مراكز الأبـحـاث تجهز الساسة بالخيارات الواجب عليهم اللجوء اليها لبناء المواقف والسياسات، يلزمنا فـي الـعـراق التواصل مع الباحثين شرقا وغربا للتأثير في هذه الــرؤى لصالح الــعــراق، بــدل الانكفاء على الذات والخوف المزمن من (بعبع) المؤامرات والتجسس، تعتمد الأنظمة السياسية والدول العصرية على جهود ومخرجات ومنجزات مراكز الأبحاث...
حسنا فعل السيد رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بحضوره الى ملتقى ممثلي بعض مراكز الأبحاث والدراسات والاعلام الدولية، الذي انعقد ببغداد على مدى يومي السادس والسابع من كانون الأول 2022، شرح السيد محمد السوداني رؤيته للسياسة الخارجية العراقية وأوليات برنامج ومنهاج حكومته الاقتصادية والأمنية والسياسية، كما تحدث عن مسارات الإصلاح ومكافحة الفساد والشراكة مع بلدان الجوار والدولة الصديقة للعراق.
حضور السوداني كان استثمارا جيدا لفرصة نادرة، للقاء بممثلي نخبة من مراكز الأبحاث الدولية، التي سارع بعضها إلى توجيه سهام النقد إلى سياسات رئيس الحكومة العراقية، ولمـا يمض على تسلمها لمسؤولياتها بضعة أسابيع، مسارعة بعض الإعلاميين والباحثين الغربيين، لا سيما الأمريكان منهم، لنقد سياسات الحكومة العراقية الجديدة لا يفهم ولا يفسر بأنه امـتـداد لمنهجيتها السابقة، بل إن بعضها استدار استدارة كاملة ليتخذ مواقف نقدية مبكرة، الأمر الذي لا يشير إلى موضوعية بحثية، بل إلى نوع من التحيز الذي لا يلائم المنهجية العلمية، أمامهم فرصة لبضعة ّة معرفية ذات قيمة.
أشهر لتأتي أبحاثهم بحل أهمية ملتقى بغداد، يأتي من تنامي الوعي العراقي بأهمية التواصل مع مراكز الأبحاث والدراسات الإقليمية والعالمية، لما لذلك من أثر كبير في تصحيح الصور المنقولة عن العراق، يستحق مركز البيان للدراسات والتخطيط ومؤسسة الشرق الأوسط للدراسات (ميري)، التقدير على خطوتهما المشتركة في استضافة كبار الباحثين الاجانب، ليستمعوا ويتحاوروا مع رئيس الحكومة مباشرة، ويقفوا على وجهات نظر بعض باحثي مراكز العراق البحثية، فمن شأن ذلك أن يجسر علاقات تعاون وتواصل تعزز القراءات المتبصرة والموضوعية لمشكلات العراق، و دعم جهود أكاديميه وباحثيه وكتاب الدراسات فيه.
الذين يسلكون مسلكا وعرا ينطوي على صعوبات ومطبات كثيرة، لكنه الطريق الأوحد لبناء الدولة، فالخطوة المهمة في هذا المسار هي ملء الفجوة المعرفية بين صناع السياسات والجمهور، ثمة موقع أثير للنخبة لتقوم بمهمة التوعية والتبشير والتنبؤ والتأشير على أخطاء السياسات والقرارات والتشريعات.
تحتاج (الطبقة) السياسية مـن زعامات وسـيـاسـيـين ونــــواب وإداريـــــين ونـاشـطـين حزبيين ومدنيين، إلى القراءة والتعلم عبر استلهام واستبطان ما تكتبه مراكز الأبحاث والدراسات، لم تعد ممارسة السياسة بنجاح ممكنة عبر قفزة حزبية، عبر البندقية أو صندوق اقـتـراع مشوه لبلوغ السلطات، ثم ممارسة السياسة بأخلاقية القرية بلا معرفة حديثة، ولا علم بطرق بناء الــدول، وتسيير الإدارات وترسيم السياسات وحل المشكلات المعقدة، السياسة ليست أيديولوجيا تعبوية وشعارات تحاكي انفعالات ودوافـع الجمهور.
