ظهرت تفسيرات عديدة في الاوساط العربية والاسلامية تنتصر للموقف الروسي في تبرير غزو اوكرانيا، هذه التفسيرات حاولت تفادي النقد الاخلاقي الذي قد تواجهه، وبناء مشروعية للحرب رغم الكوارث الناتجة منها، من خلال بناء سردية مفاهيمية جديدة، غير مقولات الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك والمجال الحيوي والامن الستراتيجي...
ظهرت تفسيرات عديدة في الاوساط العربية والاسلامية تنتصر للموقف الروسي في تبرير غزو اوكرانيا، هذه التفسيرات حاولت تفادي النقد الاخلاقي الذي قد تواجهه، وبناء مشروعية للحرب رغم الكوارث الناتجة منها، من خلال بناء سردية مفاهيمية جديدة، غير مقولات الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك والمجال الحيوي والامن الستراتيجي، المقولة الجديدة هي الصراع الحضاري.
العودة الى استخدام مقولة الصراع الحضاري يشي بأن ثمة التباس مفاهيمي كبير وقع به المروجون لهذه المقولة مجددا، بسبب الضغط الكبير الذي يواجهه الموقف المساند للحرب، دونما مسوغات كبيرة تبرر اللجوء اليها.
معلوم ان الحروب تحتاج الى غطاء من المعقولية تبني بها مشروعيتها السياسية داخليا ومبرراتها الاخلاقية خارجيا، فلا يمكن اعلان الحرب والتهديد بها وتحريك الجيوش، مالم تكن هناك مسوغات لها، دعاة الحرب لهم مسوغاتهم دائما، بحق أو بغير حق، عندما لا يكون الحق واضحا والتبرير مقنعا، تكون الحرب عدوانا، تخسر به المشروعية، وتغدوا تعديا على القوانين والنظم واللوائح التي تنظم علاقات الدول، وتتحمل بذلك دولة الحرب مسؤولية ما فعلت، وقد تدفع تعويضات وغرامات وتخضع لقيود والتزامات، علاوة على ارتدادات تلك الحرب داخليا وخارجيا، على الصعيد السياسي والاقتصادي، وعلى مستوى العلاقات الدولية والانسانية بشكل عام.
هناك أحاديث وتوقعات بان حرب اوكرانيا ستعيد بناء نظام العلاقات في اوروبا، الذي تأسس بعد سقوط جدار برلين 1989وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ان عودة روسيا قطبا دوليا وقوة عظمى تتقاسم النفوذ العالمي مع الولايات المتحدة، أو دولة كبرى اقل بدرجات من مكانتها، متوقف على نتائج المغامرة في أوكرانيا.
ولهذا نشطت الالة الدعائية التي تجند لها خبراء ومفكرون ومحللون وكتاب واعلاميون ومدونون للحديث عن مسوغات الحرب من وجهة نظر روسية، وللرد كما يقولون على الالة الدعائية الغربية الاضخم، التي تستخدم اوكرانيا ومعاناتها اداة لإضعاف روسيا وتفكيكها، والابقاء على القطبية الواحدية لزعامة العالم.
الملفت ان الذين وجدوا في حرب اوكرانيا فرصة لتغيير هذه النمطية على يد الاندفاعة البوتينية، لم يكتفوا بنظريات الجغرافيين والعسكريين والستراتيجيين، وانما اعادوا مفهوم ومصطلح الصراع الحضاري، مفترضين ان البوتينية الزاحفة على المجال الجغرافي السوفييتي السابق، تسعى الى خلق فضاء حضاري منافس للغرب، لديه رؤية ثقافية وسياسية تدعو الى تعددية الاقطاب في العلاقات الدولية والمحافظة على الخصوصية الثقافية وتحدي الهيمنة الامريكية.
مقولة الصراع الحضاري كانت ملاذ الكثير من المفكرين والكتاب والمثقفين العرب، لتفسير اسباب الاندفاعة الاوربية والامريكية لاستعمار بلاد العرب والمسلمين واستتباعها وافشال وحدتها وتقويض هويتها وخصوصياتها الحضارية والثقافية.
