السلطة الحاكمة الآن ليست أقوى من سلطة صدام حسين، وهذا الأخير كان ممسكاً بالسلطة بقبضة حديدية، ورغم ذلك فقدها بالنهاية لتوسع فجوة الثقة بينه وبين الشعب، الاتصال بالشعب وتحقيق مطالبه بتحسين واقعه أفضل وأقوى من الاتصالات الهاتفية مع الزعماء السياسيين ولقاءاتهم التي لا تفيد إلا في إعادة انتاج...
من المؤكد أن القوى السياسية النافذة ستبقى ممسكة بالسلطة كما اعتاد العراقيون عليها، بينما تفقد ما تبقى من رصيد الثقة عند الجمهور والسبب هو كسب السلطة في كل مرة بطرق ملتوية وتجاوز القواعد الدستورية والأخلاقية في تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب وما يترتب عليها من تأثيرات سلبية على حياة المواطنين العراقيين.
فاللقاءات بين الخصوم السياسيين والتي يتم تصويرها على أنها موضع ترحيب وفرح شعبي ليست كذلك، بل العكس، الشعب ناقم على قادة البلاد لكونهم يتحاربون فيما بينهم فيدمرون أي أمل في إحراز تقدم، ثم يتصالحون عندما تتأزم الأمور، وهدف الصلح إبقاء التوازنات السياسية حتى وإن أدى إلى سحق المطالب الشعبية الداعية إلى تغيير أسلوب إدارة الدولة العراقية.
لنعد إلى الوراء قليلاً حينما اجتمع أكبر خصمين من طائفتين مختلفتين عام 2018، هما خميس الخنجر السني المتشدد والمشهور بتهجمه ضد القوى الشيعية المنضوية تحت راية الحشد الشعبي، وخصمه هادي العامري وقيس الخزعلي الزعيمان اللذان يمثلان أكبر التكتلات الشيعية المنبثقة من الحشد.
بسرعة استدار الخصوم من العداء الشديد إلى التحالف السياسي الذي ساعدهم في تشكيل الحكومة وتقاسم المناصب، بينما حصل كل منهم على أصواته الانتخابية من خلال الهجوم اللفظي ضد خصمه وتصويره بأبشع صورة.
لم تكن تلك الحالة نقطة تحول نحو إنهاء الطائفية السياسية في العراق فحسب، بل أبرزت حجم الاستغلال لمسألة الدين والعقيدة وتوظيفها للحصول على مكاسب سياسية، وبدأت فئات كبيرة من الشعب تتحدث عن خيانة السياسيين لهم وركضهم وراء المناصب، وأن حروبهم الإعلامية من أجل كسب الأصوات فقط ولا تهدف إلى خدمة الشعب، إنها فجوة في الثقة.
لم تعد الطائفية مجدية في مجال الكسب السياسي، برزت صراعات الأخوة في المذهب الديني الواحد، حتى تولدت قناعة لدى فئة كبيرة من العراقيين بأن لقاء زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر وزعيم ائتلاف دولة القانون السيد نوري المالكي هو المستحيل بعينه.
لم يتوقع كثير من العراقيين خبراءً ومواطنين حصول أي تقارب بين الصدر والمالكي نتيجة الحدة في الخطاب والبعد في الأهداف المعلنة والقطيعة الشديدة.
شيء ما قلب المعادلة، حكومة الأغلبية التي رفع شعارها السيد الصدر ليست ممكنة بدون دخول المالكي، ما الحل؟
يرن هاتف نوري المالكي، ينظر في المتصل، يجده السيد مقتدى الصدر، يسحب الخط الأخضر، وتنطفئ النار والعدو صار صديقاً بمكالمة واحدة.
مكسب سياسي يحسب للطرفين ومبادرة قد تنهي مدة طويلة من التجمد السياسي، فالصدر سوف يحافظ على سيطرته في مسألة تشكيل الحكومة، والمالكي سوف يكسر كلمة الصدر التي قال إنه ذاهب لتشكيل الحكومة فضلاً عن حيازته لمناصب في الحكومة الجديدة.
في ميزان ربح المناصب وإبقاء السلطة بيد الطرفين فإن المبادرة ناجحة، لكن في الميزان الشعبي فاشلة وغير مجدية، لن تعيد ثقة المواطنين بالحكومة ولا حتى المنظومة السياسية الحاكمة، ووضعت الجميع في سلة واحدة عنونها "منظومة العراق الحاكمة"، فقبل أيام كان المالكي خصماً "للإصلاح"، وبعد الاتصال صار المالكي زعيماً سياسياً فاعلاً تسمع كلمته وينتظر رأيه، وفي المقابل صار الصدر جزءاً رسمياً من المنظومة الحاكمة، ولن تنفعه فكرة ابتعاده عنها.
في الأيام التالية لتشكيل الكابينة الوزارية لن تحسب الحكومة على أحد وستبقى طافية على أمواج الأزمات، تقذفها حيث يشاء القدر، كما هي حالة حكومة السيد مصطفى الكاظمي وقبلها حكومة عبد المهدي.
في مقابل حالة الطفو هذه لن يستطيع أحد كسب ثقة الشعب _ما عدا جمهوره القليل جداً_ وهم يعرفون هذه الحقيقة، لذلك يعملون مع كل انتخابات إلى تحييد الجمهور الرافض للجميع، حيث يبقى الجمهور المتحزب وهو قليل طبعاً وبما يعيد إنتاج نفس الوجوه ونفس الأحزاب والزعامات السياسية.
إلا أن استراتيجية الاستيلاء على السلطة بدون الأخذ بنظر الاعتبار لحالة الاحتقان الشعبي وفجوة الثقة محفوفة بالمخاطر، وقد تؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها، فكسب السلطة بالطرق الملتوية لا يعني ضمان ثقة الشعب، وعدم حصول الثقة ينذر بانهيار السلطة الحاكمة مهما كانت قوية ومقتدرة على ضبط التحركات الشعبية في البلاد.
السلطة الحاكمة الآن ليست أقوى من سلطة صدام حسين، وهذا الأخير كان ممسكاً بالسلطة بقبضة حديدية، ورغم ذلك فقدها بالنهاية لتوسع فجوة الثقة بينه وبين الشعب.
الاتصال بالشعب وتحقيق مطالبه بتحسين واقعه أفضل وأقوى من الاتصالات الهاتفية مع الزعماء السياسيين ولقاءاتهم التي لا تفيد إلا في إعادة إنتاج نفس الوجوه ونفس الأداء السيء الذي استمر في العراق منذ سنوات.
اضف تعليق