فشل العولمة المبكر والسابق على جائحة كورونا يؤشر الخلل في الفكر الامبريالي الأميركي في توقعاته بدمج العالم كليا في أطر ثقافة عصر اللبرالية الأميركية المعبأة وبأقصى حد بإلغاء الثقافات المحلية للشعوب وفي أعقابها إلغاء الهويات الوطنية الجامعة للدول المستهدفة في آسيا وأفريقيا. فالديمقراطية وحقوق الانسان وهي الشعارات...
استقطب مستقبل العالم خلال أزمة كورونا اهتمام مراكز البحوث والدراسات، واكتظت وسائل الاعلام والصحافة بنشر توقعات المفكرين والباحثين الأكاديميين والكتاب الكبار في ما سيكون عليه هذا العالم المعبأ بالأزمات والمثير دائما للقلق الانساني على مستقبله،
وقد كتب أديل نحام من مركز (فريديرك إس باردي) التابع لجامعة واشنطن قوله (من المفيد لنا أن نبدأ بالتفكير بالفترة التي تلي جائحة كورونا) وهو يعبر عن سياسة المركز في اهتمامه بمستقبل العالم على أثر جائحة كورونا، ورغم أن الاهتمام بمستقبل العالم كان سابقا على جائحة كورونا وموضوعا أساسيا في الجدل السياسي والثقافي العام في أوساط النخب الفكرية إلا أنه مع كورونا أخذ بعدا تداوليا عاما وشاركت فيه المؤسسات والهيئات المتعددة الهويات،
وقد نشر أديل نحام في جريدة الشرق الأوسط " العدد 15388" في" 14/يناير/2021م" خلاصة مقابلاته مع شخصيات دولية سياسية وأكاديمية وبمختلف التخصصات وقد انتهى الى خلاصة مفادها (أن عالمنا قبل الجائحة كان طبيعيا جدا ولكن زمن ما بعد الجائحة لن يعود الى هذه الطبيعة).
ويضع نحام أربعة أسباب في عدم القدرة على العودة الى طبيعة عالم ما قبل كورونا، وهي تسارع التحولات والمشهد المضطرب لاسيما في السياسة، وهنا يضع توقع غراهام إليسون عميد كليه كينيدي – جامعة هارفارد بإزاحة القوة الحاكمة "الولايات المتحدة" والذي يتسبب عن تصاعد قوة الصين، ويضيف إليها بقاء عادات كورونا وخلق فرص جديدة للاستثمارات.
ويؤكد نحام أن العودة الى الوضع الطبيعي الذي كنا نعيشه غير ممكنة وفق قوله، ولاشك أنه يعرض وجهة نظره كشخص ومهتم أوربي-غربي قد يبدو وضع العالم لأفراد وشعوب أخرى ليس طبيعيا سواء قبل كورونا او خلال أزمة كورونا.
وينقل قول نعوم شومسكي (يجب أن نسأل أنفسنا عن العالم الذي سنخرج به وما هو شكل العالم الذي تريد العيش فيه).
وبالنتيجة فإن العالم–عالمنا الذي تخطى أو كاد أن يتخطى أزمة كورونا ظل بالمجمل هو نفسه عالمنا قبل كورونا وهو ما أبطل مفهوم أو فكرة عالم ما بعد كورونا وصار ليس عالم ما بعد كورونا.
ويكشف حجم التوقعات وطبيعة التساؤلات في تقرير نحام عن القلق الذي ينتاب عالمنا المعاصر والذي بدا سابقا على أزمة كورونا لا سيما القلق المرتهن بتوقعات الحروب، والمفارقة استبطان بعض التوقعات في ظل أزمة كورونا رؤية تبشيرية وخلاصية.
لكن العالم بدا أو يكاد أن يبدو متغيرا ومتحولا بعد كورونا ولكن بعيدا عن آثار أو تأثيرات كورونا، ورغم أن بعض التوقعات في ظل أزمة كورونا أشارت الى تلك المتغيرات والتحولات الممكنة لاسيما تصاعد قوة الشرق–الصين وقدرتها على إزاحة الهيمنة الأميركية وبعضها تناول فشل العولمة الأميركية وأثار تلك التحولات أو إمكاناتها في تغيير شكل العالم وهو يدعو الى توقعات حول "عالم ما بعد أميركا".
