لماذا نعاني من خفوت التفكير الجديد، هل لدينا شباب مطوَّق باليأس والإهمال، ويعاني من ضبابية في الهدف وضآلة في الرؤية وسكون مطلق في الطموحات وغياب شبه تام للتخطيط الرسمي والمدني؟ لا أحد يهمه هذا الخمول المخيف للشباب وغيرهم، لا أحد يوجعه قلبه على ما يحدث من تراجع وخمول وكسل للإرادة...
حين نعتمد أرقام البحوث العلمية الدقيقة ذات الطابع المستقل، سنلاحظ أن واقع المجتمعات المتأخرة يفتقد للتدعيم الفكري، مع ضآلة كبيرة في إطلاق المبتكرات الفكرية التي تُسهم في نقل المجتمع من مستوى متدنٍ إلى مستوى الاستحقاق، فالمبادرة الفكرية هنا لها قصب السبق في تدعيم وترميم واقع المجتمعات المتأخرة.
وثمة خرائط عمل تتم هندستها بالفكر غايتها بلوغ درجة أو مرتبة أعلى في التقدم والتطور، فهناك خرائط عمل يسير عليها التطور، فيدبّ عبر مدخلات فكرية تبادر بها عقول ابتكارية، فالمبادرة هنا هي الأساس، وقد جاء عنها في معجم المصطلحات الفقهية، أنها تأتي في معنى بادر يبادر مبادرة، وهو الإسراع وعدم المماطلة، أما في اللغة فالمُبادَرة تعني السبْق إلى اقتراح أمرٍ أو تحقيقه، وقد تطور مفهوم المبادرة خلال السنوات الأخيرة، فأصبحت المبادرة فكرة وخطة عمل تُطرح لمعالجة قضايا المجتمع وتتحول إلى مشاريع تنموية قصيرة المدى، لكنها سوف تأخذ بيد المجتمع الى أمام بشكل مستدام.
أما الجهة أو المنظمة العلمية التي تُطلق مثل هذه المبادرات، فإنها عادة ما تأتي عن المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والجمعيات الخيرية والتطوعية، داخلية ضمن رقعة البلد أو خارجه، وقد تكون المبادرة فردية أو جماعية، كذا توجد لها أنواع من حيث الهدف، فربما تكون سياسية أو اقتصادية وقد تكون ذات هدف حربي وهكذا، وتعني المبادرة في معجم المعاني الجامع سبْقا إلى اقتراح أمرٍ أو تحقيقه، ففي الحرب تعني أن يسبق قائدُ جيش قائدَ جيش العدوّ إلى خطَّة حربيَّة تمكِّنه من الانتصار عليه، وتعني أيضا القدرة أو الميل المطلوب لبدء شيء ما مثل تجارة، أو عمل أو هدف ما يقرره الشخص، وهذا ما يهمنا بالضبط، فنحن نبحث في المبادرة الفردية والجمعية التي تلتصق بالإنسان والشباب منهم بالدرجة الأولى، كون هذه الفئة العمرية تشكل القوة العملية المنتجة لأفضل النتائج فيما لو تم توجيهها فكريا بطريقة مسوَّغة.
في المقابل ثمة معيقات تقف حيال المضي قُدُماً بالمبادرة أو المشروع الفكري، والشيء المضاد أو المناقض للمبادرة فهو الخمول، تُرى هل يعاني الإنسان في مجتمعاتنا من الخمول، ونحن هنا نستهدف الأمم المتراجعة على المستوى العالمي، ومن بينها بعض دول المسلمين والعرب كذلك، ومن بينها العراق، فالناس كما نتأمل ذلك في حركتهم ونشاطهم، يبدون كأنهم لا أهداف لهم، وفي علم النفس من لا هدف له لا حركة له ولا رغبة صوب الفكر، خامل كسول مستكين هاجع كما يصفه اللغويون، أي أنه لا ينزع إلى الحركة أو التفكير من أي نوع كان، بالإضافة إلى جمود القطاع الخاص في تنمية روح المبادرة في التفكير أو العمل، وهذا يمثل مشكلة كبيرة حيال التنمية المجتمعية.
