العراق يعيش على ناطحات سحاب من السجلات والروتين اليومي القاتل، ومن الصعب تفكيك دولة السجلات بزيارة مفاجئة أو تشكيل لجنة تحقيقية لنقل موظف أو طبيب، المسألة غاية في التعقيد وبحاجة إلى جهود جبارة للمضي قدماً نحو إصلاح المنظومة الإدارية للدولة العراقية، بشرط وجود الإرادة الحقيقية في كل خطوة...
في دولة مستقرة يُعد الاستعراض الإعلامي للحكومة مخاطرة يجب حسابها بدقة خشية حصول ردة فعل عكسية، وفي دولة فاشلة مثل العراق يختلط مفهوم الاستعراض الاعلامي الحكومي بالبرامج الساخرة، إنه مادة للسخرية الجماهيرية.
سقط رئيس الوزراء الأسبق السيد عادل عبد المهدي عندما زار علوة الرشيد النموذجية لبيع الاسماك والخضار (17 تشرين الثاني 2018)، وتحدث بكلمات روتينية مع بائعي الخضار والأسماك، الزيارة كانت مادة دسمة للسخرية عبر مواقع التواصل ووسائل الإعلام لكونها جاءت على شكل استعراض مكشوف وبطريقة تقليدية معروفة للعراقيين.
على نفس الطريقة بدأ رئيس الوزراء السابق السيد مصطفى الكاظمي فترته بالحكم، بزيارة هيأة التقاعد الوطنية (10 آيار 2021)، ومن هناك أطلق وعوداً وعبارات مكررة ممن سبقوه في المنصب، وانتهت الزيارة بأجمل مقطع ساخر، يجلس الكاظمي على مكتب مدير التقاعد ويتصل بأخيه عماد، يوبخه بصوت عالٍ ويؤكد له إنه لم يعد مُلكاً له بل ملكاً للعراقيين، يقصد نفسه مصطفى الكاظمي أنه بتسنمه المنصب صار خادماً للشعب.
الزيارات الميدانية من قبل رؤساء الوزراء لمؤسسات الدولة تعني أن رئيس الوزراء يريد التحقق شخصياً مما قُدّمَ له من منجزات مكتوبة في سجلات كبيرة وبين الواقع الذي تصفه السجلات تلك، بمعنى إنه يريد التعرف على حقيقة ما يرفع له من أمور الدولة.
وحتى خلال الزيارة الميدانية نفسها قد يقع المسؤول ضحية سجلات مضللة لتفقد الزيارة قيمتها وتندرج ضمن الروتين المعتاد، وفي بلد تعمه الفوضى مثل العراق لا تُرجى أي فائدة من زيارة معلومة الموعد، لأن المؤسسة المراد زيارتها سوف تظهر بأجمل حلة، وبمفاصلها كافة، حضور جميع الموظفين وخدمات ممتازة للمواطنين وسجلات متكاملة بدون أي نقص، إلا إذا كانت الزيارة مفاجئة، يفشل الموظف الغائب في الحضور، ولا يستطيع المدير إكمال نواقص سجلاته، فتنكشف حقيقتهم.
ظهر عبد المهدي والكاظمي بصورة روتينية غير مفاجئة وكلماتهم كانت لا تثير أي آمال بتغيير أحوال العراقيين، بل برهنت على عدم وجود مشروع حقيقي لإصلاح التخبطات في إدارة الدولة.
السيد محمد شياع السوداني اعتمد المفاجأة في زيارة مستشفى الكاظمية مساء الأربعاء (13 تشرين الثاني 2022)، اختلفت ردة الفعل تجاه الزيارة، الفارق بينها وبين رؤساء الوزراء السابقين هو غياب الإجماع بشأن السخرية من تحركات رئيس الوزراء، على العكس، حصل السوداني على تأييد أكثر وانتقادات أقل.
في تفاصيل القصة ذَهَبَ السوداني رفقة وزير الصحة إلى مستشفى الكاظمية وسط بغداد في زيارة ليلية ليكتشف غيابات بالجملة للأطباء والموظفين، المرضى يشترون العلاج من خارج المستشفى، لا توجد وجبات طعام للراقدين في تناقض واضح مع ما كتب في سجلات المستشفى.
لم يكتفي رئيس الوزراء بالاجتماع مع المدير وموظفيه بل صعد إلى غرف رقود المرضى، وليس المرضى المحددين سلفاً كما اعتادت مؤسسات الدولة أن تُحَضّر أماكن معينة للزيارة، بل هو من اختار المكان الذي يزوره بنفسه.
وهو داخل المستشفى يجد تناقضاً بين ما قيل له في مكتب المدير وما شاهده بعينه، يقرر نقل الأطباء والموظفين المتغيبين عن الدوام، ويوجه بمعالجة المستشفى المريض، ينتفض ضد أحد الأشخاص لأنه قال له: "الله يوفقك سيادة الرئيس"، يرد السوداني بغضب: "الله لا يوفقنا على هذه الخدمة (السيئة)".
هل كانت الزيارة مسرحية استعراضية أم دلالة على وجود إرادة حقيقية للتغيير؟
يجيب السوداني: البعض يتصور بان زيارتنا إلى مستشفى الكاظمية كانت من أجل التقاط الصور.
تجاربنا مع رؤساء الوزراء السابقين أنهم لا يستطيعون الاستمرار بنفس الحماس الذين يبدأون به أيامهم الأولى في المنصب، لكن السوداني يقول إن الزيارات الميدانية أهم محاور عمل الحكومة الحالية.
قد يكون من السهل الاعتماد على تجارب رؤساء الوزراء السابقين ونطبقها على رئيس الوزراء الحالي فنصل إلى استنتاج مفاده إنه لن يستطيع فعل شيء مفيد للبلد.
هذا احتمال وهو احتمال مرجح على غيره، إلا إذا قرر السوداني أن يكون مختلفاً، أن يشن حرباً كبرى ضد السجلات، ضد الإحصائيات والأرقام الوهمية التي ترفع له من قبل المدراء والوزراء.
هل يستطيع رئيس الوزراء زيارة جميع المستشفيات؟ وهل يمكنه تقصي جميع حالات التقصير في مفاصل الدولة العراقية؟ ومن يضمن أن فريق التقصي نفسه سيتحول إلى حلقة أخرى من الإجراءات الروتينية؟
العراق يعيش على ناطحات سحاب من السجلات والروتين اليومي القاتل، ومن الصعب تفكيك دولة السجلات بزيارة مفاجئة أو تشكيل لجنة تحقيقية لنقل موظف أو طبيب، المسألة غاية في التعقيد وبحاجة إلى جهود جبارة للمضي قدماً نحو إصلاح المنظومة الإدارية للدولة العراقية، بشرط وجود الإرادة الحقيقية في كل خطوة.
اضف تعليق