كادت منظمة حلف الناتو تفقد اهميتها وتوصف بانها من مخلفات الحرب الباردة. هذه الأزمة تتيح لها الفرصة للاستمرار والبقاء. هذا يعني بقاء هيمنة الولايات المتحدة على الاتحاد الأوروبي، ليس فقط في الأمن ولكن أيضًا اقتصاديًا من خلال الطاقة والغاز. قد تكون الأزمة الأوكرانية مجرد ضجة مؤلمة لانتقال القيادة...
في منتصف الأربعينيات (1945) من القرن الماضي حدثت تحولات دولية كبرى: انتقلت القيادة العالمية بسلاسة نسبياً من بريطانيا إلى الولايات المتحدة 1947، وكذا ظهر تحالف في زمن الحرب بين بريطانيا العظمى وأمريكا من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، تلاه تفكك هذا التحالف والدخول في الحرب الباردة.
تحالف في زمن الحرب
التقى الثلاثة الكبار، الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والسوفيتي جوزيف ستالين، في منتجع يالطا السوفيتي على البحر الأسود. ديغول (فرنسا) لم يحضر بسبب عداء روزفلت له. غرض المؤتمر إرساء أسس نظام سلمي ما بعد الحرب، لكن مؤتمر يالطا فشل في تحقيق الهدف الذي عُقد من أجله. السبب بسيط: أرادت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي التعاون بشروطهما.
من الناحية العملية، عملت القوتان العظميان الجديدتان كمنصة دولية لحرب باردة قسمت العالم إلى معسكرين أيديولوجيين لعقود. جاء ستالين إلى يالطا بحثًا عن مجال نفوذ في أوروبا الشرقية من شأنه أن يكون بمثابة منطقة عازلة لحماية الاتحاد السوفيتي وتقسيم ألمانيا للتأكد من أنها لا تشكل تهديدًا مستقبليًا لبلاده ولتأمين تعويضات ضخمة للمساعدة في إحياء بلده المحطم. كان ستالين يدرك جيدًا أنه يحتاج إلى موافقة القوى الغربية لتحقيق هذا الهدف. قبل مؤتمر يالطا، التقى ستالين مع تشرشل في موسكو في أكتوبر 1944 ونوقشت فكرة تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ بين الاتحاد السوفيتي والقوى الغربية. لم يحضر الرئيس روزفلت هذا الاجتماع.
حضر القادة الثلاثة مؤتمر يالطا، ولكل منهم جدول أعماله الخاص بعد الحرب. أراد روزفلت أن ينضم الاتحاد السوفيتي إلى الحلفاء في حرب المحيط الهادئ ضد اليابان، لكن السوفييت وضعوا شروطًا لإعلان الحرب على اليابان، أي أن يعترف الأمريكيون رسميًا باستقلال منغوليا عن الصين والاعتراف بالمصالح السوفيتية في سكة حديد منشوريا وميناء آرثر وتنازل لروسيا عن ولاية كارافوتو، التي كانت تسمى جنوب "سخالين" وجزر كوريل، كما طلب الأمريكيون من الاتحاد السوفيتي الانضمام إلى الأمم المتحدة (هيئة دولية جديدة بدلاً من عصبة الأمم السابق).
طلب تشرشل قيام حكومات ديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية (خاصة بولندا). بدوره، دعا ستالين إلى فتح مساحة للنفوذ السياسي السوفيتي في وسط وشرق أوروبا، وهو عنصر مهم في استراتيجية الأمن القومي للاتحاد السوفيتي. أما بالنسبة لبولندا، فقد كانت البند الأول على جدول أعمال ستالين. قال ستالين: بالنسبة للحكومة السوفيتية، فإن مسألة بولندا هي مسألة شرف وأمن لأن بولندا كانت عبر التاريخ نقطة عبور للقوات التي حاولت غزو روسيا.
