q
الكتابة ليست عملية تفكير فحسب، وإنما هي بحاجة أيضا إلى أجود أنواع وحالات التفكير، وذلك لما للكتابة من قيمة اعتبارية كبيرة، فهي تعرف بالإنسان الكاتب، تعرف بفكره وثقافته وأدبه ولغته وأسلوبه، وحتى عاطفته ووجدانه وأخلاقه وقيمه، وهي إرث خالد يضمن للإنسان إمكانية البقاء في ذاكرة التاريخ...

الكتابة هي عملية تفكير أداتها الفكر، وليست عملية تسطير أداتها اليد، عملية تفكير تتخذ من الفكر أداة لصناعة الكتابة، بمعنى أن الكتابة هي ثمرة من ثمرات الذهن والعمليات الذهنية، كالنظر والتأمل والتفكر والتدبر، طلبا لتحصيل المعاني، والتثبت منها.

وإلى هذا المعنى أشار الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات في غريب القرآن)، في لفتة بديعة منه، بقوله: قال بعض الأدباء الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور، وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها.

والكتابة عملية تفكير، لأن التفكير يسبق الكتابة، ويظل يصاحبها إلى الخاتمة والنهاية، وحتى إلى ما بعدها أيضا، وبحسب مقولة ما قبل وما بعد، فما قبل الكتابة هناك تفكير، وما بعد الكتابة هناك تفكير أيضا، تفكير ما قبل الكتابة هو نظر لبلورة الرؤية وهندستها، وتفكير ما بعد الكتابة هو نظر في هذه الرؤية وهندستها بعد الاكتمال، بقصد الفحص والمراجعة، طلبا لتحصيل الكمال والإتقان.

ولأن الكتابة هي عملية تفكير، لهذا نجد أن الكتاب الناجحين والموهوبين يختارون أفضل الأوقات صفاء للتفكير حين الكتابة، فحين يتحدث الأديب المصري بهاء طاهر عن طقوسه في الكتابة يقول: طقوس كتابته تختلف بعض الشيء عن الأدباء الآخرين، فهو يقرأ ليلا أو نهارا، غير أنه لا يكتب إلا ليلا، ولا يكتب إلا في النصف الثاني من الليل، حيث الهدوء التام حسب قوله.

ويذكر أن الأديب المصري نجيب محفوظ، كان يقسم السنة إلى نصفين، ستة أشهر للتفكير لبلورة البناء الهندسي للرواية، وستة أشهر للكتابة، وهكذا تتعدد وتتنوع تجارب الكتاب بحثا عن أفضل الأوقات صفاء للتفكير حين الكتابة.

وهذا يعني أن الكتابة ليست عملية تفكير فحسب، وإنما هي بحاجة أيضا إلى أجود أنواع وحالات التفكير، وذلك لما للكتابة من قيمة اعتبارية كبيرة، فهي من جهة تعرف بالإنسان الكاتب، تعرف بفكره وثقافته وأدبه ولغته وأسلوبه، وحتى عاطفته ووجدانه وأخلاقه وقيمه، ومن جهة ثانية أن الكتابة هي إرث خالد يضمن للإنسان إمكانية البقاء في ذاكرة التاريخ، وتظل تذكر به مع تقادم الأيام، وتعاقب الأجيال، ومن جهة ثالثة أن الكتابة هي وسيلة للتواصل الإنساني، التواصل الذي بإمكانه العبور بين عالم البشر على اختلاف وتعدد لغاتهم وأعراقهم ودياناتهم وجغرافياتهم، لهذه الاعتبارات وغيرها فإن الكتابة بحاجة إلى أجود أنواع وحالات التفكير.

ومن جانب آخر، فإن الكتابة تختلف بين الكتاب باختلاف عملية التفكير قوة وضعفا، فهناك من الكتاب من يعطي عملية التفكير درجة عالية تصل فوق التسعين بالمائة أو أقل، أو فوق الثمانين بالمائة أو أقل، وهناك من يعطي عملية التفكير درجة أقل تصل عند البعض فوق الستين بالمائة أو أقل، أو فوق الخمسين أو أقل، وهناك من تهبط عنده الدرجة إلى ما دون الأربعين أو الثلاثين بالمائة، وهكذا.

وأفضل أنواع الكتابات هي الكتابات التي تبعث على التأمل والتفكير، وتحرض القارئ على التأمل والتفكير، وتثير في الإنسان دفائن الفكر، وتحرك طاقة التفكير، والكتابات تختلف من هذه الناحية، فهناك كتابات تحرك طاقة التفكير عند القارئ بدرجة عالية، وهناك كتابات تحرك هذه الطاقة بدرجة أقل.

وقد يحدث الاختلاف من جهة الإنسان نفسه، فهناك من يقرأ ليفكر بدرجة عالية، وهناك من يقرأ ولا يفكر بدرجة عالية، وهكذا.

والكتابات التي نحتاجها هي الكتابات التي تنبض بالتفكير، وتقف وراءها عصارة تفكير بدرجة عالية، وتحرض القارئ على التفكير والتفكير المستمر والبعيد.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق