العطاء يمثل إحدى الطاقات الايجابية النموذجية لدى المجتمع العراقي، ولديه طاقات وقدرات عديدة؛ العضلية والذهنية القابلة للنمو والتطوير، وهي قبل هذا تحتاج الى إضاءة للطريق نحو المستقبل، وأمل بتحقيق الفوائد من الجهود المبذولة، وإلا فان الانسان الذكي والمبدع والمثابر، عندما لا يجد الأرضية الايجابية أمامه، فلماذا يبذل الجهد؟...
عندما يصطاد المدير الخطأ الواحد من الموظف او العامل، سيحاججه الاخير بأنه مُتقنٌ لعمله على طول الخط سوى هذه الخطأ البسيط او تلك الهفوة، فيأتيه الجواب: بأن واجبك هو العمل المُتقن، وهو أمر طبيعي، بينما غير الطبيعي هو الخطأ وحتى الهفوة، فالمحاسبة من أجل عدم تكرار الخطأ ولمزيد من الدقة والنجاح في العمل.
هذا حسنٌ من حيث المبدأ، ولكن! اذا تحولت رؤية هذا المدير الى "التخطئة" بسبب النظارة السوداوية على عينيه، فانه سيقتل الروح الايجابية في نفسه بنفسه، وتضيع فرص التطوير والاستفادة من القدرات الموجودة.
هذه الاشكالية نلاحظها في ميادين عدّة بالحياة، لعل أبرزها؛ ميدان التربية الأسرية وفي التعليم، وفي ميادين العمل والانتاج، وحتى لدى بعض الاعلاميين بدعوى البحث عن الحقيقة و"الواقعية"، وأن الحديث عن الايجابيات والتفاؤل ربما ينتج الغرور والاعتداد الزائد بالنفس، فعندما يتحدث أكاديميون وساسة ومثقفون وإعلاميون عن العراق؛ البلد والشعب والارض بأنه: "الفاشل"، و"الفاسد"، و"الضائع" و... إنما عند أنفسهم "مُصلحين"!
النظرة الواقعية لأهداف ايجابية
تلميع الانجازات وتضخيمها لا يتصل بطريق النمو والتطور، كما أن البحث عن المصفقين والمداحين ليس من شيم الناجحين، إنما النظرة الواقعية الى السلوك الفردي والاجتماعي، والظواهر العامة بما يؤسس لبدائل صالحة، وحلول حقيقية من صميم هذا الواقع الاجتماعي او الاقتصادي وحتى السياسي، هو الذي يؤدي البناء في الميادين كافة.
لنعرّج على ميدان التعليم في المدارس والجامعات، فهو الأكثر حيوية وأهمية لحاضرنا ومستقبلنا، ونجد أن البعض من الكادر التعليمي يبدي ارتياحه من الطالب المُجد و"الشاطر" فيثني عليه ويظهر مشاعر الحب اليه، بالمقابل نلاحظ مشاعر الغضب والاستفزاز التي تلقى بوجه الطالب الكسول بدعوى المصارحة بواقعه السيئ، بل يذهب البعض لأن يعقد ما يشبه الرهان "لن تنجح ولن تتوفق حتى لو...."، ولا نريد الخوض في العوامل النفسية الداخلة في نشوء هذه المشاعر لدى –البعض- من الكادر التعليمي، وايضاً آخرين في المجتمع، إنما نذكر في الحيّز بعدم الحاجة لمن مُعاق في أحد أطرافه، أو مصاب بعجز بالقلب او الكِلية، أن نذكره بعجزه، ثم تحذيره من الركض، او تناول هذا الطعام أو ذاك، وفي خطوة متقدمة عند البعض؛ شن الهجوم اللفظي بإدانته واتهامه بالتسبب بالمزيد من معاناته، كما لو يريدون توصيل رسالة ضمنية اليه، بعدم التفكير مطلقاً بطلب المساعدة ورفع الحاجة والعجز، فضلاً عن التعويل على أحد بالمساعدة في تحويل هذا العجز الى فرصة للابداع وإفادة المجتمع والمحيطين، كما نسمع من هذا المكفوف النابغة، او المشلول الرسام البارع، وغيرهم كثير.
ماذا جنينا من الرؤية السلبية؟
قبل الخوض في الاجابة، يجدر بنا مراجعة تجارب الأمم الناجحة، وكيف أنها ارتقت سلّم التطور والنمو رغم نواقصها وثغراتها وعيوبها، فالأمة الهندية تطلعت الى الحرية، ثم الى الاستقلال والاكتفاء الذاتي، ولم تكن تمتلك العلماء والعباقرة والمبدعين، بل كانت المشكلة التي أرّقت شخص الزعيم غاندي هي افتقاد الناس للمراحيض الصحية! فكيف تسنّى للانسان الهندي أن يرسم صورة للأمل بتغيير واقعه وواقع مجتمعه وهو ينظر الى ما تشمئز نفسه؟ فأين الهند –على سبيل المثال لا الحصر- في أيام نهضتها الأولى أواسط القرن العشرين، وأين العراق المتخلص من رعب السلطة، والموت الجماعي، والمنفتح على العالم الفسيح بأفكاره وعلومه وتقنياته؟
أن يستمر الحديث بإصرار غريب على الفشل، والفساد، والفوضى، مما يسبب تطبيع هذه الحالات الخاطئة على ظاهر المجتمع والناس بشكل مقصود او غير مقصود، يفضي الى نتائج سلبية من سنخ الحديث والرؤية ذاتها، ومنها:
1- هدر الطاقات الايجابية
دعا علماء النفس الايجابي الى استنهاض الطاقات الايجابية لدى الانسان، بدل الشحن السلبي بدعوى الحقائق على الارض، فالخطأ او الحالة السلبية لدى الفرد والجماعة، هي نقطة سوداء واحدة أمام نقاط بيضاء عديدة في افراد المجتمع، مثالٌ على ذلك ظاهرة الفقر، وظاهرة التسوّل في المجتمع، فان البعض يذهب الى أنها نتاج السياسات الاقتصادية الفاشلة، او انتشار الفساد والاستئثار بالسلطة والثروة، وهذا ليس بعيداً عن الحقيقة، بيد أن الحقيقة الغائبة هي "الأخلاق"، فالعدل مفهوم ناصع وقيمة مقدسة لدى جميع الاديان والانسانية في كل مكان، وهي تقضي بأن يأخذ كل ذي حقٍ حقه، ثم جاء القرآن الكريم بما يعضد هذه القيمة بقيمة أخلاقية –انسانية يعطي العدل حيوية وفاعلية في المجتمع، فجاء الخطاب الإلهي المباشر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، (سورة النحل، الآية90)، فالعامل الذي يعمل لدى شركة او محل تجاري او مصنع، او حتى عامل البناء او عامل النظافة يستلم أجرته بشكل عادل لقاء عمله، ولكن ماذا يصنع عندما يتعرض لحادث او مرض يعيقه عن العمل؟ هنا يأتي دور الإحسان ليسد هذه الثغرة المستجدة في حياة فرد من افراد المجتمع.