من الناحية العملية، كان الاتحاد السوفيتي قد ضم عددًا من البلدان، مثل الجمهوريات السوفياتية، وتحويل البلدان التي احتلها في وسط وشرق أوروبا إلى دول خاضعة لسيطرة الاتحاد السوفيتي. مثل بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا وألبانيا في النهاية ألمانيا الشرقية. اعترفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بسيطرة الاتحاد السوفيتي على هذه المناطق، وضحتا بمضمون مؤتمر يالطا.
كان تشرشل قلقًا للغاية بشأن الوضع في أوروبا الشرقية بعد القمة لدرجة أنه أمر قواته بالتحرك شرقًا قبل انتهاء الحرب. بينما كان روزفلت يركز على تنفيذ خططه لـ "الأمم المتحدة"، والتي تم تنفيذها لاحقًا، وافقت الدول الثلاث على إرسال مبعوثين إلى سان فرانسيسكو في 25 أبريل 1945، للمساعدة في إنشاء المنظمة الدولية الجديدة. علاوة على ذلك، تعهد ستالين بغزو اليابان. في أبريل 1945، توفي روزفلت وحل محله ترومان، الذي لم يكن يعرف ستالين جيدًا. خلال هذه الفترة، تعرض كل من تشرشل وروزفلت لانتقادات واسعة النطاق لتقديمهما تنازلات كبيرة لستالين في يالطا. الانتقاد عديم الجدوى تقريبًا، لم يكن لديهما الكثير لتفعله، قوات ستالين تمركزت في وسط وشرق أوروبا.
في أقل من عامين، أعلن ترومان ما يُعرف باسم "عقيدة ترومان"، والتي تبنت سياسة خارجية أمريكية مقرونة بالقوة العسكرية لمواجهة التوسع الجيوسياسي السوفيتي حول العالم وهذه بداية الحرب الباردة.
بداية المواجهة بين نظامين عالميين
فرض الاتحاد السوفيتي سيطرته على الدول المحررة في أوروبا الشرقية، اعتبر هذا التحرك تهديدًا للأمن الدولي. من ناحية أخرى، في 5 مارس 1946، ألقى تشرشل خطابه السيئ السمعة الذي أشعل فتيل الحرب الباردة، حيث (دعا الى استخدام القوة ضد الاتحاد السوفيتي في أسرع وقت ممكن، طالما لا يمتلك أسلحة نووية و فرض الهيمنة الأنجلو أمريكية على العالم).
الحرب الباردة ملخص
بعد الحرب العالمية الثانية، لعبت الولايات المتحدة دورًا قياديًا نشطًا في المؤسسات العالمية وسعت إلى إنشاء الأمم المتحدة خلفا لعصبة الأمم. تم تصميم ميثاق الأمم المتحدة لتعزيز السلم والأمن الدوليين. ساعد الولايات المتحدة على لعب دور قيادي هو خروجها من الحرب العالمية الثانية كواحدة من أهم القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تمتلك الطاقة النووية في العالم. علاوة على ذلك، اعتقد السياسيون الأمريكيون أن التكنولوجيا النووية أعطتهم موقعًا أقوى للمساومة الدبلوماسية بعد الحرب مع الاتحاد السوفيتي ويمكن أن يجبر السوفييت على تقديم تنازلات، في كل من آسيا وأوروبا. مثلا إجراء انتخابات حرة في أوروبا الشرقية أو تخفيف السيطرة السوفيتية على البلقان، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل، لأن المخاوف الأمنية التي أثيرت في فجر العصر الذري جعلت الاتحاد السوفيتي أكثر إصرارًا على حماية حدوده بمنطقة عازلة خاضعة للرقابة.
الميزة الوحيدة التي تتمتع بها الولايات المتحدة هي استخدام المساعدة الاقتصادية كعنصر استراتيجي في سياستها الخارجية، ففي عام 1947، دعمت الولايات المتحدة حلفائها من خلال خطة جورج مارشال بمليارات الدولارات وقلقها بشأن المصير المستعمرات، لكنها واجهت مقاومة متزايدة من الاتحاد السوفيتي، الذي تخلى عن وعوده زمن الحرب. بدأ السوفييت بفرض دكتاتورية البروليتاريا (الشيوعية) في أوروبا الشرقية، وعارضت الولايات المتحدة هذا الاتجاه وأخذت زمام المبادرة في تشكيل تحالف غربي في عام 1949، يتألف من الولايات المتحدة وكندا وعشر دول أوروبية.