ثمة تاريخ طويل من علاقات الصراع والحرب بين الشرق الاسلامي والغرب ذي الجذور الوثنية ثم اليهودية والمسيحية منذ حروب الفتح الاسلامي مرورا بالحروب الصليبية حتى عهود الاستعمار الحديث، ولغاية دعم وتأسيس الكيان اليهودي في فلسطين، والى احتلال العراق وافغانستان، هذا التاريخ الدامي خلق سردية طويلة من المفاهيم والقصص والتصورات والرؤى، لكيفية تصحيح هذه العلاقة التي صارت لصالح الغرب (الصليبي).
في منتصف القرن العشرين صارت مقولة الصراع الحضاري اثيرة لدى النخب الاسلامية، فقد عنت في وجوهها مقاومة الغرب سياسيا وثقافيا واقتصاديا، ومواجهته مواجهة حضارية شاملة، حتى ان المفكر حسن حنفي (1935-2021) كتب كتابا اسماه (علم الاستغراب) ردا على علم الاستشراق الذي كون رؤية واداة الغرب في غزو بلاد المسلمين، فيما كان مفكرون وكتاب يستفيضون في الحديث عن المركزية الغربية والمركزية الاسلامية، امثال العراقي د عبدالله ابراهيم والفلسطينيان منير شفيق (1934-) والشهيد د فتحي الشقاقي (1951-1996) .
مع صدور كتاب صراع الحضارات عام 1996 للأمريكي الشهير صموئيل هنتغتون (1927-2008) والذي توقع فيه ان تكون الصدامات القادمة، ذات طابع يتجاوز الدول الى الحضارات، لأنها ستكون صراعات قيمية وثقافية ودينية، انهالت الردود عليه من كل مكان في العالم، لاسيما من العالم الاسلامي، اتهمناه بالعنصرية والتسويغ للحروب القادمة بذرائع ثقافية وفكرية، بما يعبد الطريق لحروب تكرس الهيمنة الغربية عامة والامريكية خاصة، تم الرد عليه لتهديم فكرة انطلاق الصراعات وفق منظورات دينية وثقافية، لأنها ستكون حروبا لا تتوقف، ولا سبيل للسلام بين البشر الا بخضوع الحضارات الاضعف للحضارات الاقوى، والحضارة القوية القائمة والمسيطرة هي الغرب بطبيعة الحال. أردنا بذلك منع صيرورة مقولة الصراع الحضاري اداة مفاهيمية تستخدم ضدنا نحن الاضعف حضاريا في هذه اللحظة من تاريخ العالم.
اليوم تستعاد مقولة الصراع الحضاري بعد ان هدأ تداولها في الادبيات السياسية والثقافية، بسبب صعود العولمة وانكسار الكثير من الحواجز بين الدول والثقافات، بل استُعيض عن هذه المقولة بمقولة حوار الحضارات، وتمت الدعوة اليها من على منابر الامم المتحدة ومنظماتها بعد اقتراح من الرئيس الايراني محمد خاتمي.
تثير هذه العودة الاستعمالية الى رغبة عارمة في رؤية اصطدام بين قوة (شرقية) ذات خصوصية حضارية، وهي روسيا البوتينية هنا، فيما الخصم هو الغرب الطاغي الذي يتمدد على حساب الاخرين، ويجتذب الدول، دولة بعد اخرى، واخرها اوكرانيا، فاقتضى الامر تدميرها لتنكسر شوكة حلف الناتو وزعيمته امريكا، بامل حجز مقعد للدب الروسي ليكون قطبا حضاريا منافسا شرسا ونظيرا مكافئا للدب الامريكي المتفرد بالغابة البشرية منذ 33 عاما.
لكن هل روسيا مصنفة حقا خارج الغرب والمنظومة الحضارية الغربية؟ هل ثمة تمايزات دينية وثقافية وقيمية كبيرة تجعلها مؤهلة لصيرورتها نموذجا حضاريا اخر ينفعنا في منع الغرب من تكريس نموذجه؟ هل التاريخ والهوية الروسية الحديثة بعيدة عن السياق الحضاري الاوربي؟ الاجابة عن هذه الاسئلة بموضوعية كافية، تحدد امكان القبول أو الرفض لفرضية تصنيف حرب اوكرانيا. صراعا حضاريا ام مجرد امنية؟ ام انها على شاكلة الحروب الاستباقية والقومية كالذي عاشته اوروبا طوال تاريخها الحديث والمعاصر؟ امامنا جدالات طويلة وصراع افكار واهواء وتقديرات في هذا الصدد نكرر فيها انشغالات اسلافنا الذين ناصروا هتلر النازي نكاية ببريطانيا.
اضف تعليق