لقد جلبت التكنولوجيا الرقمية كثير من الأحداث، ومنها كأس العالم، الى بيوتنا بطريقة غير مسبوقة كما تم إيضاح ذلك في المقال السابق. وحينما يكون حدث ما معولم بالطريقة التي شُرحت في المقال الأول، يصبح من الطبيعي الشعور بالمشاعر النفسية والاجتماعية التي جلبتها العولمة للإنسان...
لقد جلبت التكنولوجيا الرقمية كثير من الأحداث، ومنها كأس العالم، الى بيوتنا بطريقة غير مسبوقة كما تم إيضاح ذلك في المقال السابق. وحينما يكون حدث ما معولم بالطريقة التي شُرحت في المقال الأول، يصبح من الطبيعي الشعور بالمشاعر النفسية والاجتماعية التي جلبتها العولمة للإنسان.
يعد القلق والخوف من المستقبل من أهم ما جلبته العولمة معها من أبعاد نفس-أجتماعية. فالتغيير يجلب معه القلق وعدم الراحة، وبالتالي يضطر المرء لاتخاذ آليات دفاعية يضمن من خلالها شعور أكبر بالأمن حتى ولو كان زائفاً. ولأن هذا التغيير يهدد أهم عاملين للاستقرار النفسي وهما الاعتقاد والأنماء فقد ساهمت هذه الثورة الرقمية التغييرية في تهديد المعتقدات والانتماءات (الهويات) لكل البشر مما جعلهم مستقطبين من جهة ومتغالبين من جهة أخرى وهذا ما تجسد في الظاهرتين الأخريين اللتان تلازمتا مع كأس العالم وهما الطرفنة والثقفنة:
سلوك إنساني
طرفنة المونديال. يقصد بالطرفنة هنا هو التطرف بالتفكير والسلوك الإنساني. ينجم عن الطرفنة عادةً انقسام الأشخاص في آرائهم وسلوكياتهم ومعتقداتهم السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية الى مجموعتين متناقضتين تماماً تقعان على طرفي القياس مما يؤدي الى عملية استقطاب حادة تغيب عندها أو تتلاشى الآراء والسلوكيات الوسطية التي يمكن أن تخفف من حدة الاستقطاب وتساعد على تفاعل سلمي في الآراء بين المتطرفين وتقلل من احتمالات الصدام.
ويعد الشعور بالظلم وعدم العدالة (المطلقة أو النسبية) من أهم أسباب التطرف والنزاع بحسب علم النفس. يقصد بعدم العدالة المطلقة شعور الفرد أنه (أو جماعته) يتعرضان الى ظلم وأجحاف كاملين، فمثلاً يشعر أنه ينال أجر قليل جداً نظير عمله. أما الظلم النسبي فيحصل عندما يشعر الفرد أنه حتى وأن حصل على أجر معقول لكنه ظالم وغير عادل مقارنة بما يحصل عليه الآخرون!
هذا الشعور بالظلم وعدم العدالة يجعل الأفراد يشعرون بالغضب ومختلف المشاعر السلبية التي تجعل الأفراد والجماعات، بل والمجتمعات تنقسم الى معسكرين متناحرين(نحن-هم). فالعرب مثلاً نتيجة الشعور بالاستغلال والظلم الذي تعرضوا له من الغرب يصبحون غير قادرين على تقبل أي شيء يأتي من الغرب.
والمجتمعات الغربية أو بعض المجاميع فيها تبدأ أيضاً بتطوير آراء سلبية نحو العرب لأسباب مختلفة (كالهجرة، أو الثروة النفطية…الخ). في النتيجة بات لدينا معسكرين متناحرين برزا أو عبرا عن نفسيهما في الأعلام العربي والغربي بصورة مستقطبة جداً غابت معها الوسطية. فبات العرب مثلاً يصفون كل الغرب بالشذوذ الجنسي والتحلل الأخلاقي... الخ. مقابل ذلك امتلأت التغطية الغربية لأخبار المونديال بأخبار التجاوز على حقوق الأنسان والعمال الآسيويين والحريات العامة. وأهمل الطرفان أن من الخطأ أن تضع كل الغرب في هذا الطرف أو تضع كل العرب في ذلك الطرف فهناك كثير من العرب والغربيين ممن لا تنطبق عليهم هذه الصورة النمطية المستقطبة.
ثقفنة المونديال. أقصد بالثقفنة هنا حرف كثير من النقاشات والأخبار(بما فيها الكروية منها) لتصبح مادة لنزاع ثقافي بين الغرب (بمختلف دوله وثقافاته) والشرق (بمختلف دوله وثقافاته). هذه الثقفنة التي امتزجت بظاهرة الطرفنة (التطرف) جعلت منصات الاعلام والتواصل تغص بأخبار وتعليقات تخص ثقافتنا مقابل ثقافتهم .
ان أهم عنصرين للراحة والاطمئنان النفسي هما الانتماء والاعتقاد. نحن نحتاج للشعور أننا جزء من جماعة (ثقافة) أكبر. بدون هذا الشعور سنبقى قلقين نفسياً. أما الاعتقاد فهو شيء أبعد من مجرد المعرفة أو الوعي بالشيء (الثقافة هنا).
أنه يستهدف خلق الطمأنينة والثقة والثبات في داخل النفس. فمجرد المعرفة لا تكفي لخلق هذه الطمأنينة والأمان في النفس البشرية التي غالباً ما تواجه مواقف غامضة وغير مفهومة وتحتاج الى أعادة تركيبها لكي تكون مفهومة.
ان مجرد المعرفة بوجود علاقات فيزيائية كونية بين كواكب المجموعة الشمسية لا تكفي لوحدها للأيمان بوجود الله مثلاً. أذ لا بد الذهاب خطوة أبعد لخلق اليقين النفسي (الاعتقاد) بوجود الخالق. كذلك فأن مجرد التسليم بحقيقة أننا جميعاً سنموت هي غير كافية لخلق الطمأنينة النفسية ما لم يعقبها اعتقاد بوجود حياة ما بعد الموت. لذلك يطور الأفراد معتقدات راسخة بخصوص عُلوية وتفوق ثقافتهم مقابل الثقافات الأخرى فينجم عن ذلك صراع ثقافي قد يتطور الى صراع وجودي.
وهذا التفوق الثقافي قد يخدم آلية نفسية دفاعية تحتاجها الجماعة ويحتاجها الفرد في كثير من الأحيان وهي التغلب على الشعور الداخلي بالضعف. فإظهار مستويات عالية من التقدير للثقافة والأيمان أنها متفوقة على نظيراتها يساعد (ربما وليس دائماً) في التغطية على الشعور الداخلي بضعف هذه الثقافة أو أن الآخر يستهدفها.
لقد كان مونديال قطر مناسبة عالمية للتفاعل الثقافي وليس الرياضي فحسب. ونظراً لاقترانه بمتغيرات كثيرة، مثل تطور التكنولوجيا، والقلق النفسي العالمي من العولمة، والأوضاع الاقتصادية المأزومة عالمياً، وتزايد أعداد المهاجرين، والصراعات الثقافية الناجمة عن تغير المفاهيم والقيم وغير ذلك من المتغيرات، فقد طفت للسطح ظواهر اجتماعية لم تكن مألوفة في باقي المونديالات. يمكنني القول ودون تردد أن هذا الحدث كان بمثابة مختبر للتفاعلات الاجتماعية التي تحصل عالمياً في عصرنا. لذا من الأهمية بمكان دراسة تلك التفاعلات وانعكاساتها على مختلف شعوب العالم.
اضف تعليق