عالم ما بعد أميركا
كشفت الوقائع السابقة على أزمة كورونا عن التصاعد الهائل للصين على المستوى الاقتصادي والصناعي والتقني وعلى مستوى الإدارة السياسية لأكبر التجمعات البشرية في العالم وكذلك فرص العدالة التي وفرتها الصين لشعوبها والتي لم تكن مقنعة للغرب الامبريالي لا سيما الولايات المتحدة، وبسبب الأمن الاقتصادي الدولي الذي تنشده الصين من أجل ديمومة قوتها الاقتصادية صارت تتبع سياسات الاسترضاء السياسي للولايات المتحدة دون أن تؤثر على سياساتها الداخلية التي أبقت على مفهوم الدولة المركزية وحكومة الحزب الواحد الذي تضع حكومة الصين بإزائه مبررات مقنعة، وسياسات الاسترضاء هي ما حالت دون بروز الصين كقوة توازن دولي على صعيد العالم، ولعل طبيعة الاقتصاد الصيني ذي الطبيعة المركبة رأسماليا واشتراكيا مما يكسبه بعدا سياسيا هجينا هو ما يمنع الصين من سياسات المواجهة مع الولايات المتحدة التي تشترطها سياسات التوازن الدولي، ورغم ذلك ظلت الولايات المتحدة تستشعر الخطر الصيني على مستقبلها السياسي والاقتصادي والذي بدوره ينعكس بشكل مباشر على مستقبل العالم.
وكان فشل العولمة المبكر والسابق على جائحة كورونا يؤشر الخلل في الفكر الامبريالي الأميركي في توقعاته بدمج العالم كليا في أطر ثقافة عصر اللبرالية الأميركية المعبأة وبأقصى حد بإلغاء الثقافات المحلية للشعوب وفي أعقابها إلغاء الهويات الوطنية الجامعة للدول المستهدفة في آسيا وأفريقيا.
فالديمقراطية وحقوق الانسان وهي الشعارات التي واجهت بها أميركا دول الشرق وأنظمته الدكتاتورية كانت تهدف من خلالها الى إسقاط تلك الأنظمة أولا ومن ثم إسقاط هذه الدول في أعقابها كما حدث في العراق وفي ثورات ما عرف بالربيع العربي باستثناء مصر.
وقد أدركت الصين تلك السياسة الخطيرة للولايات المتحدة عبر ترويجها عالميا لما يعرف أميركيا بالقيم الأميركية العليا أو مبادئ اللبرالية، فسحقت في العام 1989م احتجاجات ساحة تيانانمن المليونية بكل قسوة وعنف، وكان سير الدبابات الصينية في شوارع بكين في قمع تلك التظاهرات الدامية إشعارا للولايات المتحدة والقوى اللبرالية في الداخل الصيني أن الدولة في الصين خط أحمر وبلون الدم، مما وضع دولة الصين بالنسبة للولايات المتحدة في حالة من التكافؤ الأمني والسياسي دون شغل دور التوازن الدولي معها.
وفي أثناء ذلك وقبل جائحة كورونا كان هناك مخططا شرقيا يتنامى ويتمدد في عالم الشرق وغير آبه للمواجهة مع الغرب بل هو ينخرط في تحديات معلنة أمام الغرب، وقد صنفته الولايات المتحدة خطرا استراتيجيا على مصالحها وقوتها الاستراتيجيتين وهو خطر روسيا–بوتين ومن خلاله أثبتت روسيا قدرتها على المشاركة في إدارة بعض أزمات العالم وتجييرها لصالحها وقد بدا ذلك واضحا في مواجهة روسيا للغرب والولايات المتحدة في سوريا والنجاح الذي حققته في الحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية في تلك البقعة الملتهبة من العالم.
مما أورث تصورا عاما لقدرة روسيا على إحداث نوع هام من التوازن على الساحة الدولية والإقليمية بشكل خاص، والذي بدأت لحظته مبكرا مع الاستيلاء المخطط له من جانب روسيا على إرث الاتحاد السوفيتي المنحل وكانت البداية مع يلسن –روسيا وكرانيتشوك–أوكرانيا وشوشكنين–بلاروسيا، وهي الدول التي أعلن رؤساؤها عن حل الاتحاد السوفيتي في 8/ ديسمبر/ 1991م وتأسيس اتحاد الجمهوريات المستقلة وبذلك تمكنت من المحافظة على مراكز القوة في الاتحاد السوفيتي المنحل لا سيما القدرات العلمية والاستخباراتية والتسليحية التقليدية والنووية.
