عالم اليوم يعاني من الدول التي تريد استعادة التاريخ وهي تسبب مشكلات كبرى للدول الحديثة، إسرائيل على سبيل المثال تطمح إلى استعادة التاريخ من خلال تجميع اليهود وبما يسهم في استعادة دولتهم العتيقة، هذا الطموح باستعادة التاريخ خلف مشكلات هائلة في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 1948 وحتى الآن...
إذا أردت إثارة غضب الحكومة الإسلامية في إيران تستطيع فعل ذلك بكتابة كلمة "الخليج العربي"، إنها ليست توصيف لمسطح مائي يتشارك فيه العرب والإيرانيين، بل هي قذيفة نووية في الجسد القومي الإيراني الذي يعتقد دائماً إن قوميته يجب أن تُحترم في منطقة عربية لا يقيم لها القومي الإيراني أي وزن.
جياني أنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم حضر حفل افتتاح بطولة كأس الخليج العربي على ملعب جذع النخلة في البصرة جنوبي العراق يوم الجمعة (6 كانون الثاني 2023)، ثم كتب تدوينة على فيس بوك يعبر فيها عن مشاعره تجاه التنظيم العراقي لافتتاح البطولة فقال: "كان من الرائع حضور حفل الافتتاح والمباراة الافتتاحية لكأس الخليج العربي 2023 في البصرة بالعراق".
العرب يتشاركون مع انفانتينو بالثناء على الافتتاح المبهر الذي استعرض تاريخ وحضارة وثقافة بلاد الرافدين، وبأسلوب عصري يضاهي بطولات كبرى، وكنا نتوقع فرحة كبيرة من الإصدقاء الإيرانيين بالنجاح العراقي كونهم الحليف الدائم للبلاد، لكن عينهم في مكان آخر ترصد قذيفة أطلقها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم حينما وصف البطولة بأنها بطولة "الخليج العربي".
تقدم الاتحاد الإيراني لكرة القدم برسالة احتجاج إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم بسبب استخدام تسمية "مزيفة للخليج الفارسي"، وأكد الاتحاد الإيراني أن رسالته الاحتجاجية قدمها بالتنسيق مع وزارتي الخارجية والرياضة الإيرانيتين.
طبيعة الاحتجاج تخرجه من الجانب الرياضي وتدفعه نحو السياسة والحس القومي العتيق، ولكي نناقش الموضوع نحتاج إلى مقاربته مقاربة سياسية، إذ نعتقد أن إيران وقعت في عدة تناقضات بسبب تقديسها لفارسية الخليج وهي كالآتي:
أولاً: تناقضات التاريخ
إيران تدافع عن فارسية الخليج بحجة أن اسمه التاريخي هو الخليج الفارسي، وتنسى أن الدولة برمتها تخلت عن تاريخها ومسحت أسم فارس الرسمي عام 1935 وحولته إلى إيران، فهي لم تعد تسمى بلاد فارس كما معروف عنها لدى الرومان والإغريق، بل غيرت التسمية إلى إيران من أجل الانسلاخ عن بعض جوانب تاريخها الذي لا يعجبها.
لا أود مناقشة الهدف من تغيير اسم بلاد فارس إلى إيران، بل أود الإشارة إلى أن الاسم التاريخي ليس مقدساً ويمكن تغييره بدليل تعاملنا مع بلاد فارس على أنها إيران منذ عام 1935 وحتى هذه اللحظة.
الخليج الفارسي تابع لبلاد فارس ولم يعد لها وجود، بل نحن نتعامل مع الجمهورية الإسلامية في إيران، ألا يعتقد الإيرانيون أنهم يجب أن يطلقوا عليه اسم الخليج الإيراني حتى يتوافق مع اسم بلادهم المعاصر؟
ولإيران سجل حافل بتزييف الأسماء التاريخية، من بينها تغيير تسمية منطقة المحمرة العربية إلى خرمشهر لتتناسب مع القومية الفارسية رغم أن سكانها من العرب.
وإذا عدنا للوراء أكثر فإن إيران مسحت مملكة الكعبيين من الوجود وضمتها إلى أراضيها، فهل يجب أن نحترم التاريخ هنا أم نغض النظر عنه ونسكت؟
ثانياً: تناقضات القوانين الدولية
تدافع إيران عن فارسية الخليج العربي بحجة أن تسميته الرسمية في المنظمات الدولية هي "الخليج الفارسي"، وهذا صحيح في أغلبه، لكن هل تعتمد إيران على القواعد التنظيمية للمنظمات الدولية؟ هل تحترم قواعد القانون الدولي ومن بينها احترام سيادة الدول الأخرى، أليست إيران هي التي اشتهرت بتأسيس جيوش موازية في بعض الدول العربية بحجة مقاومة المحتل وغيره.
نعم، نوافق على احترام قواعد القانون الدولي، بشرط أن يكون الاحترام لجميع القوانين الدولية ومن بينها احترام سيادة الدول الأخرى، ونغض الانتقائية في التعاطي مع الدول العربية.
ثالثاً: تناقضات القومية والمذهب
تقدم إيران نفسها إلى الشعوب العربية الشيعية على أنها دولة تدافع عن حقوق الشيعة، وتؤكد لهم أنها لا تعترف بالجوانب القومية ولا بالحدود الجغرافية التي ابتدعها الغرب، بمعنى آخر تقول إننا إخوة ولا تهمنا التسميات، لكنها تعود وتقدس فارسية الخليج.
إيران تجبر الحكومة العراقية المتماهية معها على فتح الحدود خلال الزيارات المليونية، وتروج في الإعلام الرسمي على أن هذا دلالة على وحدة الشعبين العراقي والإيراني، وفي كواليس الإعلام الإيراني والعراقي المتماهي معه يتم ترويج فكرة الأخوة الشيعية والنقد الشديد للقومية ولا سيما القومية العراقية والعربية.
عالم اليوم يعاني من الدول التي تريد استعادة التاريخ وهي تسبب مشكلات كبرى للدول الحديثة، إسرائيل على سبيل المثال تطمح إلى استعادة التاريخ من خلال تجميع اليهود وبما يسهم في استعادة دولتهم العتيقة، هذا الطموح باستعادة التاريخ خلف مشكلات هائلة في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 1948 وحتى الآن.
وروسيا التي تفكك اتحادها السوفيتي تركض للوراء منذ صعود البوتينية ما جعلها تخسر دائما في السباق، فمن يركض للوراء خاسر سلفاً.
ومع هؤلاء الطامحين إلى استعادة التاريخ تقف تركيا إيران على رأس الراكضين إلى الوراء، يستحضرون التاريح في كل موقف، يجعلونه معياراً للسوكهم السياسية، ووسيلة للتغطية على الفشل الداخلي وتغذية الحس القومي الشوفيني.
بالختام الخليج فارسي وفق السياق التاريخي، لكن بشرطها وشروطها، أن تحترم إيران تاريخ الدول الأخرى وتاريخ المناطق العربية الموجودة داخلها، كما أننا نتفق معها على مسألة الالتزام بالقوانين الدولية، بشرط أن تتخلى عن خروقاتها الكبيرة للقانون بشأن تأسيس الجيوش الموازية والجماعات المسلحة.
أما إذا كانت المسألة انتقائية من جانبهم لنجعلها انتقائية من جانبنا أيضاً، ليطلقوا عليه خليج فارسي، ولنطلق عليه خليجاً عربياً.
اضف تعليق