هو تحالف عسكري يعرف باسم منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمواجهة السوفيت واحتواء انتشار الشيوعية. أعادت الولايات المتحدة هيكلة قواتها العسكرية والاستخبارية، وأخذت زمام المبادرة في إنشاء سلسلة من المؤسسات الدولية -بعد الأمم المتحدة- البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وفرضت عملتها، الدولار، الذي أصبح ثابتًا للجميع. هذا التفوق الاقتصادي والمالي والعسكري للولايات المتحدة له تأثير كبير على سياسة الحرب الباردة الأمريكية.
تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة
أعلن الرئيس جورج بوش الأب وميخائيل جورباتشوف نهاية الحرب الباردة في قمة مالطا في 3 ديسمبر 1989. وتحدث الرئيس بوش عن آماله في إقامة علاقة تعاونية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. في عام 1991، انتهت الحرب الباردة دون إطلاق رصاصة واحدة. قد يفسر هذا أن جورباتشوف ارتكب الخيانة لإنهاء الاتحاد السوفيتي، وهذا تقييم غير دقيق. نعم، لقد خلق غورباتشوف أزمة دائمة لروسيا، من نتائجها "الأزمة الأوكرانية" الحالية. عندما أصبح جورباتشوف رئيسًا للاتحاد السوفيتي في عام 1985، ورث نظامًا باقتصاد محتضر ونظام سياسي مدمر. لقد أهدر سلفه، ليونيد بريجنيف، أرباح طفرة النفط التي استمرت عقدين على سباق التسلح مع الولايات المتحدة، متجاهلاً فرصة ذهبية لرفع مستوى معيشة الشعب السوفيتي.
ارتكب جورباتشوف خطأ فقط عندما أعلن في ديسمبر 1988 نية الاتحاد السوفيتي لتقليل السيطرة العسكرية على دول حلف وارسو (أوروبا الشرقية)، لكن هذه الدول لم تكن مقتنعة بهذا الاسترخاء، بل أصرّت على قدر أكبر من الحكم الذاتي. ثم ثارت تلك الشعوب ضد الأنظمة الموالية لموسكو، منها تشيكوسلوفاكيا وبولندا والمجر ورومانيا وبلغاريا، وأخيراً سقط جدار برلين. مع مرور الوقت، أدرك جورباتشوف الخطأ و كان الوقت قد فات للتراجع عن إصلاحاته.
تتجلى الآن الآثار السلبية لتخفيف السيطرة العسكرية على دول أوروبا الشرقية (حلف وارسو) في ظاهرة "الأزمة الأوكرانية وملحقاتها". نتيجة سياسة جورباتشوف القائمة على الجلاسنوست والبيريسترويكا وتخفيف السيطرة العسكرية على أوروبا الشرقية، ظهرت حركات مناهضة لموسكو. ومن المفارقات، في عام 1989، كانت أنظمة أوروبا الشرقية أكثر ولاءً للشيوعية على النمط السوفيتي من الاتحاد السوفيتي نفسه. أدت أعمال الشغب والاحتجاجات في جميع أنحاء المنطقة إلى إسقاط تلك الأنظمة. جورباتشوف انتهك عقيدة بريجنيف ولم يرسل القوات السوفيتية لإنقاذ الأنظمة الشيوعية المحاصرة الموالية لموسكو. بدأ انهيار الحلف الموالي لموسكو في شرق اوروبا. بعد ذلك عقد اجتماع في المجر في 25 فبراير من عام 1991، أُعلنت نهاية الحلف. وتفكك الاتحاد السوفييتي نفسه في ديسمبر من عام 1991.