واذا كان يلسن قد مهد الى ظهور روسيا دولة لها حضور نسبي فان بوتين قاد روسيا الى حضور إقليمي ودولي فاعل ومؤثر، فقد كان بوتين يعبر عن امتداد الاتحاد السوفيتي كقوة تاريخية في أعماقه النفسية من خلال عبارته (من لا يحن الى الاتحاد السوفيتي فهو بلا قلب ومن يريد استعادته فهو بلا عقل).
وهكذا كان قلب بوتين يتحرك باتجاه تراثه القريب وهويته الثقافية بينما كان عقله يتحرك باتجاه واقع روسيا ومصالحها، واستثمر بذكاء تجربة التاريخ الحديث في روسيا فقد ورث الاتحاد السوفيتي وجوده ونفوذه على الأرض من الامبراطورية القيصرية – الروسية وكانت محاولة بوتين أن تكون روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي في قوتها ونفوذها، وهو لم يعتمد عمل التاريخ بشكل قدري بل سعى الى إنشاء نظام اقتصادي قوي منفتح على نظام اقتصاد السوق ومنافسة الصناعات الدولية لا سيما في مجال الصناعات التسليحية وإدارة ثروات روسيا الطبيعية لا سيما النفط والغاز والقمح الروسي، أخيرا بما يضمن صعود روسيا دوليا وليس إقليميا فحسب، وساعد على إنشاء شبكة واسعة من الأثرياء وأصحاب الرأسماليات الكبرى من الروس امتد نشاطهم الاقتصادي والمالي الى أوربا وأميركا، وقد كشفت العقوبات الأميركية والأوربية عن حجم الأموال الروسية العاملة في بنوك ومصارف أوربا، ولعل الصداقات التي تربط هؤلاء الرأسماليين الروس بالرئيس بوتين تؤكد المنحى المخطط له من جانب بوتين في إنشاء طبقة رأسمالية – روسية تعمل في أوربا وبقية مناطق العالم من أجل إعداد العدة لعودة روسيا الى موقعها الدولي الموروث عن الاتحاد السوفيتي وفق مخطط بوتين.
وكانت اولى خطوات بوتين قبل ذلك هو تحصين دولة ومجتمع روسيا من الاستحواذ الثقافي والسياسي الأميركي فعمد الى إصدار القوانين التي تحظر المشاركة بالمنظمات غير الحكومية والأجنبية والتي في أغلبها أميركية التمويل والتوجيه، وأصدر حظرا قانونيا في منع تبني الأطفال الروس من قبل الأسر الأميركية، ورفضه القاطع بإصدار تشريعات تبيح زواج المثليين، وكان يهدف من خلال ذلك الى المحافظة على الهوية الوطنية الروسية من خلال سياجها وسياقها الثقافي–القومي والتقليدي.
وهكذا شدد بوتين على المسارات الخاصة للتحولات التي ينشدها في روسيا وهي تدخل في أيدولوجيته الوطنية والثقافية في "عدم اعتماده على مخططات من الكتب المدرسية الغربية" كما يقول هو في العام 1991م- نقلا عن موقع الميادين نت 10/3/2022-.
وكان صعود روسيا هذا يترافق مع تراجع أدوار الولايات المتحدة وانسحابها من بؤر التوتر في الشرق وهو المجال الذي تسعى روسيا الى إحداث قوة توازن فيه ومن خلاله ويبدو ذلك في تطوير علاقاتها الاستراتيجية مع دولة الصين وجمهورية ايران الإسلامية، واستنتاجا عن انكماش الولايات المتحدة وانسحاباتها في الشرق وضعف حلف الناتو سياسيا على أثر الشكوك الأوربية التي أثيرت حول دور ومستقبل الناتو، يرى الخبير العسكري خالد المطلق أن النموذج الوحيد الذي يأمل بوتين بتحقيقه هو ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية بنقل الهيمنة البريطانية على القرار الدولي الى الولايات المتحدة الأميركية وحينها ستكون روسيا وفق هذا النموذج بديلا عن أميركا أو لاعبا أساسيا في النظام العالمي والإقليمي الجديد – موقع حرمون"هل سترث روسيا الشرق الأوسط" – وهو ما تتكهن به النتائج مع حرب أوكرانيا وقوة روسيا – بوتين في فرض إرادتها وتنجيز مخططها.
وهو ما يضعنا بشكل مباشر أمام توقعات "عالم ما بعد أميركا" التي جمّدت تلك التوقعات سيلا من الكتابات والتوقعات في ظل أزمة كورونا حول "عالم ما بعد كورونا".
اضف تعليق