وهناك عوامل تدفع العقل الفردي أو الجمعي نحو الإحباط، فتهمّش التفكير وتحيّد القدرة العقلية على التأثير، فكيف تنطفئ حاجة التفكير في داخل البشر؟ يحدث هذا يكون الإنسان محاصَرا بالخمول وروحه شبه منطفئة وسقف الطموحات لديه منخفض، ومستوى المبادرة الى التفكير تصل درجة الصفر وقد تكون تحته أحيانا، وفي الأفق تلوح مسببات تفق وراء ذلك، فما هي من وجهة النظر النفسية والاجتماعية والتربوية حول ذلك، هل مجتمعاتنا راكدة الى هذا الحد، وهل شبابنا مكبَّلون بالسوداوية وضياع الأمل وخلو الحياة من دوافع الاندفاع قُدُما؟ يأتي في الجواب، أن مثل هذه الأجواء المحبطة تتواجد في المجتمع المتعثر، وإن أراد القادة أو القائمون على صناعة القرار معالجة ذلك، فليس أمامهم سوى إطلاق المبادرات الفكرية وتطبيقها.
وثمة ظروف موضوعية تسهم بشكل أو آخر في إقفال العقل، وجعله يدور في فلك المعتاد والسائد، والسؤال لماذا نعاني من خفوت التفكير الجديد، هل لدينا شباب مطوَّق باليأس والإهمال، ويعاني من ضبابية في الهدف وضآلة في الرؤية وسكون مطلق في الطموحات وغياب شبه تام للتخطيط الرسمي والمدني؟ لا أحد يهمه هذا الخمول المخيف للشباب وغيرهم، لا أحد يوجعه قلبه على ما يحدث من تراجع وخمول وكسل للإرادة، العقل الشبابي محاصر بالنواقص من جهة والعوائق والسدود من جهة أخرى، فيما تفكير صانعي القرار وعقولهم محاصرة بالمنافع السريعة حتى لو كان وقودها الشباب وبسطاء الناس، لهذا سادت المنافع، وغابت الرؤية الوطنية للبناء، وانشغل معظم الساسة في تدبير منافعهم ومضاعفتها.
ظهرت احتجاجات كثيرة من الطبقة الشعبية، وأسهم هامش الحرية ومواقع التواصل في تسليط الضوء على الفساد وضمور الفكر وإهمال الفئة الشبابية، لكن هذا الأمر لا يشكل معالجة فضلى، وهكذا فإن جماعات الضغط لم تعد تجدي نفعا ربما قدمّت ما بوسعها حتى تحوّل سخطها ونقمتها الى نشاط مجمّد وحركة آلية تسير هي أيضا نحو الخفوت والانطفاء، أحيانا نسمع صرخة احتجاج هنا أو هناك، نرى مبادرة صغيرة هنا أو هناك، هذه الأصوات والحركات الساخطة على صانعي القرار لم تنجح في التغيير، كما أنها لم تشعل فتيل الفكر في الرؤوس الشبابية أو سواها، فتضمحل المبادرات الفكرية وعدم إشراك القطاع الخاص في ذلك، وهذا هو الخطأ الفكري الاقتصادي المزدوج الذي يؤدي بالنتيجة الى خفوت المبادرة.
خلاصة ما نسعى إلى تثبيته، وتوصيله إلى من يهمه الأمر، إننا حين نسعى الى تثبيت الوقائع بعد رصدها، فنحن لا نهدف الى تثبيط الهمم، ولا نرسم واقعا جامدا، ولكننا نحاول مواجهة الواقع كي نبادر الى معالجته فكريا، فليس هناك أسرع وأقوى وأكمل وسائل الفكر للنهوض بالإنسان، إذاً يجب أن نرصد ما يحدث فعلا ولا نأتي من عندنا بشيء، وإنما نتكلم عمّا نراه لا على ما نتمناه أو نحلم به فواقعنا لا يسرّ وعلميتنا لا يمكنها النهوض بنا إذا لم يكن هناك جذوة متوقدة تشعل في أعماقنا وإرادتنا روح المبادرة، مجتمعنا بحاجة الى رؤوس تعرف كيف تطلق المبادرات الفكرية الجديدة المحركة للواقع باتجاه التواؤم مع العالم المتقدم وليس سواه، على أننا كي نترك الواقع المزري وراءنا، سنكون بحاجة مستدامة لإطلاق المبتكرات الجديدة.
اضف تعليق