ما يسمى بالانسداد السياسي، يمثل الهدنة غير المعلنة بين جميع الأطراف السياسية بمختلف أفكارها وسلوكياتها وأجنحتها العسكرية، كل طرف تموضع في مكانه بدون تراجع للخلف، أو تقدم للأمام. هذه الهدنة هي التي تسببت بالانسداد السياسي، كيف يحدث هذا الانسداد؟ وهل يصلح تسميته بالانسداد، أم أنه مجرد مصطلح...
ما يسمى بالانسداد السياسي، يمثل الهدنة غير المعلنة بين جميع الأطراف السياسية بمختلف أفكارها وسلوكياتها وأجنحتها العسكرية، كل طرف تموضع في مكانه بدون تراجع للخلف، أو تقدم للأمام.
هذه الهدنة هي التي تسببت بالانسداد السياسي.
كيف يحدث هذا الانسداد؟ وهل يصلح تسميته بالانسداد، أم أنه مجرد مصطلح انبثق في سياق خطابات الإطار التنسيقي الذي لا يريد المضي قدماً بتشكيل الحكومة بدونه؟
لتوضيح المسألة سوف أطرح مثالاً من الصراعات اليومية التي تحدث في الشوارع العراقية.
قد تتواجه سيارتان في مسارين متعاكسين، وهذا يحدث بشكل يومي، حيث تنعدم ثقافة احترام القواعد القانونية، في أغلب الأحيان تمر السيارتان، ويمضي كل سائق في مساره، لأن في الطريق رصيف يستطيع أحدهما النزول عليه، وحل المشكلة.
وفي حالة أخرى قد يتعنت أحدهما، أو كلاهما، وتكون الغلبة لصاحب الصوت الأعلى الذي يلقي التهديد والوعيد، حتى وإن كان مخالفاً للقانون، فالقوة هي التي تفتح لك المسار، وتسهل عليك الحركة في دولة تفتقد للقواعد الناظمة لسلوكيات الأشخاص والكيانات.
وفي الحالة الثالثة الشبيهة بحالة الانسداد السياسي الحالي، فالمسألة لا تتعلق بسيارتين فقط، إنما بمجموعة كبيرة من السيارات، موكب طويل من السيارات يملأ الشارع كاملاً في كل اتجاه.
هنا يصعب فتح أحد المسارين لأنه ممتلئ عن آخره، وكل سائق سيارة له رأي مختلف عن الذي يقف بجواره، وحتى وإن اتفقوا على فتح المسار سيحتاجون إلى تراجع مجموعة من السيارات إلى الوراء، ومن شبه المستحيل قبول سائق سيارة بالتخلي عن موقعه في بيئة فوضوية.
قد يقبل أحد السائقين بالتراجع للخلف، لكنه يحتاج إلى تراجع سائقين آخرين يفتحون له المسار بالاتجاه المعاكس، وهذا غير ممكن.
وحتى من يملك القوة والسلطة التي يخيف بها السائقين الذين يقفون أمامه، يعرف بانعدام فائدة استخدام قوته، ففي حال تخلصه من السائق الأول يحتاج إلى فتح جبهة ضد السائق الثاني والثالث، وهذه استراتيجية غير مجدية.
الخلافات إذا لا تكون بين فريقين متضادين، إنما بين أطراف الفريق الواحد، وما يعقد المشهد محدودية المسار وعدم وجود أي منفذ جانبي للهروب والتخلص من زحمة السير هذه.
الانسداد السياسي الذي يجري الحديث عنه الآن شبيه بحالة السيارات التي أشرنا إليها، غالبية الأعضاء مشتركون في جريمة مخالفة القانون، ومن لم يخالف وضعه الحظ في بيئة لا تحترم القواعد.
من يملك القوة لا يستطيع استخدام القوة لكونها غير مجدية، ومن يملك الحق القانوني لا توجد سلطة تنفذ له حقه، أما من يريد التنازل عن حقه والتراجع للوراء لا يستطيع أيضاً.
الكل يقف في مواجهة الكل، والفوضى تعم المكان، والمسار ضيق، والأطراف متعددة بأشكالها، وتوجهاتها، ورؤيتها، وموقعها في الصراع.
شيء واحد لو تم غرسه منذ مدة طويلة لأمكننا تجاوز الأزمة الراهنة، ويتمثل هذا الشيء بـ"الثقة"، التي تمثل الجسر الذي يربط علاقات الأفراد والكيانات ويضمن لهم عبوراً آمناً في مختلف الاتجاهات التي يريدون بدون خوف أو خشية على فقدان موقعهم.
والثقة تبنى على ركيزتين:
الركيزة الأولى القواعد غير المكتوبة، وهي التي تسمى التقاليد والأعراف السائدة، على سبيل المثال، أن الدولة الجارة لدولة أخرى تنتظر من جارتها احترامها وعدم الاعتداء عليها، وفي حال حدث اعتداء مستغلاً حالة الثقة سوف ينفرط عقد الثقة ويصعب معها استمرار علاقات الجوار.
الركيزة الثانية، القواعد المكتوبة أو القوانين الناظمة لعلاقات الأفراد والكيانات، وهذه القواعد ملزمة لجميع الأطراف، وفي حال خرقها من قبل طرف معين تفقد قيمتها في مد جسور الثقة.
قد يجد بعض الأفراد أو الكيانات سعادته في خرق القواعد كجزء من لعبة تحقيق الانتصارات على حساب الآخرين، وفرض النفوذ في بلد ما تزال أسسه لينة وقابلة للتبدل، لا سيما مع وجود أكثر من مصدر لدعم قوة الطرف الذي يخرق القواعد.
لكن استمرار خرق القواعد يؤدي إلى بحث المتضررين من الخروقات عن مصادر قوتهم الخاصة للحفاظ على مكانتهم، فتصبح القوة هنا هي القاعدة لا غير، وكل شيء من التقاليد السائدة والقوانين تفقد قيمتها.
كل من يخرق القواعد ويحقق مكاسب لنفسه ضد منافسيه، سيفقد بمرور الوقت هذه القوة، وسوف يعود مجدداً للبحث عن القواعد لأن القوة ليست مطلقة، والقدرة على خرق القواعد مكاسبها لا تدوم.
القواعد هي الضامن الفعلي لحقوق جميع الأطراف، لكن الأهم من وضع القواعد هو احترامها من قبل جميع الأطراف حتى تبقى الجسر الذي يربط العلاقات، والجدار الذي يحدد حق الحقوق والواجبات.
اضف تعليق