تعرف القوى الحاكمة أن غيرها ينظر للدولة عبارة عن سوق، والشعب لا يرغب بهذه الأفعال، إلا أن التحول من دولة سوق المناصب إلى دولة قائمة على حكم القانون يتطلب مدة ليس بالقصيرة، كما أن الطريق نحو دولة المؤسسات غير مضمون، وهو ما يجعلها (القوى الحاكمة) تقتنع بضرورة إقائمة دعم دولة المؤسسات...
عندما تتحدث عن بيع وشراء المناصب العليا في الحكومة العراقية، لا تجد من يستغرب الأمر، والشخصيات العاملة لدى السلطة لا تنفي عمليات التداول المالي بالمناصب، بل نسمع تأكيدات من مسؤولين رفيعي المستوى ونواب في البرلمان وعبر شاشات التلفاز بأن منصباً تم بيعه بكذا ألف دولار، ومنصب آخر بكذا مليون دولار.
سعر المنصب يرتفع وينخفص حسب ما يوفره من مصالح للمشتري، فضلاً عن تأثيرات ظروف الصراع السياسي المحلي والإقليمي، فالعملية مرتبطة بخصائص السلعة نفسها (المنصب)، والظروف المحيطة بها. وإذا استطعنا اسقاط مصطلحات البيع والشراء على ما يجري بشأن المناصب الحكومية يمكننا وصف المنصب بأنه "سلعة"، وتكون رئاسة الوزراء السلعة الأغلى التي لا تخضع للعرض والطلب الطبيعي فحسب، بل تتصارع عليها الجهات التي تطلبها أملاً في الحصول على مكاسب كبيرة.
هل هذا هو الهدف من التأسيس للمناصب الحكومية؟
وجود المنصب الحكومي يفترض تحقيق مصلحة للمجتمع، ومن يتسنم المنصب يملك تفويضاً من قبل المجتمع للقيام للقيام بما هو مفيد للجميع، لذلك يعطى صلاحيات واسعة، فهو في النهاية وكيل المجتمع لرعاية شؤونه ومصالحه، أو هو مجرد موظف حاله حال أي موظف حكومي آخر، واختلافه بحجم المسؤولية الملقاة عليه لا أكثر.
ليس هناك فضل لمسؤول على آخر إلا بحجم الجهد المبذول للنفع، ولم يكن المنصب الحكومي يوماً غنيمة يحقق من خلالها الأشخاص مصالحهم الخاصة، أو توظيفها لغير الهدف الأول وهو خدمة المجتمع.
من يخرج عن هذه القواعد يُفرغ المنصب الحكومي من محتواه ويحوله إلى شيء مختلف يضر ولا ينفع، وما أن ينقلب المنصب من المصلحة العامة إلى المصلحة الخاصة حتى يتحول من دواء لحل المشكلات إلى داء يصنعها.
والداء يحاربه كل إنسان عاقل، مجتمعنا اليوم ينظر للمناصب الحكومية ومن يتسنمونها بأنها الداء الذي يجب القضاء عليه، واستعادة جسد الدولة المريض بأمراض حب التسلط والكسب المالي والسياسي على حساب الغير.
هذا أحد أهم أسباب كراهية الناس لمجلس النواب، فالنائب يُنظر إليه على أنه بائع للمناصب، وسلوكه السيء يتسبب بالمشكلات للبلد الذي أتعبته التعقيدات والتأخر في إنجاز المشاريع، ومن الطريف أصبحت هناك مقولة شائعة لدى عامة الناس مفادها: "دعوهم يسرقون حصتهم لكن ليقدموا لنا خدمة بسيطة"، لتعبر المقولة عن حجم اليأس من أي أمل برعاية النواب لمصالح الشعب.
أما المسؤول التنفيذي فهو "المالك"، بعد إجراء عملية شراء المنصب من نواب البرلمان، يحق له التصرف بما يراه مناسباً لملكه الشخصي (أي المنصب)، وهو الشيطان الأكبر بالنسبة للمواطنين، لم تعد هناك ثقة بأي شخص تسنم منصباً حكومياً، واشتهرت لدينا جملة "المُجرب لا يُجرب"، لأن حصول الشخص على المنصب يعني القيام بعلمية بيع وشراء ومن يمارس هذا الفعل لا يمكن الثقة به مجدداً.
بالنسبة للقوى السياسية المسيطرة هذا الكلام صحيح، وهم يتبارون بينهم عبر وسائل الإعلام لتشخيص مكامن إفراغ الدولة من محتواها ومسخ المناصب إلى سلع معروضة في السوق، كما يقدمون الوصفات الإصلاحية لاستعادة الدولة، لكن الواقع هو المحك الحقيقي للخطابات السياسية، كل قوة تنظر للدولة على أنها منجم ذهب مباح، يستفيد منه الأقوى والأشد بأساً، لا يهم كيف تأتي القوة، بدعم خارجي أو داخلي، بمخالفة القوانين والدستور أم بتطبيقها، بأي شكل كان، الغاية هي تحصيل الغنيمة لجماعة صغيرة كأن تكون الحزب السياسي.
تعرف القوى الحاكمة أن غيرها ينظر للدولة عبارة عن سوق، والشعب لا يرغب بهذه الأفعال، إلا أن التحول من دولة سوق المناصب إلى دولة قائمة على حكم القانون يتطلب مدة ليس بالقصيرة، كما أن الطريق نحو دولة المؤسسات غير مضمون، وهو ما يجعلها (القوى الحاكمة) تقتنع بضرورة إقائمة دعم دولة المؤسسات عبر خطاباتها، أما التطبيقات فهي ممارسات البيع والشراء في أخطر عملية تفريغ للحكومة العراقية من وظائفها.
اضف تعليق