q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

سراب العظمة

بمنطق الهيمنة، العالم كله يحتاج إلى توان القوى والأمن الجماعي، لأن تاريخ الزمان يعلمنا درساً بليغاً، وهو انه لا توجد إمبراطورية يمكنها أن تحكم العالم إلى الأبد. ولا قوة عظمى تدوم للأبد. كل الإمبراطوريات تسقط في النهاية. والتاريخ معلم كبير...

الدول دورات متتالية ومتشابهة في تطورها، ترتفع عظمتها إلى الأعلى، وتنحدر إلى الأسفل؛ عصر مظلم يتبعه عصر ذهبي ثم عودة للبداية. هي كأدوار الليل والنهار، والفصول الأربعة. ما تلبث أن تتوهج لزمن معين، وتنطفئ في زمن آخر. تبدأ صغيرة، ثم تكبر وتشبّ، ثم تأخذ في الهرم، ثم السقوط والانحلال والكسوف.

هكذا فلسف الأقدمون تطور تاريخ الدول، فهناك حلقات متشابهة، تسير في صيرورة وديمومة دائرية يخضع لها البشر والدول والحضارات. فكان ابن خلدون وتوينبي وفيكو وشبينغلر وباريتو وغيرهم، قد جعلوا من التاريخ يسير بشكل دائري أو شبيه بدورة الحياة، بأفكار مختلفة تتطابق مع عصرهم وتجاربهم. الكل معجبون بدوران القمر وهلاله وبدره وخسوفه

الأدباء، انتقلت لهم عدوى دائرة الوجود الدائري والفناء، حيث أثار شكل القمر الدائري خيالهم في وقت الظلمة، فكانت لهم إبداعاتهم ضمن رؤية الفلاسفة. فقرأنا أدب “نهاية العالم” بأشكاله المختلفة، وصوره المرعبة؛ روايات تكتب عن حضارات تنهار ثم تتراكم ببطء مرة أخرى، ولتنهار مرة أخرى، وهلّم جرّا. يكتبون عن الماضي وانهياراته ثم يكتشفون انه كان وقتاً للمستقبل. يصورّون لنا بلادة الحاكم في الماضي لتدمير دولته بأمراض داء العظمة، ويتنبؤون في نهاية الحاضر بالحروب النووية المدمرة.

قامت إمبراطوريات كبيرة على مبدأ قانون الحركة والتعاقب، لكنها لزمن محدد افل حضورها، مفسحة المجال لبروز إمبراطوريات جديدة، في دورات تاريخية متعاقبة. والتاريخ يخبرنا بأن معظم هذه الإمبراطوريات سادها منطق النرجسية والعظمة في أثبات وجودها، ونظرتها السرمدية التي تجعل وجودها أبدياً. و” لو دامت لغيرك ما وصلت اليك”.

صرنا اليوم نتحدث عن “التنبؤ” بالمصير الذي ستواجه الدول الكبرى، وتحديد من منها هو الصاعد مستقبلاً، ومنها من هو الذي سيتراجع. بعد أن شهدنا نهاية النازية، وانهيار الاتحاد السوفيتي، والتلكؤ الياباني، ثم التشقق في جدران الاتحاد الأوربي. بمعنى الحديث عن الهيمنة الغربية، وتشكيل النظام الدولي الجديد.

هناك اضطراب دولي متعدد الوجوه؛ اضطراب في المنظومة الدولية، اضطراب اقتصادي وجيوسياسي، وتكنولوجي ومعلوماتي، وديمقراطي. وانقلاب كلي في النظام الدولي، وتوتر دولي ملغوم بالنزاعات والأزمات، وحروب خطيرة تهدد العالم بالصواريخ النووية كما في الحرب الروسية الأوكرانية التي أنعشت العودة إلى السؤال الكبير: هل تنتهي الهيمنة الغربية على العالم؟ أم أن الولايات المتحدة الأمريكية لها قابلية إعادة ترتيب أوضاعها والخروج منتصرة من أزماتها الداخلية والخارجية؟

للتذكير فقط، فقد كانت الهيمنة الغربية واضحة وفاعلة منذ القرن الثامن عشر لمدة 300عام؛ قيادة فرنسا لعصر التنوير والثقافة، وبريطانيا لقيادة الثورة الصناعية، وأمريكا لقيادة القوة التكنولوجية والحروب. وهذا الإرث الثقافي والصناعي والتكنولوجي لا يمكن أن يمحو من خارطة العالم بسنوات.

لا شك أن هذه الهيمنة بدأت تضعف بسبب الأخطاء الكبيرة التي اقترفتها الدول الغربية، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع الأزمات الدولية بمرض نرجسية التفوق، وعنجهية المحارب المنتصر، وبعقلية الأمس الاستعماري.

