بعد اقدام قادة اقليم كردستان العراق على اجراء الاستفتاء، لتقرير المصير، في العام 2017 والذي تزامن مع استفتاء آخر اقيم في المناطق التي تحت سيطرة كرد سوريا، اي في الشمال الشرقي السوري المحادد للعراق، اعتقد كثيرون ان الدولة الكردية قادمة لامحالة، بينما شكك آخرون بإمكانية تحقق ذلك لأسباب موضوعية...
بعد اقدام قادة اقليم كردستان العراق على اجراء الاستفتاء، لتقرير المصير، في العام 2017 والذي تزامن مع استفتاء آخر اقيم في المناطق التي تحت سيطرة كرد سوريا، اي في الشمال الشرقي السوري المحادد للعراق، اعتقد كثيرون ان الدولة الكردية قادمة لامحالة، بينما شكك آخرون بإمكانية تحقق ذلك لأسباب موضوعية، تتعلق بموقف دول الاقليم المؤثرة، وتحديدا تركيا وايران.
لو عدنا الى الوراء قليلا، وقرأنا الهدف من احتلال العراق في العام 2003 لوقفنا على اكثر من دليل يؤكد لنا بما لا يقبل الشك ان تقسيم المنطقة على اسس دينية وطائفية وعرقية، كان هدف (المحافظون الجدد) بقيادة الرئيس الاميركي بوش الابن، وان تقسيم العراق الذي خطط له ان يكون ناجزا قبل نهاية العام 2007 سيكون بداية لتقسيم المنطقة كلها بعد ان اعدت لها المخابرات الدولية مخططا مرعبا، سينفذ في الوقت المناسب، او بعد ان تنضج الطبخة في العراق الذي صار يغلي على نار الارهاب بالتزامن مع علو اصوات التقسيميين فيه، المطالبين بالفيدراليات (كحل)!
والتي تعني انهاء العراق كدولة موحدة، ومن ثم يعمم النموذج لبقية الدول العربية ومن ثم دول المنطقة الاخرى بما فيها ايران وتركيا طبعا، وبعد تهيئتها وتقويضها من قبل قوى الارهاب المقنّع بطروحات طائفية كمقدمة لذلك.
أدرك الاتراك الذين اندفعوا تحت وهم تصدير المشروع الإخواني في سوريا وغيرها، أدركوا متأخرين انهم انزلقوا في مشروع سيدمر بلدهم، فتراجعوا لاحقا، بل وقفوا بشكل واضح ضد السياسة الاميركية في المنطقة، وباتوا يعملون على درء الخطر بعد ان كانوا يحلمون بالغنيمة! فيما كان الايرانيون الذين ادركوا ذلك قبلهم، قد انطلقوا من العراق الذي بات حائط الصد الذي يجب ان لا يخترق كي لا تنكشف ايران امام المشروع الاميركي المتقنع بقناع (داعش) ومثيلاتها، فكان الدعم الايراني للعراق بمثابة الدخول بمعركة استباقية كي لا تكون المعركة على ارضهم او بعد فوات الاوان!
لم يقتنع العالم بمشروع (المحافظون الجدد) الذي بات في ذمة النشاط السري للولايات المتحدة واعوانها في المنطقة، لكنه استمر في عهد اوباما، الذي شهد ذروة ما عرف ب(الربيع العربي) وخراب اكثر من دولة عربية، وباتت جميعها مهددة بالتقسيم، الاّ ان رفض الشعب العراقي للتقسيم وكذلك قوى محلية مؤثرة ظهرت بعد الاحتلال.
لم تقتنع او تتبنى مقررات مؤتمري لندن وصلاح الدين، اللذين وضعا برنامجا لتقسيم العراق وآليات تنفيذه من خلال الفقرة 58 من (قانون ادارة الدولة المؤقت) لعام 2003ومن ثم المادة 140 من الدستور الدائم الذي تم (سلقه) اواخر العام 2005 ولم يبق امام تنفيذه سوى عامين لتكتمل صورة العراق المقسم الى ثلاث دويلات، تتبعه سوريا وهكذا تبدأ رحلة حرب القرن التي تم التخطيط لها في الاقبية السرية للمخابرات الدولية.
بعد ان ضج العالم ازاء ما يحصل في (الشرق الاوسط) ووجدت الادارة الاميركية ان المضي في مشروع التقسيم بوجود هذا الرفض الاقليمي والدولي الواسع بات مستحيلا، سقط هذا المشروع المخيف نهاية عهد اوباما وانتفت الحاجة للتنظيمات الارهابية التي صنعت لتكون رافعة لتقسيم الشعوب على اسس طائفية ومن ثم تقسم الدول.
