الوَعْيُ هو مركز العلاقات الاجتماعية، ولكن المَركز مَحْصُور في نِطاق معرفي مُحَدَّد، لذلك يجب اكتشاف الرُّوح الإبداعية الكامنة في الأطرافِ، والهَوَامِشِ، والأحلامِ الضائعة، والعناصرِ المَنبوذة، والذكرياتِ المُهَمَّشَةِ، والأفكارِ المُسْتَبْعَدَة، والدوافعِ المَكبوتة، والتاريخِ المَنسي. وإذا كان الوَعْيُ هو نُقطة التوازن بين التاريخِ النَّفْعِي (الذي تَمَّتْ أدلجته) والتاريخِ الخَلاصي...
(1)
الأنساقُ الثقافية الواعية في تفاصيل البناء الاجتماعي تُمثِّل أساليبَ حياتيةً لفهم العلاقة المركزية بين الكائن والكَينونة (الرابطة المصيرية بين الإنسان والوجود)، وهذا الفهمُ ضروري لِتَوليد المَعنى في التاريخ بِوَصْفِه هَيكلًا معرفيًّا قائمًا بذاته، وتفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة بِوَصْفِها تأويلًا مُستمرًّا للوَعْي والإدراك.
وإذا أدركَ الإنسانُ مَعنى العناصرِ في واقع اللغة ولُغةِ الواقع، فإنَّه سَيُصبح قادرًا على فَكِّ الارتباط بين مَصدر المعرفة الوجودي والتراكيبِ الفكرية التي تقع خارجه، مِمَّا يَمنح بُنيةَ اللغةِ القُدرةَ على تحريرِ الزمان مِن الوَعْي الزائف، وتخليصِ المكانِ مِن اليقين الوهمي، فَيُصبح الفِعْلُ الاجتماعيُّ نَسَقًا ثقافيًّا يَمتاز بالتفاعلِ معَ الذات والموضوع، والفاعليَّةِ في المجال الحَيَوي للإنسانِ في المُجتمع، والمُجتمعِ في التاريخ، والتاريخِ في العَالَمِ.
والفِعْلُ الاجتماعي مُقْتَرِن برمزية اللغة التي تَحتاج -كَي تُصبح فِعْلًا وفاعليَّةً وتَفَاعُلًا- إلى ابتكارِ أنساق ثقافية مُتميزة، واختراعِ ظواهر إنسانية إبداعية، وتأسيسِ مُصطلحات فلسفية جديدة. وهذه المنظومةُ الاجتماعية الشاملة (الابتكار/ الاختراع / التأسيس) تُحدِّد الفُروقَ بين بُنى مَصادرِ المعرفة مِن جِهَة، ونَماذجِ رَمزيةِ اللغة مِن جِهَة أُخْرَى. وإذا كانت اللغةُ فَضَاءً تتكرَّس فيه الروابطُ بين المَعَاني، فإنَّ المُجتمع نِظام مِن القِيَم الأخلاقية والمَصْلَحِيَّة في آنٍ معًا.
والنَّزعةُ الرُّوحيةُ والمَنفعةُ الماديَّةُ وَجْهَان لِعُملة واحدة، لا تَعَارُض بينهما ولا تَضَاد. وهُمَا يَدُوران في فَلَك الخِطَاب اللغوي الرمزي المُسيطِر على العلاقات الاجتماعية، حِينَ تتجلَّى في مَسَار الوُجود الحُر، وحِينَ تَنعكس على مَصير الثقافة الحَيَّة.
(2)
الوَعْيُ هو مركز العلاقات الاجتماعية، ولكن المَركز مَحْصُور في نِطاق معرفي مُحَدَّد، لذلك يجب اكتشاف الرُّوح الإبداعية الكامنة في الأطرافِ، والهَوَامِشِ، والأحلامِ الضائعة، والعناصرِ المَنبوذة، والذكرياتِ المُهَمَّشَةِ، والأفكارِ المُسْتَبْعَدَة، والدوافعِ المَكبوتة، والتاريخِ المَنسي. وإذا كان الوَعْيُ هو نُقطة التوازن بين التاريخِ النَّفْعِي (الذي تَمَّتْ أدلجته) والتاريخِ الخَلاصي (الذي تَمَّ إقصاؤه)، فإنَّ اللاوَعْي هو النسق الإنساني الذي يَكتشف التناقضَ الذاتي في الوَعْي والتاريخ معًا، فلا يُوجَد وَعْي كامل، ولا يُوجَد تاريخ نقي.
