تحول بعض الأنظمة السلطوية في البلدان العربية الى النظام شبه الديمقراطي المنغمس في الأساليب الدكتاتورية، لم يمكنها من الابتعاد عن توظيف هذه النظرية لخداع جمهورها الداخلي، وهنا قد يكون الاختلاف البسيط بين الغايتين، فغوبلز كان يوجه حربه الاشاعية الى الخارج لإرهاب الأعداء وزعزعة الثقة بجيوشهم المهاجمة...
نسي العالم ما حصل في الحرب العالمية الثانية من مشاهد بشعة وبقي متمسك بما فعله هتلر من جرائم وتصرفات وحشية في جنوده والجيوش المعادية، حتى فضل الانتحار على الاستسلام والوقوع بيد الأعداء، ولم يتمكن هتلر من الصمود بالذاكرة طويلا لولا دهاء وحكمة وزير دعايته غوبلز الذي انتحر أيضا بعد يوم من انتحار زعيمه، ولا يزال نهجه قائم ومتبع من قبل الناطقين بأسماء الحكومات الحالية.
لقد وضع غوبلز نظرية بقيت سارية المفعول لحين كتابة هذه الحروف، وهي اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، وبالفعل نجح في هذا الاتجاه كثيرا، وحقق نجاحات كبيرة في توظيف الاشاعة لصالح الأهداف المراد الوصول اليها، حتى قيل ان السبب الرئيس وراء تمادي هتلر في خطته التوسعية هو وزير دعايته العبقري.
في زمن الحروب السابقة لم تكن وسائل الإعلام منتشرة بهذه الصورة التي عليها الآن، اذ كان العدد محدود مقارنة بعالم اليوم، وهذا العدد المحدود جعل من مساحات التأثير تتقلص الى حد ما، لا سيما وان عصر البث التلفزيوني لم يتحول الى الفضائي الا في ستينيات القرن المنصرم، ما يعني بقاء آثار الدعاية في حدود الدولة المطلقة لها.
ومع تقدم السنين والتقدم الحاصل بجميع المجالات التكنولوجية والعلمية، وتحول البث الى الفضائي ودخول مواقع التواصل الاجتماعي على خط الوظائف الإعلامية مؤخرا، اتسعت مناطق العمل للتأثير على الرأي العام، مع ذلك بقي غوبلز ونظريته مثار اهتمام من قبل القائمين على الاتصال والحكومات بمختلف اشكالها وما شهدته من تحولات.
تحول بعض الأنظمة السلطوية في البلدان العربية الى النظام شبه الديمقراطي المنغمس في الأساليب الدكتاتورية، لم يمكنها من الابتعاد عن توظيف هذه النظرية لخداع جمهورها الداخلي، وهنا قد يكون الاختلاف البسيط بين الغايتين، فغوبلز كان يوجه حربه الاشاعية الى الخارج لإرهاب الأعداء وزعزعة الثقة بجيوشهم المهاجمة، بينما يعمل على تقوية وتوحيد الجبهة الداخلية والشد على ايديها لمواصلة دعمها ووقوفها مع الزعيم النازي.
وتتضح معالم النظرية الغوبلزية في الوقت الحاضر بما يمارسه الناطق الرسمي باسم الحكومات بصورة عامة، وبما انه لا نريد التوسع سنكتفي بتفسير ما يقوم به النموذج العراقي وما تصدر منه من تصريحات مخالفة للحقائق ومظللة للرأي العام بشكل لا يقبل التأويل، ومن هنا أصبح الناطق اليوم شبيه وزير الدعاية المحتال آنذاك.
لقد استخدمت الحكومة العراقية في السنوات الماضية ناطقها الرسمي لبث الإيجابية وإراحة الرأي العام عبر التخفيف من الضغط الحاصل عليه نتيجة الإخفاقات المتوالية، وفعّلت بذلك القوة السحرية التي يتمتع الحرف (سين)، واخذت تكرر جمل تبدأ جميعها بالحرف المذكور قبل قليل، من قبيل سنعمل وسنقوم وسنجري وسنصوت، الى غير ذلك من السينات التي لا نعرف متى تتوقف عن إطلاقها.
ولو نظرنا الى المحتوى الذي يطرحه غوبلز نجده قائم وبشكل أساسي على مبدأ الكذب، رغم ان ذلك ينافي المبادئ التي تدعوا اليها الدول الغربية وتضع آلاف الخطوط الحمراء حولها لضمان عدم الاقتراب منها، لكنها تخترقها متى ما شعرت بفوائدها واهميتها لتحقيق اهداف الحرب المشتعلة بين اقطاب القارة.
أوجه التشابه والشراكة بين الناطق اليوم وغوبلز الماضي هو الكذب المتكرر وفي التعبير الشعبي الدارج، فان كلاهما يستخدمان الكذب (المصفط)، أي المنظم بما يجعلك تصدق بعزم الحكومة وما تنوي فعله في الأيام القادمة، وفي الحقيقة هذه الاقاويل تبددت بعد ثبوت عدم صدقها بمرور الوقت، وانفضحت النيات الكاذبة التي يصدرها بصورة دورية غوبلز بنسخته العراقية.
المشكلة التي تواجه الحكومة الحالية والناطقين باسمها على اختلاف الشخصيات وثبوت المنهج، هي ان وسائل الإعلام باتت أكثر يقظة وهي من تنبه الجمهور الداخلي والخارجي بالوقائع غير الحقيقية، فاليوم لا يمكن لوزارة او مديرية معينة ان تخفي ما يدور بداخلها، ومن ساعد على ذلك هو مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية الباحثة عن الحقيقة تارة لخدمة عامة الناس، وتارة أخرى لخدمة أهداف الممولين.
ولهذا العامل تحديدا فقدت النظرية الغوبلزية واحد من اهم أركانها وهي السرية والتعتيم على الحقائق، فالعالم الرقمي اليوم لا يعترف بالقوالب القديمة الجاهزة التي استهلكت وثبت عدم جدواها على مختلف الأصعدة، وصار البحث عن بديل نافع من أولويات الأنظمة القائمة.
لواردنا ان نعطي الناطق الرسمي الحالي باسم الحكومة وسم معين يمكن ان نصفه بالوسيط الناقل للكذب والتظليل الذي تمارسه الحكومات بحق المواطنين، وغاب عن فكرها ان الدور الحقيقي الذي يجب ان يقوم به هو الاقناع الفعلي للمجتمعات وإعلام المواطنين بما يجري داخل القصور الحكومية خطوة بخطوة على الا يخرج عن إطار الحقيقة والمصداقية، وان كان ذلك على حساب المصلحة الشخصية له.
اضف تعليق