الأزمة الروسية الأوكرانية وعدوان الغرب الأمريكي
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، اتخذ الحلف سلسلة من الخطوات بناء الثقة مع دول شرق اوروبا، وخاصة روسيا، التي تشك في خطط الناتو للتوسع شرقا. في عام 1994، عرض الناتو على أعضاء حلف وارسو السابقين الانضمام إلى شراكات محدودة في إطار برنامج يسمى "المشاركة من أجل السلام"، مما يسمح لهذه الدول بالمشاركة في التدريبات العسكرية وعمليات حفظ السلام وتبادل المعلومات. هذا البرنامج أكد مخاوف روسيا من نوايا الناتو. في مايو 1997، تم إنشاء المجلس الدائم الروسي الأطلسي بهدف إعطاء روسيا دورًا استشاريًا في مناقشة الأمور ذات الاهتمام المشترك. لكن موسكو شعرت أن صوتها ليس له تأثير في هذا المجلس.
وازدادت المخاوف الروسية اكثر عام 1999، عندما انضمت جمهورية التشيك وبولندا والمجر إلى الحلف، مما دفع حدود الناتو إلى 400 كيلومتر إلى الشرق. تدهورت العلاقات اكثر بعد الحرب الروسية مع جورجيا (2008) ثم بعد ضم القرم واتهم روسيا بدعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا. و اخيراً جاءت مسألة إمدادات الغاز التي أصبحت ورقة مساومة مهمة للعدوان الغربي الأمريكي على روسيا. ورثت روسيا أكبر احتياطيات غاز في العالم من الاتحاد السوفيتي، بينما ورثت أوكرانيا خطوط أنابيب النفط. بعد اكتمال خط نورد ستريم 2 في عام 2021 وبمجرد تشغيله، ستتضاعف كمية الغاز التي ترسلها روسيا إلى ألمانيا. يتخطى خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 بعض دول أوروبا الشرقية، مثل أوكرانيا وبولندا، لذلك فقد تم انتقاده من قبلهم وكذلك من الولايات المتحدة. مع تشغيل نورد ستريم 2، يمكن أن تخسر كييف رسوم "العبور" بحوالي 1.8 مليار يورو، وبولندا ليست راضية عن تجاهلها كدولة عبور. ومعارضة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي تعتبر نورد ستريم 2 "سلاحًا جيوسياسيًا خطيرًا في يد الكرملين"، لزيادة نفوذ روسيا في أوروبا. لكن روسيا تصر على أن نورد ستريم 2 قضية اقتصادية ولا ينبغي تسييسها، لكن السبب الحقيقي وراء تسييس واشنطن، باعتبارها أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، تأمل في بيع المزيد من النفط والغاز الأمريكيين لأوروبا وخط الأنابيب الروسي هو منافس لواشنطن.
الخلاصة
استخدم الناتو الصراع بين روسيا وأوكرانيا، تحت اسم "منع غزو روسي محتمل لأوكرانيا "، هذا يعطي الناتو:
أولاً: ضم أوكرانيا إلى التحالف، وهذا يشكل تهديداً لروسيا ولن تسمح به. بعبارة أخرى، تعتبر الأزمة الأوكرانية أخطر أزمة أمنية في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة. من الواضح انها لن تختفي. حتى لو لم يأمر الرئيس بوتين بشن هجوم، ستستمر هذه الأزمة في إلقاء بظلالها على المدى الطويل.
ثانيًا: كادت منظمة حلف الناتو تفقد اهميتها وتوصف بانها من مخلفات الحرب الباردة. هذه الأزمة تتيح لها الفرصة للاستمرار والبقاء. هذا يعني بقاء هيمنة الولايات المتحدة على الاتحاد الأوروبي، ليس فقط في الأمن ولكن أيضًا اقتصاديًا من خلال الطاقة والغاز.
ثالثًا، قد تكون "الأزمة الأوكرانية" مجرد ضجة مؤلمة ووسيلة لانتقال القيادة العالمية من الولايات المتحدة إلى مجتمع متعدد الأقطاب.
اضف تعليق