ان قرار المحكمة الاتحادية العليا قرر عدم امتلاك رئيس الجمهورية لحق الاعتراض التوقيفي للتشريعات، وان عملية النشر ليست جزءا من العملية التشريعية وانما هي اجراء تنفيذي لاحق لتمام صدور التشريع وان رئيس الجمهورية ملزم بالنشر حتى لو لم يصادق على القانون، وان عدم النشر يثير مسؤوليته القانونية والسياسية لان وظيفته حماية وتنفيذ الدستور...
اصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها المرقم (237/اتحادية /2022) في 20/12/2022 في قضية تتخلص وقائعها بأن رئيس الجمهورية امتنع عن نشر قانون تنظيم عمل المستشارين الذي سـنة مجلس النواب في جلسته المرقمــــــة (35) في 15/5/2017 بعد ان احيل له لغرض تصديقه واصداره وفق المادة (73/ثالثاً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ومن ثم نشره في الجريدة الرسمية.
وقد تضمنت لائحة المدعى عليه الاول رئيس الجمهورية اضافة لوظيفته الدفوع الاتية باختصار وهي عدم وجود مصلحة للمدعي في رفع هذه الدعوى، وان القانون المذكور لم تكتمل اجراءات سنة وبالتالي لا يخضع لرقابة المحكمة الاتحادية العليا كون رقابتها لاحقه وليس سابقه لصدور القانون، ولكون رئاسة الجمهورية سبق وان اعادة القانون الى مجلس النواب لوجود مخالفات قانونية ودستورية ولم يعاد القانون مجدداً الى رئاسة الجمهورية لتصديقه واصداره ومن ثم نشره وفقاً لاحكام قانون النشر في الجريدة الرسمية رقم (78) لسنة 1977 المعدل ولنا على القرار المذكور الملاحظات الاتية:
1- اكدت المحكمة الاتحادية العليا كعادتها على القيم والمبادئ الدستورية كمبدأ الفصل بين السلطات واشارت الى طبيعة هذا الفصل كونه مرناً مما يقتضي التعاون والتوازن الوظيفي بين السلطات وليس التنافر وانعزال كل سلطة على الاخرى وهذا يلقي على عاتق السلطات الاتحادية مجتمعه مسؤولية الحفاظ على وحدة العراق وسلامته واستــــــقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي وفقاً لما جاء في المادة (109) من الدستور، وان من مظـــــاهر التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفـــــــيذية وفقاً لمبدأ (السلطة توقــــــف السلطة)، هو منح السلطة التنــــــفيذية بفرعيها اي رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء حق المبادرة التــــــشريعية الحكومية استناداً للمادة (60) من الدستور، وايضاً منح رئيس الجمهورية اختصاص مصادقه واصدار القوانين التي يسنها مجلس النواب استناداً للمادة (73/ ثالثاً) من الدستور.
2- ان رئيس الجمهورية وفقاً لدستور 2005 لا يملك حق الاعتراض التوقيفي للتشريعات التي يسنها مجلس النواب العراقي او ما يعرف فقهياً بـ (الفيتو التشريعي) حيث نصت المادة (73/ثالثاً) من الدستور على اختصاصات رئيس الجمهورية التشريعية (يصادق ويصدر القوانين التي يسنها مجلس النواب، وتعد مصادقاً عليها بعد مضي خمسة عشر يوما من تاريخ تسلمها)، وهذا هو نفس اتجاه الدستور الالماني حيث قصرت المادة (82) من دستور المانيا لعام 1948 حق الرئيس في التوقيع على القوانين المحالة اليه من البرلمان بعد مصادقة الوزر المختص والمستشار، الا ان هنالك عرف دستورياً مكملاً قد استقر على منحه حق الامتناع على وضع توقيعه على اي تشريع بشرط ان ينصب الاعتراض على الشكل لا الموضوع، وبالرجوع لدفوع ممثلي رئيس الجمهورية في هذه الدعوى.
نلاحظ انها قد انصبت على اسباب موضوعية في القانون وهذا معناه الدخول لنطاق الضرورة والملائمة التي هي من اخص مظاهر السلطة التقديرية للمشرع، والتي لا تراقبها المحكمة الاتحادية ذاتها ما لم تلمس انحرافاً في استعمال السلطة التشريعية، وبامكان رئيس الجمهورية الطعن بدستورية بعض مواد القانون بعد صدوره بالعدد(3) لسنة 2022 ونتوقع ان يتم الطعن ببعض نصوص هذا القانون لعدم دستوريتها حيث ذهبت المحكمة في قراراها الى (وفي حال وجود مثل تلك العيوب فأن الدستور رسم طريق للطعن بالقانون امام المحكمة الاتحادية العليا وفق ما جاء في المادة (93/اولاً) من الدستور.
