يقوم أحد التلاميذ بحركات لا تعجب المعلم، وهذا الأخير يسمع صوت الحركات تلك لكنه لا يستطيع تحديد من هو القائم الفعلي بهذه الحركات، يطلب من التلاميذ تحديد المذنب، يرفضون الاستجابة لطلب المعلم، يصمت الجميع فهم لا يملكون الطاقة لفضح زميلهم، صحيح أنه أوقعهم في موقف محرج، لكن كشف أفعاله يعد مخالفة للثقافة السائد القائمة على التستر...
يقوم أحد التلاميذ بحركات لا تعجب المعلم، وهذا الأخير يسمع صوت الحركات تلك لكنه لا يستطيع تحديد من هو القائم الفعلي بهذه الحركات، يطلب من التلاميذ تحديد المذنب، يرفضون الاستجابة لطلب المعلم.
يصمت الجميع فهم لا يملكون الطاقة لفضح زميلهم، صحيح أنه أوقعهم في موقف محرج، لكن كشف أفعاله يعد مخالفة للثقافة السائد القائمة على التستر على المذنب مهما كان مؤذياً لمجتمعه.
وقد يشعر بعض التلاميذ بالاسمئزاز من سلوك زميلهم ويمنون النفس بابتكار المعلم طريقة لكشفه، ورغم هذا الشعور يفشلون في توجيه أصابع الاتهام ضده، فقد تربوا على "ثقافة التستر"، وهي ثقافة تقدس حماية المذنبين وتعدها من المحرمات الكبرى.
النتيجة إصدار المعلم عقوبات جماعية ضد التلاميذ واعتبارهم مشاركين في جريمة زميلهم.
لناخذ صورة أوسع لـ"ثقافة التستر"، يحدث أن يقوم شخص من عشيرة ما بجريمة ضد شخص من عشيرة أخرى، تطلب عشيرة الضحية من عشيرة الجاني كشفه وتسليمه للقضاء، تفشل الأخيرة في القيام بشيء مفيد في هذا الشأن.
إنهم يتمنون تمكن الحكومة من اعتقال المجرم، أو قيام عشيرة الضحية بتأديبه، لكنهم لا يريدون تحمل عار كشف المجرم، والنتيجة مشابهة لما حدث مع التلاميذ، تتعرض العشيرة للعقاب الجماعي ويصبح كل شخص منها عرضة للقتل من قبل عشيرة الضحية.
أما إذا تحدثنا عن أحوال المؤسسات الحكومية، فالكلام يكون استنتاجاً ليس أكثر، كل الموظفين كانوا تلاميذ في المدارس وهم أعضاء طبيعيون في عشائرهم، وقد تشبعوا بـ"ثقافة التستر".
هل تعتقد أن الموظف قادر على كشف مخالفات زميله؟
يصعب حدوث مثل هذا الأمر.
لكن لماذا تنتشر "ثقافة التستر" رغم آثارها المدمرة على المتستر نفسه وعلى المجتمع؟
وما هي آثارها على تنامي شعور المذنب بأنه محمي؟
لنعد إلى المثال الأول الخاص بالتلاميذ، لو كشفوا عن زميلهم، فقد يتعرض للعقوبة من قبل المعلم، وينتهي كل شيء داخل الصف.
المشكلة خارج الصف، فبالإضافة إلى وصمة العار التي تلاحق المبلغ عن التلميذ المخالف باعتباره متملق لسلطة المعلم، سوف يتعرض للتعنيف ويدخل في مشكلات لا حاجة له بها، لأن العشائرية تبدأ مع الأطفال منذ بداياتهم الأولى في الحياة.
ولتجنب كل الإشكالات المتوقعة يقرر التلاميذ عدم الإفصاح عن المذنب وتحمل العقوبة الجماعية بدل وقوعها ضد شخص واحد، وهكذا ينتهي كل شيء.
الجميع يتحمل العقوبة بينما المخالف يتبختر بصفته الشخص القوي الذي يستطيع مخالفة السلطة المسيطرة وهي سلطة المعلم، وبتكرار المخالفات يصبح هذا الشخص زعيماً لعصابة من الشقاوات في المدرسة يفعلون أي شيء، ويهددون النظام العام، ويراهم التلاميذ ويخشون التبليغ عنه حفاظاً على سلامتهم.
إدارة المدرسة نفسها قد تعرف بهذه العصابات المدرسة، وتشاهد سلوكها من بعيد، وفي أحيان كثيرة لا يطبقون القانون عليهم، والسبب أن التلميذ من هذا النوع في المدرسة محمي التلاميذ داخل المدرسة ومن السلطة العشائرية خارجها.
النظام العشائري هو الآخر قد يحمي عصابة التلاميذ من سلطة الإدارة المدرسية، والعصابة استطاعت فهم توازنات القوة داخل النظام بين سلطة الإدارة المدرسية وسلطة العشيرة فضلاً عن حياد التلاميذ الآخرين، ما سهل عملية خرق النظام.
وإذا كانت المدرسة إحدى أهم المؤسسات الحكومية المنتجة للثقافة العامة والموجهة لسلوكيات الأفراد، فإن المؤسسات الحكومية الأخرى تكون شبيهة بما يحدث داخل المدرسة، والآثار تكون أكثر ضرراً على المجتمع.
فقد تؤثر عصابة التلاميذ على زملائهم وينتهي الأمر، أما في حياة الموظفين داخل المؤسسات العامة فالضرر مباشر وعلى نطاق أوسع، تتحول العصابة داخل المؤسسة الحكومية إلى سلطة، تسيطر على منافذ اتخاذ القرار، تكمم الأفواه، تهدد من تشاء، وتفعل ما تشاء.
في مجتمع مثل العراق يعد "فعل التستر"، فضيلة يتفاخر بها غالبية الشعب، رغم ما فيها من أضرار بليغة، وتلك أكثر ثقافة يحتاجها من يريد تحقيق مصالحه على حساب المصالح العامة وكسب المال والسلطة بطرق غير مشروعة.
اضف تعليق