وفي ظِلِّ هاتَيْن الحقيقتَيْن، يَنبغي أن يَرسُم الإنسانُ طريقَه بين الطاقةِ الرمزية في اللغة، ودَلالةِ المَعنى في البناء الاجتماعي، كَي يَستطيع التفريقَ بين سُلطة اللغة وسُلطة المجتمع، اللتَيْن تُحاولان انتشالَ شخصيةِ الفرد الإنسانية مِن الغِيَاب والنِّسْيَان، وإعادةَ صِيَاغَةِ تاريخ الأفكار لِيُصبح جُغرافيا جديدةً للحُلْمِ الإنساني في المُجتمع والوُجود.
(3)
الجَوهرُ الأساسي للأنساقِ الثقافيةِ وَعْيًا ومُمَارَسَةً، لَيْسَ سُلطةً خارجيةً مَفروضةً على اللغةِ وبَلاغةِ ألفاظها ومَنطقِ مَعَانيها، وإنَّما هو نِظَامٌ عَقلاني يُوازن بين الوَعْي واللاوَعْي، ويَفحص مَسَارَ العلاقاتِ الاجتماعية في الذِّهْنِ والشُّعُورِ، ويُوضِّح كيفيةَ انعكاسها على البُنية الماديَّة للمُجتمعِ وجُذُورِه الفكرية العميقة، التي تُسَاهِم في صِناعةِ واقعٍ مُتَجَاوِزٍ لِتَشَظِّي الرُّوحِ الإنسانية في الزمان والمكان، وسَيطرةِ المُسَلَّمَات المُخَادِعَة (المُؤسَّسة على سِيَاسة الأمر الواقع) على مَصير المُجتمع في الوُجود المَملوء بالحُدود.
وكُلُّ مُسَلَّمَةٍ اجتماعيةٍ تُفْرِز سُلْطَتَهَا الخَاصَّة بها مِن أجل التَّحَكُّمِ بِهُوِيَّةِ المعرفة في النَّوَاة الداخلية للثقافة كِيَانًا وكَينونةً، وتحديدِ مَلامح هُوِيَّةِ الرمز اللغوي شكلًا ومَضمونًا، وتَعيينِ عناصر ماهيَّة التُّرَاث الفكري، ورَبْطِها بأدواتِ الهَيمنة وآلِيَّاتِ التأويل، وأساليبِ التوظيف.
وكُلُّ سُلطةٍ معرفيةٍ تُؤَسِّس فَلْسَفَتَهَا الحياتية التي تُحَوِّل القِيَمَ والمعاييرَ إلى منهج اجتماعي، يُتيح للإنسان أن يَبْنِيَ تَصَوُّرًا لبيئته الواقعية ومُحِيطِه الثقافي ناتجًا عن وَعْيِه بهما، وإدراكه لهما. كما أنَّ رمزية اللغة يُعاد بناؤها لِتَكُونَ مَادَّةً خِصْبَةً للأنساقِ الثقافية، والظواهرِ الاجتماعية، والتجاربِ الشُّعورية، والخِبراتِ الفردية والجماعية، مِمَّا يُسَاهِم في فَهْم حقيقة البناء الاجتماعي عَبر رؤيته مِن جَميع الزوايا المعنوية والمادية.
وإذا كانت اللغةُ هي البِنَاءَ المنطقي للثقافة، فإنَّ الثقافة هي البُنية العقلانية للمُجتمع. وضِمن منظومة البِناء المنطقي والبُنيةِ العقلانية، يتحدَّد طبيعةُ الدَّور المركزي للفِعل الاجتماعي في تأثيرات اللغة على الثقافة، وتتحدَّد خصائصُ الوظيفة الحيوية للثقافة في المضامين الفكرية للسُّلوكيَّاتِ الإنسانية، والأحداثِ اليومية، والوقائعِ التاريخية، لَيْسَ بِوَصْفِهَا تُرَاثًا مَضَى وانقضى، بَلْ بِوَصْفِهَا كُتلةً معرفيةً يُعاد إنتاجُها باستمرار.
اضف تعليق