اذ ان لرئيس الجمهورية بحكم الصلاحيات الممنوحة له حق الطعن بدستورية اي قانون يرى انه يتضمن عيوب شكلية وموضوعية تخل بدستورية اي قانون)، وهذا هو ايضاً اتجاه الدستور العراقي فالرئيس لا يملك الاعتراض التوقيفي لان القانون يعد مصادقاً بحكم الدستور بعد مرور (15) خمسة عشر يوما من تسلمه.
وهذا ما اكدته المحكمة الاتحادية اذ جاء في حيثيات قرارها (لذا فأن الدستور اوجب على رئيس الجمهورية المصادقة واصدار القوانين التي يصوت عليها مجلس النواب، ولا يملك خياراً اخر لان القوانين تعد مصادقاً عليها بعد مضي خمسة عشر يوما من تاريخ تسلمها)، كذلك ذهبت في قرارها الى (وبالرجوع الاحكام المادة (73/ ثالثاً) من الدستور تستخلص المحكمة من كل ذلك ان القوانين تعتبر مصادقاً عليها بمضي مدة خمسة عشر يوماً بغض النظر عن قبول رئيس الجمهورية من عدمه ولعدم وجود نص في الدستور يمكن الاستناد اليه بامتلاك رئيس الجمهورية مثل هذه الصلاحية مما يعني عدم صحة اي امتناع عن تصديق واصدار القوانين يمكن ان يرد من رئيس الجمهورية على اي قانون يسنه مجلس النواب.
اذ ان ذلك يشكل خرقاً دستورياً، اضافة لما تقدم فأن تطبيق احكام المادة (138) من الدستور يتعلق بالدورة البرلمانية الاولى التي بدأت من 2006 الى سنة 2010 وبالتالي فأن هذه المادة انتهت بانتهاء الفترة المحددة لها ومن ثم يعاد العمل بالمادة (73) من الدستور، وان القول بأن اختصاص التصديق الذي يمتلكه رئيس الجمهورية يتضمن كذلك معنى عدم الموافقة او الرفض او الامتناع عن تصديق مشروعات القوانين متى ما كان مشروع القانون فيه من العيوب الشكلية او الموضوعية التي توجب عدم التصديق فأن ذلك يتعارض واحكام المادة (73/ ثالثاً) من الدستور)، وحتى في النظم الفيدرالية البرلمانية كدستور الهند الذي اعطى للرئيس صلاحيات تشريعية واسعه منها حق ( الاعتراض التوقيفي) او ما يسمى بحق (الاعتراض الرئاسي) على القوانين المحالة اليه لمصادقتها باستثناء المالية فيكون اعتراضه برسالة يوجهها للبرلمان بمجلسيه، الا ان هذا الحق شكلي اذ ينقضي هذا الاعتراض بمجرد اصرار البرلمان على القانون دون الحاجة لاغلبية خاصة.
ان الطعن الرئيسي يتمحور في نقطة جوهرية مفادها هل يعد نشر القانون احد مراحل اكتساب التشريع شكله النهائي؟ بمعنى اخر هل يعد النشر احد مراحل العملية التشريعية التي تساهم في صنع القانون؟ ام هي عملية لاحقة لتمام التشريع الهدف منها الاعلان عنه، ويلاحظ ان بعض الدساتير نصت على عملية النشر واعتبرتها جزءاً من مرحلة الاصدار كالدستور الاردني ودستور الامارات العربية المتحدة.
وايضاً نص دستور جمهورية العراق في المادة (129) منه على نشر القوانين في الجريدة الرسمية ويعمل بها من تاريخ نشرها مالم تنص على خلاف ذلك، ويرى اتجاه فقهي ان النشر احد مراحل الاصدار، والاصدار هو احد مراحل العملية التشريعية بدون شك وان عدم نشر القانون يؤشر عدم اكتمال العملية التشريعية وصيرورة مشروع القانون قانوناً، في حين يرى اتجاه اخر ان النشر وسيلة للاشهار واعلام المخاطبين بأحكامه وتقليل من صرامة قاعدة (لا يجوز الدفع بالجهل بالقانون).
