يعيش العراق حالياً وضعاً سياسياً شاذاً عن سياقه العام منذ وقت ليس بالقصير. وتكمن نقطة الشذوذ هذه تحديداً في طبيعة التلاحم الشعبي الجديد الذي تمكّن - بقدر ملحوظ- من تجاوز الحس الطائفي المتنافر بين الحزبين الرئيسين في هذا البلد أي الشيعة والسنة. وللأمانة فإن هذا الوصف الذي يختزل العمل السياسي في عراق اليوم بحزبي الشيعة والسنة مقتبسٌ بتصرف من كلام قديم لأحد رؤساء الحكومات العراقية في العهد الملكي، والعهدة على أحد المؤرخين العراقيين المعاصرين.

وأتصور أن هذا الوصف المذكور آنفا لا يُعنى بالجذر الديني للفظتي الشيعة والسنة بقدر ما يُراد به توصيف التوزيع الاجتماعي العراقي بحسب الكثافة السكانية للمحسوبين على هذين الفريقين، وبحسب ما يقيمه كل منهما من تحالفات مع بقية السكان.

وأكبر الظن أن الانسجام بين أفراد هذين الحزبين العراقيين مرشحٌ إلى مزيد من إحراز درجات التماسك الاجتماعي والوطني على الرغم من كثرة وتنوع التحديات – داخليا وخارجيا- الرامية إلى ضرب هذا الانسجام الفتي في صميم قوته، وتأثيره، وذلك عبر تنفيذ مخطط إعلامي وعسكري واسع النطاق، يشترك في التخطيط له، ومتابعة نتائجه على الأرض القسمُ الأكبر من سياسيي السلطة والمعارضة على حد سواء.

وأقصد بمفهوم المعارضة الواجهات السياسية التي عرفها العراقيون بعد 2003م وذاقت من مغانم التغيير بقدر أو بآخر قبل أن تضطرها ظروف انحسار الشعبية السياسية إلى رفع لافتات المعارضة للحكومة تارة أو الانضواء تحت خيمتها تارة أخرى، كما أقصد بالسلطة جميع الماسكين بزمام مراكز القيادة والإدارة العليا في البلد باستثناء رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي –كما يبدو-ومن يشاطره-حقيقةً لا ادعاءً- حُلْم الإصلاح والعزم على مكافحة مظاهر الفساد في جميع مفاصل الدولة الكبير منها والصغير.

إن كل متابع لمشهد الحدث السياسي والمتمثل بتنظيم التظاهرات الأسبوعية في كثير من محافظات العراق وعلى رأسها العاصمة بغداد يقرّ بتنامي موجة هذا الغليان الشعبي، وتحسن أداء المشاركين فيه من جمعة إلى جمعة، ولاسيما على صعيد إفشال الخطابات الفئوية المستمرة التي أدرك غالبية المنظمين منذ وقت مبكر أنها أفتك أنواع أسلحة خصومهم على الاطلاق في ما إذا تم الإذعان إلى إيحاءاتها ومراميها، فضلا عن انتباه وتصدي عدد لا يستهان به من قادة التظاهرات إلى محاولات حرف بوصلتهم عن وجهتها المدنية أو اشراكهم - ترغيبا أو ترهيبا- بمشروع الفساد الذي خرجوا تواً للبراءة منه ومن مؤسسيه.

لكن السيناريو المتفائل في ما يتعلق بالانسجام الوطني المُرتجى لن يكون له حظٌ من التحقق مستقبلا، ولن يحفظ تضحيات المشاركين بصياغته ومن سهر على بقائه ماثلا للعيان طيلة المدة السابقة ما لم تجتمع كلمة الناشطين أنفسهم على هدف موحد يكون بمنزلة السقف الأعلى لمطالب الشعب الذي يُفترض أن يكون هؤلاء الناشطون – بحكم الامر الواقع- الناطقين باسمه في هذه اللحظة العصيبة من تاريخ بلادهم، ولن يكون هذا الهدف أقل من تغيير الدستور وكتابته بشكل مدني يكفل لجميع المواطنين ذات الحقوق ويحملهم ذات الواجبات بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الجغرافية، فإن كان هذا المطلب عصيا على التنفيذ الحكومي في الوقت الحاضر فلا خيار للطرف الحكومي بالتنازل –بلا منة- عن ما دونه من طلبات الجماهير كمحاسبة رؤساء الفساد وتوفير الخدمات وفرص العمل ونحو ذلك...

ولكي تتحقق غاية من هذا النوع ينبغي أن تتواجد هذه الطاقات الاجتماعية الرافضة لأوجه الفساد والظلم وانحلال القيم... ينبغي أن تتواجد في مكان واحد. ولن يكون هذا المكان – من وجهة نظري- بأفضل من (شارع الرشيد) لما يحمله هذا الموقع من رمزية سياسية إيجابية، وما يوحي به من عاطفة وطنية ستساهم بشكل مؤكد في جسر الهوة السحيقة التي تسبّب بصناعتها سياسيو ما قبل عام 2003م ومن جاء بعد هذا التاريخ ممن اختلف معهم شكلاً لا مضموناً.

كلمة ذات صلة:

عن الشاعر اليمني عبد الله البردوني بتصرف : كنا ونحن في صنعاء إذا سمعنا بأن الجواهري ألقى قصيدة سياسية توقعنا أن تخرج بعد أيام مظاهرات في شارع الرشيد...

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق