قد يقول أغلبنا، بالتأكيد سنرفض جميع التدخلات، لكن في الواقع كل يدافع عن التدخل الذي يناسبه ويحقق مصالحه الحزبية والفئوية والطائفية حيث ما تزال السيادة أداة من أدوات التفاوض أكثر من كونها الركن الأساسي الذي يجب أن تبنى عليه أساسات دولة عراقية قادرة على قول "لا" للجميع بدون استثناء...
السيادة في العراق مفهوم مائع ولا يستقر على حال، وبينما يفترض أن تبقى خارج حسابات المساومة والتنازلات، تجد العراق يضع سيادته على طاولة التفاوض إذا ما تعرض لمضايقات من كبير الدول المهيمن وصغيرها الطامح في التوسع.
ليس من المنطقي اختراق سيادة البلد من قبل دولة أخرى، بينما يناقش العراقيون ما إذا كان الخرق مقبول أم لا؟ اختراق السيادة يفترض به الرفض المطلق من أي طرف كان.
قد يهبط الجدل إلى تبرير التجاوز الخارجي واعتبارها مسألة تخص الدول المعتدية، وبحسب الجدل المتداول من واجب العراق الإذعان والسكوت، ويعتمد هذا التبرير على جانبين يكمل بعضهما الآخر:
الجانب الأول: المصلحة الحزبية والفئوية، على سبيل التوضيح، من ينتمي للأحزاب المقربة من تركيا والمستفيدة منها لا يرى مشكلة في قصفها المدن العراقية.
كما أن الأحزاب الكردية التي تعادي حزب العمال الكردستاني لا تمانع كثيراً من استهداف عناصر الحزب من قبل تركيا.
في المسارين تم تغليب المصلحة الحزبية والذاتية على حساب المصلحة الوطنية العليا.
الجانب الثاني: التبرير المضاد، هنا يحق لتركيا قصف شمال العراق ما دامت إيران تتدخل في شؤون الجنوب، والولايات المتحدة الأميركية لها قواعد في الأنبار وأربيل.
على العكس يحق لإيران قصف أي منطقة تشاء وتتدخل في الشؤون العراقية ما دام غيرها يتدخل.
تلك الحجج موجودة وبكثرة في النقاش العراقي، وهو ما يؤشر على وجود إشكالية في تحديد معنى السيادة والمصلحة الوطنية، واستهانة العراقيين بها لدرجة أنهم جعلوها أداة للمساومة السياسية والتنابز بين بعضهم البعض والاستقواء بالأجنبي على حساب أبناء الوطن الواحد.
وهذه الظاهرة لها جذور عميقة فعهد الملك فيصل الأول يروي لنا قصة ولاية الموصل حيث قامت بريطانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي باشتراط تحكمها في الجزء الأكبر من القرار السيادي عبر تعيين المستشارين في الوزارات العراقية ومشورتهم ملزمة وغير قابلة للرفض.
من الموظف البسيط وحتى رئيس الوزراء يتم تعيينه بضوء أخضر بريطاني، وقد يفرض فرضاً إذا اقتضت الضرورة.
يتفاوض الملك فيصل وحكوماته قصيرة الأجل مع بريطانيا من أجل تنظيم علاقة قابلة للحياة، ويمكن تبريرها للشعب، تعقد ثلاث معاهدات في ظرف عشر سنوات، معاهدة 1922 و1926 و1932، وكلها تدور حول محور واحد، كل طرف يريد مسك السيادة على البلاد بيده، بريطانيا الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والمملكة العراقية التي لم تبلغ سن الرشد السياسي بعد.
خلال العهد الملكي احتشد أنصار الملكية قديماً وحتى زماننا هذا دفاعاً عن معاهداتهم مع البريطانيين، بحجة أنها احتفظت لنا بالموصل، تلك البقعة التي أرادت تركيا اقتطاعها لصالحها، بينما جاء الملك فيصل ليستعيدها باللحظات الحرجة في معاهداته الثلاث بتعديلاتها.