السياسة علم ومعرفة وخيال ونظريات وقدرات، ومهارات على التنبؤ والفهم والاحتواء، يتحدث المخضرم هنري كيسنجر عن مواصفات ستة ساسة كبار في كتابه الاخير (القيادة)، مركزا على البعد الشخصي في سلوك السياسيين، غير أن ما نحتاجه في العراق ليس القابليات الفريدة للسياسيين فحسب، على أهمية ذلك، نحتاج إلى العنصر الأهـم، وهو الاستبصار والتعلم من الآخرين، طريق المعرفة هذا يبدأ من مداومة القراءة، والمتابعة الجادة لما تجود به الأقلام وعصارة ما تقدمه مراكز البحث .Think Tank
فهذه المراكز تصنع الرؤية وتقدم الخيارات للسياسيين وتعبئ عقول المستشارين وتنبه كبار الإداريـــين، لتلافي أخطاء السياسات واحــتــواء وادارة الازمـــات وتــزويــد العقول بالمبتكر والجديد من المعلومات والمعارف الضرورية.
مراكز الأبـحـاث تجهز الساسة بالخيارات الواجب عليهم اللجوء اليها لبناء المواقف والسياسات، يلزمنا فـي الـعـراق التواصل مع الباحثين شرقا وغربا للتأثير في هذه الــرؤى لصالح الــعــراق، بــدل الانكفاء على الذات والخوف المزمن من (بعبع) المؤامرات والتجسس، تعتمد الأنظمة السياسية والدول العصرية على جهود ومخرجات ومنجزات مراكز الأبحاث، لا تستقيم شؤون الدول بدون هذه المراكز، ولا يستغني سياسي أو طامح إلى دور سياسي عن الاسترشاد بالكم الهائل من ما تقدمه هذه المراكز من معارف ومعلومات.
العالم بأسره صار مراقبا بما يصدر من هذه المراكز، قبل أن يتعاطى المواقف والسياسات، عربيا صرنا نعرف التأثير الكبير لمركز الإهرام للدراسات الستراتيجية في مصر والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات القطري، ومركزي الإمارات والمسبار في دولة الامارات، ورصانة واعتدال في السعودية، وأورسام وسيتا في تركيا والآلاف من هذه المراكز في الدول الكبرى والوسطى والناهضة أو على طريق النهوض.
في الاشهر الاخيرة صارت لورقة استقالة وزير المالية السابق علي علاوي وحديثه في مركز الأبحاث الملكي البريطاني (تشاتام هاوس) شهرة معلوماتية كبيرة، لأنها تضمنت رؤية خبير لمشكلة العراق الأولــى، فساد النظام وريعية الاقتصاد وما يتفرع عنهما من زبائنية تعطل التنمية والـنـهـوض بـالـبـلاد، مراكز الأبحاث العراقية الناشئة، صـار بإمكانها المساهمة فـي التحليل، وتـقـديـم البدائل والتأشير على المشكلات بطريقة علمية تبتعد عن شعبوية الإعلام المنفلت، بإمكانها أيضا أن تصحح الرؤية، وتعبد طريقا غير طريق الإثارة الإعلامية التي تستبيح العقول والأذواق.
صــار ممكنا الحديث عـن دور ناشئ لكنه يتنامى بسرعة لهذه المراكز في نشر المعرفة المعمقة وتثقيف الساسة ورفـع مستوى وعي الـجـمـهـور المــأســور بـالـخـطـاب الإعــلامــي، ومنتجات وسائل التواصل الاجتماعي التي تحرك الانفعالات وتغيب العقول، إن نجاح مؤسسة ميري (الشرق الاوســط للدراسات فــي تنظيم مـؤتـمـرهـا الاخــيــر فــي اربـيـل (1 - 2 نوفمبر) وقبلها مـركـز الرافدين للحوار، والنشاط البحثي المهم لمركز البيان، وكذلك تمكنه من تنظيم واستضافة ملتقى مراكز الابحاث في بغداد، بينما يستعد مركز رواق بـغـداد للسياسات العامة لاستضافة الباحثين الأجـانـب والعراقيين والرسميين في مؤتمره عن دستور الـعـراق ومشكلاته، كـل هــذه الأنشطة الــجــادة، تمثل إضافات مهمة ينبغي الالـتـفـات إليها والـبـنـاء على مخرجاتها.
قبل ذلك كان لمركز العلمين جهد كبير عن السيادة العراقية وظمأ العراق، وكل ذلك يبعث على التفاؤل بان العراق صار يسلك طريقا سليما في ايلاء مراكز التفكير ما تستحقه، وهي مراكز يمولها القطاع الخاص العراقي مـع وجــود مـراكـز حكومية متثاقلة الخطى والدور.
اضف تعليق