العطاء يمثل إحدى الطاقات الايجابية النموذجية لدى المجتمع العراقي، ولديه طاقات وقدرات عديدة؛ العضلية والذهنية القابلة للنمو والتطوير، وهي قبل هذا تحتاج الى إضاءة للطريق نحو المستقبل، وأمل بتحقيق الفوائد من الجهود المبذولة، وإلا فان الانسان الذكي والمبدع والمثابر، عندما لا يجد الأرضية الايجابية أمامه، فلماذا يبذل الجهد؟ ولأي شيء؟ وإن كان من ذوي الإصرار والعزيمة على المواصلة، فانه سيهتدي الى ما وراء حدود بلاده ويذهب الى حيث من يستفيد من ذكائه وابداعاته.
بالمقابل فان الفاقد لمواصفات الذكاء والابداع والروح الايجابية في شخصيته فان خياره الوحيد البقاء في بلده منشغلاً –من حيث لايشعر- بتنمية طاقاته السلبية المدمرة التي نلاحظ معالمها في الشارع، وفي العلاقات مع الجيران، وفي محيط العمل والدراسة، وما الجرائم المريعة التي نسمع بها من حين الى حين لاسباب تفاهة، إلا دليل على ما فاعلية هذه الطاقات المدمرة وانفرادها بالساحة الاجتماعية.
ما الذي يدفع المخطئ لتصحيح خطئه في أجواء ملبدة بالسلبيات والتشاؤم من كل شيء؟
بل الأخطر من هذا؛ كيف سيكتشف المخطئ حقيقة ما يقوم به او يصدره من أحكام وتصورات إزاء مسائل مختلفة، في وقت لا يتحدث أحد عن الصحيح؟
معظم نوايا المتحدثين عن الوضع السلبي في العراق إنما يرجون الخير والصلاح للبلد وأهله، بيد أن فقدان البدائل والحلول، يعزز الخطأ ويجعله حالة عامة وظاهرة مبرّرة، "فالجميع يفعلون هذا..."! أو "هكذا يفكر الناس ويرغبون"! ولا سبيل لتغييرهم.
2- ضياع فرص التغيير والبناء
إن النبات لا ينمو في أرض سبخة، وإنما في المروج الخضراء حيث الخصب وعوامل الحياة من مياه نظيفة وتربة صالحة، كذلك الحال بالنسبة للافكار التي نرجو ان تأخذنا الى حيث محاربة الفساد، ومكافحة الجهل والتخلف، ومن ثم إصلاح الاوضاع بشكل عام قدر المستطاع، بينما الخوض في السلبيات والغوص في الظواهر والامثلة هنا وهناك يسبب هدر الوقت الثمين المفترض ان يكون للبحث العلمي والدراسة والمناقشة في الحلول العملية بالاستفادة مما موجود تحت اليد.
وفي الختام؛ تحدث السياسي العراقي ليث كبّة لإحدى القنوات الفضائية قبل سنوات عن جهات خلف الستار تحرّض وتدفع باتجاه تكريس الرؤية السلبية في المجتمع العراقي عبر منصات التواصل الاجتماعي، علماً أني لم يكن بودّي التطرّق الى هذه الوسائل الاعلامية المستحدثة و دورها، كما لست بوارد الحديث عن "نظرية المؤامرة"، رغم كونها (المؤامرة) حقيقة قائمة، إنما المهم لدينا الاعتماد على انفسنا في تقويم الرؤية إزاء الأخطاء الموجودة، ثم الاحتكام الى العقل والانصاف في تقييم الأمور من حولنا للحصول على نتائج ايجابية يرجوها الجميع من صميم فطرتهم السليمة، فلا أحد يرجو للعراق –إن سألته- بأن ينزلق البلد في متاهات الفوضى الاجتماعية، و انعدام الأمن، وانتشار المتسولين والمشردين وتحولهم الى عصابات جريمة منظمة كما هو حال بعض البلدان بالعالم.
إن المظاهر السلبية وافرازاتها من جرائم ومخالفات وانتهاكات تمثل مقدمة (نائحة) لموت الأمل في نفوس الناس من تحقيق التغيير او الإصلاح في الاوضاع العامة، وهذا أمضّ وأخطر ما تسببه النظرة السلبية، والخطاب السلبي عبر وسائل الاعلام تحديداً، واماكن اخرى، ونرجو ان يكون العراق بعيداً عن هذا المآل.
اضف تعليق