لقد تبدلت الدنيا والأحوال، صرنا نتحدث عن دول ناشئة وصاعدة، مثل الهند والصين وروسيا والبرازيل استلمت قاطرة الاقتصاد العالمي، لتشكل هذه الدول الأربعة 15% من اقتصادات الدول الست الكبار. نتحدث عن روسيا جديدة تتطلع إلى عودة الروح للاتحاد السوفيتي السابق. نتحدث عن قوة الاقتصاد لتقوية الدولة، وليس عن قوة السلاح التدميري الذي يفني الجميع من على الكرة الأرضية.

نعم، أخطأ قادة أمريكا في السنوات الأخيرة في التعامل مع الأزمات الدولية بروح المغرور المريض المتكبر الذي لا يرى إلا نفسه، ولا يقبل النقاش ولا الراي، والنظر للدول من برج عال؛ ترامب وجنون داء العظمة، كلنتون وحقده على الصين، بوش وحروبه المريضة بالأحقاد، خاصة حرب العراق، أزمة أوباما المالية العالمية وسياسة التسيير الكمي، وسياسة بايدن في تأزيم الأزمات مع روسيا والصين. بالمختصر أنتهى الإلهام السياسي في عقل القادة الأمريكان!

بالمقابل، يستمر قادة الدول الصاعدة بابتكار أنماط جديدة للقيادة، ورؤية سياسية جديدة للعالم، وخيال خصب في تحقيق التنمية، وفلسفة فاعلة لإدارة السياسة والحياة. وبخط متوازي، يَنشط إدراكهم بأهمية ترسيخ ” الثقافة الوطنية ” لتقوية الولاء الوطني، ومحو “الثقافة الغربية” التي غرستها الهيمنة الغربية في الماضي.

انتشلت الصين 700 مليون شخص من براثن الفقر، بينما غرقت شعوب الدول الغربية بأزمات اقتصادية واجتماعية، حيث يعمل اقتصاد السوق على زيادة عدم المساواة في الدخل بمعدل غير مسبوق، وتضعف الطبقة الوسطى اقتصادياً وسياسيا، ويقل دورها في الحياة. هناك شعور ثابت لهذه الشعوب بأن مصيرها لم يعد بأيديها؛ قلق يتصاعد من المستقبل، وأمل يضعف من النظام السياسي.

لذلك ثار البريطاني على نظامه بدعوته للخروج من الاتحاد الأوربي من أجل إعادة حياته من جديد، بعد أن جعل الاتحاد حياتهم أسوأ بنمطيته وتبعيته وتقاليده القديمة. وتمرد الأمريكي على نظامه بفوضى الشارع والانقسامات السياسية الحادة. وعاش الألماني قلقاً من نقص الغاز، وكابوس التضخم، ودوامة الأسعار، وتباطء التعافي في سوق العمل. فالكل “يركب قطار يسير بسرعة جنونية من دون سائق” حسب تعبير الروائي الفرنسي إميل زولا

عاد العالم يسأل مرة أخرى بعد صدمة الحرب الروسية الأوكرانية، والتبعية الأوربية للولايات المتحدة: وماذا بعد؟

هناك فجوة واضحة بين الحضارة الأمريكية والحضارة الأوروبية. على الرغم من أن الولايات المتحدة وأوروبا متحالفتان بشدة، إلا أن خلافاتهم كانت موجودة دائمًا. ولكن مشكلة أوربا الجوهرية؛ هو وجود الناتو، وعدم وجود جيش أوربي مستقل. مما يجعلها منقوصة الاستقلال، وتحت سيطرة الأوامر السياسية للولايات المتحدة. وقد قالها الرئيس الفرنسي ماكرون بالفم المليان: الولايات المتحدة حليف، وحليف طويل الأمد لنا، لكنه في نفس الوقت حليف يقوم باختطافنا لفترة طويلة. وبالحسابات السياسية البسيطة، فأن الولايات المتحدة بحاجة إلى مواجهة مع روسيا وأوربا، ولكن ليس من مصلحة أوربا حرب روسيا، وإخراجها من اوربا لأنه سيكون خطأ استراتيجيا كبيرا بعيد المدى، مثلما هو خطأ قاتل في الجيوسياسية. ومثل هذا السلوك من شانه خلق أزمات اقتصادية قاتلة لأوربا، وتثوير لأزماتها ومشكلاتها، وتفتيت لقوتها الداخلية والخارجية.

أوربا تحتاج إلى شجاعة سياسية، وخيال سياسي جديد، وسيادة في الدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا والحدود والمال والعملة من اجل تحديث نظامها السياسي المشلول بالتبعية العمياء.

من الآخر، وبمنطق الهيمنة؛ العالم كله يحتاج إلى “توان القوى” و” الأمن الجماعي “، لأن تاريخ الزمان يعلمنا درساً بليغاً، وهو انه لا توجد إمبراطورية يمكنها أن تحكم العالم إلى الأبد. ولا قوة عظمى تدوم للأبد. كل الإمبراطوريات تسقط في النهاية. والتاريخ معلم كبير.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق