لم ينتج العراق أي معارضة فعلية داخل النظام السياسي، وهو ما جعل هذا المقعد شاغراً يبحث عن أي حزب يرفع الراية بحزم متسلحاً بالدعم الشعبي الواسع والمعرفة والتطبيقات القانونية، ومع غياب المعارضة يختفي أي أثر للمراقبة والمحاسبة، تضع قيمة الديمقراطية وتقترب من السقوط على وجهها، فالمعارضة ليست عدواً للنظام السياسي...
فرق غير قابل للمقارنة بين سيارة تويوتا لاند كروسر (جكسارة) اليابانية الفاخرة، وعربة التوكتوك الرثة ثلاثية العجلات والمنتجة في المصانع الآسيوية الرديئة، حيث تتمتع لاند كروسر بمستشعرات الحماية الذاتية، كما أنها محمية في الشارع من قبل قوات الأمن، من الصعب محاسبة راكب هذه السيارة حيث يتمتع بسمعة اجتماعية تضعه في مقدمة أي مجلس، بينما يفتقد سائق التكتوك كل هذه المميزات، بل هو مطارد من قبل الشرطة، ومُنْتَقَدٌ من المجتمع.
المسافة الشاسعة بين سيارة لاند كروسر (الجكسارة) والتكتوك، هي المسافة نفسها بين أن تكون معارضاً سياسياً في العراق، أو صاحب سلطة تتمنى الجماهير رؤيتك من خلف الزجاج المظلل.
كانت تظاهرات تشرين 2019 تمثل واقع الشعب المعارض، أصحاب التكتوك والفقراء، وحتى الأغنياء الذين أرادوا التشرف بالمشاركة مع المعارضة اضطروا للصعود في عربة التكتوك، لكي تكون معارضاً عليك طبع صورتك في عربة التكتوك، إنها هوية وتعبير عن مسار سياسي معارض للنظام.
أراد التشريني والنائب في البرلمان الحالي علاء الركابي أن يمثل دور المواطنين المعارضين للنظام الحاكم، شارك في تظاهرات تشرين وأصبح قيادياً كبيراً أسس حركة امتداد حيث فازت بتسعة مقاعد برلمانية أصيلة وأخرى جاءت بفضل التوسعة الناتجة من انسحاب التيار الصدري.
آمال كبيرة عقدت على حركة امتداد أريد لها أن تكون أول تجربة معارضة في البرلمان العراقي، لا سيما وأنها انبثقت من رحم التظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي، وبالفعل أصر رئيس الحركة علاء الركابي أن يطوف مع نوابه في ساحة التحرير وسط بغداد، ومنها الانطلاق إلى مقر البرلمان في المنطقة الخضراء.
لم يركب نواب امتداد في سيارات مصفحة، ولا جكسارات الأثرياء وأصحاب السلطة، بل ركبوا في عربات التكتوك هوية المعارضين.
تنتهي جلسة البرلمان بما جرى فيها من جدل ونقاش سياسي، وتختفي تجربة المعارضة في البرلمان العراقي قبل أن تولد، حيث تعرض الركابي لمحاولات التضييق في البرلمان ثم احتجز داخله، وبعدها أقيل من رئاسة حركة امتداد ويتخبط نوابه بأسلوب لا يرتقي إلى مستوى أشخاص يستطيعون مواجهة نظام ثبت جذوره بقوة وأمسك بمفاتيح القوة الأساسية.
توجد الآن بعض الشخصيات والقوى التي تسمي نفسها بالمعارضة، لكنها لم ترتقي إلى المستوى المطلوب لوصفها بالمعارضة، وفي هذا الصدد تقدمت حركة إشراقة كانون بطلب تغيير دور المعارضة في العراق بحيث تكون مسؤولة عن اللجان البرلمانية، وهو ما يعطيها سلطة رقابية غير مسبوقة تدقق من خلالها عمل السلطات الأخرى في العراق، لكن هذا الطلب أجهض ولم تستجب له القوى السياسية التقليدية.
ما عدا تجربتي امتداد واشراقة كانون هناك بعض التحركات البرلمانية الفردية المتفرقة، وهي مشتتة وتطوف في كثير من الأحيان حول المصالح وسياسة الثأر والانتقام.
بالمحصلة لم ينتج العراق أي معارضة فعلية داخل النظام السياسي، وهو ما جعل هذا المقعد شاغراً يبحث عن أي حزب يرفع الراية بحزم متسلحاً بالدعم الشعبي الواسع والمعرفة والتطبيقات القانونية.
ومع غياب المعارضة يختفي أي أثر للمراقبة والمحاسبة، تضع قيمة الديمقراطية وتقترب من السقوط على وجهها، فالمعارضة ليست عدواً للنظام السياسي، بل هي الأحرص عليه، إنها مثل جهاز الإنذار المبكر الذي يحذرنا من المخاطر قبل وقوعها.
تخيل سيارة باهظة الثمن مثل لاند كروسر اليابانية بدون أجهزة إنذار عن الأعطال؟
سوف تفقد قيمتها ويقل سعرها وتنخفض جودتها، لن تعود صالحة للعمل كسيارة فاخرة، بل تختفي من الوجود.
لماذا يصر أصحاب السلطة على اقتناء سيارات تتوافر على كل وسائل الحماية عبر مستشعرات الأخطاء، لكنهم يمنعون وجود أي مستشعرات لحماية النظام السياسي؟
هل هي قلة خبرة سياسية، أم غطرسة من ترسبات الزمن الديكتاتوري؟
نظامنا السياسي شبيه بعربة التكتوك، حيث تنعدم مستشعرات الحماية الذاتية، معرض للحوادث على الدوام، وغير قابل للاستدامة لأسباب تتعلق بتعقيدات القوى الداخلية والخارجية.
اضف تعليق