أهمية إحياء يوم الأرض والتأكيد على التمسك بالأرض والهوية، في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة، تأتي من أن الشعب الفلسطيني أعاد الاعتبار لحقوق الفلسطينيين على المستويات الدولية والشعبية، وكذلك تجلت الوحدة الوطنية بأبهى صورها رغم الخلافات والانقسامات، وفي ذلك رسالة للعالم أجمع أن حقوق الفلسطينيين...
أحيا الشعب الفلسطيني بكل شرائحه وأطيافه ذكرى يوم الأرض، في الداخل المحتل والشتات، وسط آلة استيطانية شرهة تلتهم وتهود وتخنق وتشرد وتغتال، آلة تمثل رأس حربة لتصفية الشعب الفلسطيني وقضيته، ويمثل جدار الفصل العنصري واحداً من ذيولها المتعددة ليتغول بهدف طرد أصحاب الأرض الأصليين، وزنقهم في مساحات ضيقة ليقضوا اختناقًاً. فذكرى “يوم الأرض” تكتسب بعداً مختلفاً عند (اللاجئين) الفلسطينيين في مخيمات الوطن والشتات بما تجسده من معاني النضال والتشبث بالأرض وحق العودة.
وبما تمثله من ذكريات الحب والحنين بين الأرض وصاحبها، تلك الأرض التي طالما اشتاقت لحبات العرق من جبين من حرثوها وغرسوها طوال سني عمرهم، يرتبط (اللاجئون) بين سنوات لجوئهم الممتدة عبر ستين عاماً كنتاج للتهجير القسري من ديارهم وأراضيهم عام 1948، وهبّة الثلاثين من آذار عام 1976 التي تصادف ذكراها هذه الأيام كامتداد للعدوان الممنهج وكعنوان بارز لنضال الشعب الفلسطيني بخاصة والعربي بعامة وتمسكه بوطنه وأرضه.
ولقد جرى العديد من المحاولات الإسرائيلية لتوطين المهجرين الفلسطينيين في أماكن لجوئهم حيث بدأ الاحتلال بعد حرب 1967، في طرح مشروعات توطين (اللاجئين) المهجرين من أراضيهم، وذلك لأنه يعدّ أن عودة (اللاجئين) المهجرين إلى أراضيهم التي اغتصبت سنة 1948 تهدد كينونته وأمنه وعدّه مشروعات التوطين حلاً لمشكلة الأمن الإسرائيلي.
اليوم، وبعد 46 عاماً، على ذلك اليوم الخالد في النضال الوطني الفلسطيني، جرت مياه كثيرة وسالت دماء غزيرة وشهدت المنطقة أحداثاً جساماً، تجعل من الضروري والهام الوقوف على واقع القضية الفلسطينية والكشف عما حدث فيها من أخطاء، وتصويب مجرى النضال الوطني الفلسطيني، بما يتناسب والتحديات التي يواجهها الواقع الفلسطيني، والذي أدى إلى تراجع القضية الوطنية الفلسطينية على غير صعيد، ما يتطلب مراجعة نقدية جريئة إلى كل ما آلت إليه القضية الفلسطينية، حيث زاد من صعاب ما تتعرض له الواقع العربي المتراجع ومتاهاته، وقبل أن يفرض على الشعب الفلسطيني اتفاقيات جديدة أكثر خطورة من اتفاقية أوسلو وملحقاتها، في ضوء تصاعد سياسات القتل الإسرائيلية، وانفلات إجراءات الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، والخطر المحدق بالقدس، من خلال طرد سكانها وإحاطتها بالعديد من المستوطنات، في محاولة محمومة لخلق وقائع جيو سياسية على الأرض، والوقائع والمعطيات الإسرائيلية ـ الأمريكية تشير إلى ذلك بوضوح.
ولتقريب الصورة أكثر، لا بد من الربط بين الدور الذي لعبته إدارة الرئيس الأمريكي السابق رولاند ترامب، والدور الحالي الذي تلعبه إدارة الرئيس بايدن حول ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حيث ملأت إدارة الأول الفضاء ضجيجاً وفرقعات إعلامية بأنها على أعتاب فتح مبين ينهي الصراع ويرسي السلام الشامل!، وذلك حين أعلنت عن خطة “صفقة القرن" والهدف كله من هذه الصفقة اللعينة، كان التثبيت والفرض، تثبيت كيان الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية كلها، بالعسكرة والاستيطان والاقتصاد والسياسة... وفرضه إقليمياً بصورة مُعلنة، أي رسمية، عبر اتفاقات التطبيع. فقط "تنفيذ الضم" من بين بنود "صفقة القرن"، بقي قيد التأجيل، أو كما يُقال لم يُسعف الوقت إدارة ترامب لتحقيقه... لتأتي إدارة جو بايدن التي تقول بأنها ستتبع سياسات "مختلفة" "تنصف" الفلسطينيين عبر إعادتهم إلى موقع "الطرف" وليس "الملحق" كما عاملتهم إدارة ترامب، أي أن يتم التعامل مع طرفين، فلسطيني وإسرائيلي، وليس الإسرائيلي فقط...