لذا فهي عملية – اي عمليه النشر- عملية مادية الهدف منها تمكين جميع المخاطبين من العلم بوجود التشريع حتى يتمكنوا من الالتزام بأحكامه لذا فأن النشر من مسؤولية السلطة التنفيذية، ونرى ان الاصدار هو المرحلة الأخيرة من مراحل التشريع ويعني اعتراف رئيس الدولة بالوجود القانوني للتشريع فهو شهادة الميلاد للقانون كونه استوفى الاجراءات الشكلية والموضوعية للعمل التشريعي.
لذا فالإصدار عمل تشريعي في حين النشر هو عمل تنفيذي غير مرتبط بإنشاء التشريع فالأول يتعلق بولادة التشريع، والثاني يتعلق بالإعلان عنه بطريق النشر، وبهذا الاتجاه اخذت المحكمة الاتحادية العليا حيث اعتبرت النشر عملاً تنفيذياً وليس تشريعياً حيث جاء في حيثيات قرارها (وحيث ان نشر القوانين بعد التصويت عليها يعد قراراً ادارياً وتنظيمياً يستلزم احالة القانون المصوت عليه الى وزارة العدل/ دائرة الوقائع العراقية من قبل رئاسة الجمهورية وليس مجلس النواب سواء تولى رئيس الجمهورية المصادقة على القانون واصداره او لا، وذلك استناداً الى احكام المادة (73/ ثالثاً) من الدستور حيث يعتبر القانون مصادقا عليه حكماً بعد مضي خمسه عشر يوماً من تاريخ تسلمه من مجلس النواب وان مجلس النواب ارسل القانون المصوت عليه عليه بالايجاب بتاريخ 15/5/2017 الى رئاسة الجمهورية بموجب الكتاب المرقم (9061) في 24/8/2017 لكن الرئاسة لم تتولى ارساله الى النشر في الجريدة الرسمية واصبحت له قوة النفاذ فبأمكان المدعي الطعن به حينذاك).
الا ان قرار المحكمة لم يوضح او يجيب على دفع وكيل المدعى عليه الاول رئيس الجمهورية الخاص بإعادة مشروع القانون مجدداً الى مجلس النواب بتاريخ 7/9/2017 بغية رفع المخالفات وان مجلس النواب لم يعد مشروع القانون للرئاسة مجدداً لغرض النشر، ولم تبين المحكمة هل ام مدة الـ (15) خمسة عشر يوماً المنصوص عليها في المادة (73/ ثالثاً) تنقطع بإعادة المشروع الى مجلس النواب ام تبقى سارية، اذا كان من المفترض التحقق من هذا الدفع وبيان اسباب سكوت مجلس النواب طيلة هذه الفترة عن طلب نشره في الجريدة الرسمية وتحديد المسؤوليات في ضوء ذلك.
تضمن قرار المحكمة الاتحادية العليا تقرير مسؤولية رئيس الجمهورية عن عدم نشر القانون وعدته انتهاك للدستور وتحديداً المادة (129) منه التي اوجبت نشر القوانين في الجريدة الرسمية وهذا من مسؤولية رئيس الجمهورية عطفاً على المادة (73/ ثالثاً) من الدستور التي حددت المرحلة الاخيرة للعمل التشريعي من اختصاص رئيس الجمهوري وهي مرحلة المصادقة والاصدار.
وقد جرت العادة على قيام رئيس الجمهورية بارسال القوانين الى الجهة المختصة بنشر القوانين، حتى في حال عدم المصادقة لان المادة المذكورة اعتبرت القانون مصادقاً عليه بحكم الدستور بمضي مدة (15) خمسه عشر يوما، حيث جاء القرار اشبه بقرار ادانه حول تقصير الرئيس في مهامه الدستورية ونورد فقرات من حيثيات قرارها بهذه الصدد (اذ اوجبت المادة (67) من الدستور على رئيس الجمهورية باعتباره رئيس الدولة ورمز لوحدة الوطن ويمثل سيادة البلاد ويعمل على ضمان الالتزام بالدستور والمحافظة على استقلال العراق وسيادته ووحدته وسلامه اراضيه وفقاً لاحكام الدستور).