المفارقة أن العراق كان يتفاوض على مسألة سيادية، حيث يجب أن لا تخضع للتفاوض، فمن غرائب السياسة التفاوض على شيء لا يمكن التفاوض عليه، وإن هبط إلى هذا الوادي خسره صاحب الحق، فأصغر تنازل فيه يفتح الباب لتنازلات مستقبلية ويعطي تصوراً بأن سيادة هذا البلد ليست مطلقة ولا عصية على الاختراق.
نمت هذه الأخطاء في عملية التأسيس للسيادة الوطنية، لتكبر على شكل محفزات لمعارضة النظام لا سيما وأنه احتفظ بعلاقاته الوطيدة مع بريطانيا رغم رعايتها لمشروع تقسيم فلسطين وتبديل ملكيتها إلى اسرائيل.
حركة العقداء الأربعة عام 1941 كانت سابقة لتاريخ تهويد فلسطين، لكنها أعطت انطباعاً بأن محاولات استعادة السيادة لا تأتي إلا عبر التنازل عن جزء منها لصالح المشروع النازي، فالرصيد الوطني هو العملة الرسمية في عمليتي البناء والهدم للمشاريع السياسية.
يسيطر أنصار النازية مدة قصيرة معلنين استعادة السيادة، ينقلب شراعهم بنفس السرعة، فيثلم من سيادة البلاد أكثر من السابق، سيطرة بريطانية أوسع وتحكم بأمور البلاد وقبضة مشددة على الحكم، حتى ينتهي المطاف إلى عام 1958 حيث يسحل الملك وأعوانه احتفالاً بعودة السيادة الوطنية الكاملة.
وكأن لسان حال العراقيين يقول نريد سيادة كاملة سياسياً واقتصادياً، يحققها حزب البعث عام 1972 بتأميم النفط وإنهاء سيطرة الشركات الاحتكارية العالمية.
كانت فرحة ممزوجة بالإنجاز على أرض الواقع هذه المرة، يرتفع دخل الفرد، وتزدهر الحياة العامة ويرتقي التعليم، وتتضاءل نسب الأمية، والبلاد تسير بثبات نحو صعود سلم التقدم.
بعض المشكلات مع الأكراد تربك قيادة البلد في ذلك الوقت، الحقائق تشير إلى دعم شاه إيران للاضطرابات في شمال العراق، الحكومة تتفاوض مع الشاه في الجزائر، تضع أغلى ما عندها على الطاولة، التنازل عن سيادة بغداد على شط العرب مقابل توقف طهران عن دعم التمرد الكردي.
تنجح المحاولة فالعرض العراقي فيه من الإغراء ما يجعله غير قابل للرفض، بعد بضعة سنوات تشعر نفس الحكومة بالخطأ، تشن الحرب فتخسرها وتثلم السيادة مرة أخرى، تنتهي الحرب وتعود للعبث ضد الكويت منهية كل سيادة على أجواء العراق، حيث حظر الطيران الصارم، ثم الانهيار الكبير عام 2003 إلى نفس أجواء عشرينيات القرن الماضي، بريطانيا تعود لكن تحت الظل الأميركي والسيادة العراقية تحمل في بطنها قواعد أميركية وبريطانية وطائراتهم تملأ الأجواء، تسمح لمن تشاء وترفض من تراه عدوا لها، ولا علاقة للمصلحة العراقية بالمسألة.
والنقاش نفسه لم ينتهي بعد، ولم نستطع تحديد إجابة موحدة تجاه السيادة العراقية، هل يجب أن نرفض قيام إيران بتوجيه صواريخها ضد الأراضي العراقية بحجة استهداف أعدائها؟ وهل نرفض إيران ونسكت عن تركيا؟ أم هل نرفض تركيا ونسكت عن إيران، أم نرفض الجميع؟
قد يقول أغلبنا، بالتأكيد سنرفض جميع التدخلات، لكن في الواقع كل يدافع عن التدخل الذي يناسبه ويحقق مصالحه الحزبية والفئوية والطائفية حيث ما تزال السيادة أداة من أدوات التفاوض أكثر من كونها الركن الأساسي الذي يجب أن تبنى عليه أساسات دولة عراقية قادرة على قول "لا" للجميع بدون استثناء.
اضف تعليق