لكن المقدمات مع إدارة بايدن، لا تشي بالتفاؤل خصوصاً مع تبني إدارة بايدن أغلب سياسات ترامب تجاه الفلسطينيين، أما ما تقوله هذه الإدارة عن معارضتها للاستيطان ولضم الضفة الغربية، فهو حتى الآن لا يعدو كونه كلاماً، فإدارة بايدن ثبتت أخطر قرارات ترامب حول القدس المحتلة، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وهي تتحدث بشكل متواصل عن معارضتها للاستيطان والضم، لكن الاستيطان مستمر، والضم قد تتخذه إسرائيل في أي وقت، يُضاف إلى ما سبق -وفي إطار الرسالة الإسرائيلية - أن عدة مسؤولين في إدارة بايدن أعلنوا أن "الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ليس من ضمن أولوياتها.
ولذلك، وفي ظل هذا الراهن المعيب والمؤلم يبقى الأسف تعبيراً غير قابل للصرف المعنوي، وندب الحظ على مواقف بعض الوسطاء الدوليين في الصراع العربي ـ الإسرائيلي من تبنيهم في خطابهم السياسي المواقف الإسرائيلية، بل والتدخل لدعم التوجهات الإسرائيلية التي غالباً ما تتخذ لتغيير هوية الأراضي والمدن الواقعة تحت الاحتلال والمحاولات التي تستهدف القدس المحتلة الآن بتغيير هويتها الفلسطينية (العربية والإسلامية) هي أبلغ الشواهد على ذلك، حيث يكرس كيان الاحتلال الإسرائيلي احتلاله المدينة المقدسة، وإعلانها عاصمة أبدية له وتدنيس المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وهدم أساساته، وتوالي هذا التدنيس وسط حماية قوات الاحتلال الإسرائيلي...
وللأسف، فالتاريخ لم يتوقف عن إعطائنا الدرس تلو الآخر وخصوصا فيما يتعلق بملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي وطريقة التعاطي الإسرائيلي مع هذا الملف والنظرة الأمريكية ـ الغربية تجاهه، وكل الدروس التي وثقها التاريخ الحديث لم تقدم موقفًا واحدا للولايات المتحدة ومن معها من الدول الراعية لعملية السلام، ولا للاحتلال الإسرائيلي تثبت من خلاله أنها صادقة في تعاطيها ونظرتها إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وأنها حقًّا راعية لعملية السلام، وأن استقرار المنطقة بالنسبة لها حاجة ملحة وضرورية، بل إن مدار سياساتها طوال الحقب الماضية ولا يزال يؤكد أن الولايات المتحدة عبر تقدمها المشهد في ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي لكونها القوة الكبرى الحامية للاحتلال الإسرائيلي والمدافعة عنه، انتهجت سياسة إدارة الصراع وليس حله... وهذا ما أعطى المحتل الإسرائيلي رسائل خاطئة فسَّرها على أنها إن لم تكن ضعفًا وهوانًا فإنها موافقة ولو ضمنية، وأخذ يترجمها في صورة وقائع على الأرض استيطانا وتهويدا وتشريدا وتهجيرا وعربدة لا سابق لها، وإعدامات ميدانية واغتيالات واعتقالات وحصارا جائرا، وتنمرا ورفضا للحقوق الفلسطينية والعربية.
الحقيقة الثابتة اليوم، أنّ أهمية إحياء يوم الأرض والتأكيد على التمسك بالأرض والهوية، في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة، تأتي من أن الشعب الفلسطيني أعاد الاعتبار لحقوق الفلسطينيين على المستويات الدولية والشعبية، وكذلك تجلت الوحدة الوطنية بأبهى صورها رغم الخلافات والانقسامات، وفي ذلك رسالة للعالم أجمع أن حقوق الفلسطينيين لا تموت بالتقادم ولا يمكن التنازل أو التفريط بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وغير مسموح لأي كان بتقديم التنازلات على حساب الفلسطينيين وحقوقهم، ولا تراجع عن مقاومة المحتل بكل السبل والوسائل المتاحة، لاسترجاع الأرض المستلبة وضمان حق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. وعليه لا تنبع أهمية يوم الأرض من كونه يوم تحد لسلطة الاحتلال المغتصبة للحقوق فحسب، وإنما لكونه يتمحور حول المركب الأكثر أهمية في الوجود الفلسطيني تاريخياً وإنسانياً وحضارياً، ألا وهو العلاقة العضوية بين الشعب والأرض.
خلاصة الكلام: في كل عام يؤكد أبناء الأرض المحتلة من خلال نشاطاتهم المتنوعة التي تحيي ذكرى يوم الأرض عبر زراعة أشجار الزيتون التي يدأب المستوطنون الصهاينة على حرقها تعبيراً عن حقدهم عليها، بأنهم سائرون على نهج الصمود والتجذر في أرضهم حتى تتحقق مطالبهم العادلة... واليوم نحن أحوج ما نكون ليوم للأرض، يوم للوطن في كل بلداننا العربية، وليس في فلسطين فقط، لأن رياح الانقسام والتشرذم وتفتت الأرض وضياعها، تعصف بنا جميعاً، والمأساة أنها رياح عربية بتنا مع استمرار عصفها بنا نخجل أمام فلسطين وقدس أقداسها، فما عسانا نقول لها في ذكرى أرضها المقدسة المحتلة.
اضف تعليق