وسط هذه الاجواء المخيبة لآمال التقسيميين جاء الاستفتاء الكردي في شمالي العراق وشمال شرقي سوريا، على أمل توحيد المنطقتين لاحقا واقامة الدولة الكردية، لكن هذا جاء بعد فوات الاوان أو بعد ان نفضت اميركا يدها من هذا المشروع الذي قد يجعل دولا مهمة في المنطقة تفلت من ايديها لتصطف مع روسيا العائدة للواجهة والصين الصاعدة بقوة بوصفها دولة كبرى وبطموحات كبيرة تغطي مساحة العالم من خلال القوة الناعمة، الاقتصاد، والبحث عن مجالات حيوية.
اذن جاء الاستفتاء الكردي بوقت غير مناسب تماما، ووسط رفض دولي واسع، الاّ ان الشي الذي يجب تذكّره في هذه المناسبة، هو لقاء رئيسي اركان جيشي تركيا وايران في انقرة، وقتذاك، ووضعهما خطة لاجتياح اقليم كردستان العراق، اي اقتسام السيطرة عليه في حال الاعلان عن الدولة الكردية، وقد حصل هذا تحت مسمع ومرأى اميركا التي تخلت عن مشروع التقسيم واخذت تعيد ترميم علاقاتها المتصدعة بدول المنطقة وبالتفاهم مع روسيا واوربا، ومن منطلق المصالح المشتركة للجميع.
الحرب في اوكرانيا، دفعت اميركا اكثر الى تكريس حضورها في المنطقة خشية ظهور اصطفافات جديدة يفرضها الواقع الدولي الجديد، ولحساسية الشرق الاوسط بوصفه الخزان الاكبر للطاقة في العالم، اذ باتت اميركا اليوم بأمس الحاجة الى تركيا التي وجدت نفسها في وضع سياسي اقوى من اي مرحلة سابقة، وكذلك حاجة روسيا اليها بوصفها جسر للتفاهم مع الاميركان ولموقعها الجيوسياسي الحساس، لذلك فان تحرك تركيا العسكري ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتصفية وجودها على حدودها الجنوبية، يأتي في ظل هذا الواقع والمعطيات الدولية الجديدة التي اصبح فيها الكرد العراقيين والسوريين معا منكشفين ستراتيجيا بعد ان كانوا يتحركون سابقا تحت غطاء اميركي سميك وواسع!
ايران هي الاخرى استغلت هذا الواقع، اي انكشاف الكرد، فراحت تطالب بغداد بضرورة التواجد العسكري وضبط المعادلة الامنية في الاقليم من خلال الدولة المركزية، بواسطة نشر القوات الاتحادية على الحدود، سواء تحت مبررات ايقاف تحركات القوى الكردية الايرانية المناوئة لطهران والتي تعمل من كردستان ضدها، حسب زعمها، والتي كانت وراء القصف الايراني على الاقليم، او لرغبة ايران في انهاء هذا النموذج الذي بات يمثل حلما يراود الكرد الايرانيين والاتراك في الحذو حذوه، وهو ما تراه حكومتي البلدين تهديدا لوحدتهما ويجب ان ينتهي هذا (التهديد الجيوسياسي) الذي فرضته ظروف مختلفة سابقا!
الشيء المهم هنا هو موقف بغداد من الذي يجري على ارضها او في جوارها السوري، ونعتقد ان حكومة السوداني باتت امامها فرصة كبيرة، لإبرام عقد جديد مع اقليم كردستان بما يضمن ويحقق ما تتحدث عنه هي وسابقاتها من حكومات عراق ما بعد 2003 من ان ارض (العراق الجديد) لن تكون مصدرا لتهديد دول الجوار! وان هذا يتم فعلا حين تكون بغداد هي المسؤولة عن ضبط المعادلة الامنية والعسكرية وطنيا من الشمال الى الجنوب، اي كأي دولة اتحادية تكون فيها مسؤولية الامن القومي بيد العاصمة المركزية حصرا، مع الاحتفاظ للاقاليم والمدن بالتمتع بحقوقها الاخرى، سياسيا وثقافيا، لكي يتعامل العالم معنا بوصفنا دولة واحدة .. واحدة فقط!
.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
اضف تعليق