًّا مثل الجص، فلا يمكن تشكيلها مرة أخرى. حتى إن أردنا تغيير قدرتنا على التعاطف وتطويع مقدار تعاطفنا مع الآخرين، فلن نوفَّق غالبًا. إذ تصير قدرتنا على التعاطف جامدةً بعض الشيء، مثل الصخر.»
بعد ذلك أُتيحت لكل المشاركين في الدراسة فرصةُ الإسهام بطريقة أو أخرى في حملةٍ تنظمها الجامعة للمساعدة في مكافحة السرطان. كانت بعض سبل التطوع يسيرة نسبيًّا، على غِرار التبرع بالمال أو توزيع كتب تثقيفية من كشك في الحرم الجامعي. فيما تطلَّبت سبلٌ أخرى مستوياتٍ أعلى من التعاطف، من قبيل التطوُّع للإصغاء لمرضى بالسرطان وهم يقصُّون حكاياتهم.
هل تستطيعون توقُّع النتائج التي توصَّل إليها الباحثون؟ لم يكن ثمَّة اختلافاتٌ مُترتبة على أي المقالتين قرأ المشاركون فيما يتعلَّق باختيارهم الطرقَ «السهلة» للمساعَدة، التي شملَت التبرُّع بالمال، أو المشاركة في سباقٍ للمَشي، أو توزيع كتيبات تعليمية. غير أنَّ أولئك الذين قرءوا المقالة التي تقول إن القدرة على التعاطُف من الممكن أن تتغيَّر أشاروا إلى أنهم سوف يشاركون ضِعف الساعات في مجموعةٍ اجتماعية لدعم مرضى السرطان — إحدى أصعب وسائل التعاطُف بتقديم المساعدة.
تعطي هذه النتائج دليلًا قويًّا على أنَّ تبنِّي طريقةِ تفكير متطورة له فوائدُ حقيقية وكبرى في مجالات متعدِّدة، منها الأداء الأكاديمي، والصحة البدنية، ومساعدة الآخرين.
اضف تعليق