كما جاء في موضع اخر من القرار التأكيد على مبدأ المساواة امام القانون في المسؤولية والعقاب حيث جاء في الصفحة (10) من القرار (وان حق المجتمع في العقاب يقتضي مساءلة كل شخص يرتكب فعلاً قد تم تجريمه والعقاب عليه وفق احكام الدستور وقواعد القانون الجزائي ويستوي ان كان مرتكب الفعل هو شخص عادي او كان شخص يمثل احدى السلطات العامة في الدولة، ودون شك فأن اول مواطن في الدولة هو رئيسها مهما كان وصفه، والمساواة القانونية تقتضي ان يكون هذا الشخص السامي في الدولة هو اول من يخضع للقانون ويحاسب على اخطائه لاسيما وان رئيس الجمهورية من المفروض ان يكون خادماً لمصالح الشعب وحامياً للدستور والقانون وليس سيداً للشعب ومستبيحاً لانتهاك الدستور والقانون.
وان كانت معظم الدساتير تنص كأصل عام تحصين رئيس الجمهورية في مواجهة المسؤولية، الا انها تجيز رفع التحصين في حالة ارتكابه افعالا مجرمة ويعاقب عليها فهنا تنتهي حصانة رئيس الجمهورية وبهذا الاتجاه سار الدستور العراقي)، حيث نلاحظ ان قرار المحكمة ادان موقف رئيس الجمهورية وعده خارقاً للدستور مما يحرك المسؤولية القانونية والسياسية بحقه وفقاً للمادة (61/سادساً/ب) والمادة (93/سادساً) من الدستور، وكنا نتمنى من المحكمة الموقرة ان يتضمن قرارها ما يدين امتناع البرلمان او توجه اللوم له لأنه لم يستصدر لغاية اليوم قانون مساءلة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وهذا ايضا يشكل خرقاً دستوريا للمادة (93/ سادساً) من الدستور التي نوهت عنها المحكمة في قرارها في الصفحة (11) منه، حيث ان عدم صدور القانون المذكور سيحول دون تنفيذ قرار المحكمة الاتحادية.
تدارك قرار المحكمة الاتحادية العليا الاغفال التشريعي في الدستور الذي لم يحدد الجهة المختصة بالنشر في حال مضي المدة المذكورة دون مبادرة الرئيس بالإجراءات التنفيذية لنشره مؤكدة سمو القاعدة الدستورية على القاعدة القانونية وهنا مارست المحكمة الاتحادية العليا دوراً تكميلياً ضمن اطار الوحدة العضوية لنصوص الدستور وسياق النص حيث جاء في حيثيات قرارها ( …ولما كان قانون تنظيم عمل المستشارين تم التصويت عليه من قبل مجلس النواب في 15/5/2017 فأن الواجب من الناحية الدستورية اعتباره نافذاً وفقاً للاليه المرسومة بموجب احكام المادة (73/ثالثاً) من الدستور ولا يمكن الاحتجاج بأن القانون المذكور انفاً يتضمن نصاً يوجب العمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية سبباً لتعطيل احكام ذلك القانون لان النص الدستوري هو واجب التطبيق عندما يحصل التعارض بين الدستور والقانون.
وان عدم العمل بأحكام الدستور وفق اي نص من نصوصه يرتب المسؤولية الشخصية للمتسبب بذلك لانه لا يجب ان يكون المنصب الوظيفي واقياً لمن يخالف الدستور او القانون ، وان القول بخلاف ذلك يعني تحقق علوية المنصب الوظيفي على علوية الدستور وسموه وبذلك يتحول النظام السياسي في الدولة من نظام ديمقراطي يقوم على اساس مبدأ التداول السلمي للسلطة واعتبار السيادة للقانون والشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها ووجوب ضمان الحقوق والحريات العامة والخاصة وحمايتها الى نظام استبدادي يقوم التسلط وهدر الحقوق والحريات كافه وهدر كرامه المواطن وحريته …..).
خلاصة ما تقدم فأن قرار المحكمة الاتحادية العليا قرر عدم امتلاك رئيس الجمهورية لحق الاعتراض التوقيفي للتشريعات، وان عملية النشر ليست جزءا من العملية التشريعية وانما هي اجراء تنفيذي لاحق لتمام صدور التشريع وان رئيس الجمهورية ملزم بالنشر حتى لو لم يصادق على القانون، وان عدم النشر يثير مسؤوليته القانونية والسياسية لان وظيفته حماية وتنفيذ الدستور وان المنصب الوظيفي لا يعد واقياً او مانعا من المسؤولية لمن يخالف الدستور والقانون… والله ولي التوفيق.
اضف تعليق