هنا في العراق التوافق يعني عملية توزيع للمناصب والمغانم، والأطراف السياسية تنظر للعراق على أنه ساحة للبيع والشراء، لا يهم إن كانت تلك التعيينات الوزارية ستغير حال المواطن أم لا، المهم انها تجذب المزيد من الموارد لصالح الحزب، سواء كانت موارد مالية أو موارد سلطوية وسياسية...
يجري النقاش السياسي هذه الايام عن مسارات تشكيل الحكومة، وغالباً ما يطرح مسارين:
المسار الأول: تمثله حكومة التوافق والتي تعني نظرياً اتفاق الكتل والكيانات السياسية على صيغة وبرنامج معين لعدم مقدرة أحد الأطراف على تشكيل الحكومة لوحده بفعل حجم المقاعد البرلمانية التي لا تعبر حد النصف أو حد الثلثين.
المسار الثاني: يعني تشكيل حزب أو قائمة انتخابية للحكومة لوحدها بدون الحاجة الائتلاف والتوافق مع الأطراف الأخرى.
وفي هذه الحالة نكون أمام طرفين، طرف يشكل الحكومة ويدعمها في البرلمان، وطرف يذهب للمعارضة ويتخذ في أغلب الأحيان العمل الرقابي والناقد لعمل الحكومة. ومن الضروري التأكيد على مسألة الناقد وليس المبتز.
منذ عام ٢٠٠٣ وحتى الآن لم نعبر حاجز المسار الأول وهو المسار التوافقي لأننا لم نصل إلى مستوى من النضج السياسي يؤهلنا للعمل بنظام الحكومة والمعارضة.
لكنني كمواطن عراقي وكمتابع للشأن السياسي، أجد أن "التوافق" نفسه فيه تشويه للمصطلح، وعندي من الأسباب ما يبرر ما أقول.
التوافق بحد ذاته ليس عيباً سياسياً، فالبرلمانات التي لا تحصل فيها كتلة انتخابية على المقاعد الكافية لتشكيل الحكومة وتشريع القوانين الداعمة لعملها تلجأ إلى التوافق مع تكتلات برلمانية أخرى على أساس برنامج عمل واضح.
وما يجري في العراق بعيد عن هذه الصيغة الإيجابية من التوافق، إذ لا توجد برامج حكومية، ولا رؤية لإدارة الدولة وانتشالها من الأزمات المزمنة.
هناك صفقات فقط على الوزارات والمناصب العليا والوسطية وحتى ما دون الوسطية، وعند تشكيل كل حكومة يجري التفاوض على عدد المناصب لهذا الكيان أو ذاك، وحينما تتم الصفقة يطلقون عليها "توافق".
وإذا فشلت الصفقة يهددون باللجوء إلى المعارضة، التي تعني بالتقليد العراقي "الابتزاز" إذ يتم ابتزاز الجهات التي ترفض عقد الصفقة تحت شعارات الوطنية وحماية حقوق المواطن.
قد يعترض بعض الناس، ويقولون أليست عملية تشكيل الحكومات فثي جميع أنحاء العالم هي عملية تفاوض على توزيع المناصب من أجل تقديم خدمة للمواطن؟ أليست المناصب هي حق قانوني لأي كيان سياسي يفوز في الانتخابات؟ وكيف تريدون من الكيانات السياسية خدمة المواطن إذا كنتم ترفضون استلامها المناصب؟
هذه التساؤلات تطرحها الكيانات المشاركة في عملية التحاصص، تريد تبرير أفعالها المحاصصاتية بغلاف قانوني، فالتوافق لا يعني غض الطرف عن ممارسات خاطئة للحلفاء رغم خطر هذه الممارسات على مستقبل البلد.
والتوافق لا يعني التنازل عن المنصب السيادي لصالح شخصية أخرى بعد الحصول على بضع ملايين من الدولارات، وأنا هنا لا أتهم أحداً فمسألة بيع المناصب والفساد مثبتة في سجلات هيأة النزاهة في تصريحات المسؤولين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والبرلمان والنواب، الذين أكدوا حصول عمليات بيع وشراء للمناصب تحت غلاف "التوافق".
التوافق لا يعني إغفال العمل الرقابي _وليس الابتزازي_ ضد أي مسؤول كان، وهذا لا يحدث في أغلب الاحيان.
هنا في العراق التوافق يعني عملية توزيع للمناصب والمغانم، والأطراف السياسية تنظر للعراق على أنه ساحة للبيع والشراء، لا يهم إن كانت تلك التعيينات الوزارية ستغير حال المواطن أم لا، المهم انها تجذب المزيد من الموارد لصالح الحزب، سواء كانت موارد مالية أو موارد سلطوية وسياسية.
عندما تتم الصفقة السياسية من أجل تحقيق مصالح الحزب أو زعيمه، وتغلف هذه الصفقة بغلاف "التوافق" ستولد لنا حالة جديدة يمكن أن نطلق عليها عملية "التصافق" تخفيفاً للتوصيف القاسي بشأن الصفقات، ولأن الكتل السياسية تعودت على المصطلحات الرقيقة البعيدة عن شبهات التلاعب المالي والسياسي.
اضف تعليق