كلّما انحدر الكلام في السياسة ازدادت الحاجة إلى الاهتمام بها كعلم ارتباطاً بالأخلاق والخير. والسؤال الأول الذي ينطلق من هذه المقدمة: هل السياسة علم؟ ثم ماهي مواصفات هذا العلم؟ وهل هو علم مستقّل مثل بقية العلوم الطبيعية، فحتى هذه الأخيرة يتمّ توظيفها أحياناً لأغراض سياسية بعضها دنيء...
كلّما انحدر الكلام في السياسة ازدادت الحاجة إلى الاهتمام بها كعلم ارتباطاً بالأخلاق والخير. والسؤال الأول الذي ينطلق من هذه المقدمة: هل السياسة علم؟ ثم ماهي مواصفات هذا العلم؟ وهل هو علم مستقّل مثل بقية العلوم الطبيعية، فحتى هذه الأخيرة يتمّ توظيفها أحياناً لأغراض سياسية بعضها دنيء. فهل يمكن الركون إلى علم خال من الأهواء والعواطف والانحيازات؟ وما علاقة السياسة بالفكر فهل هي تخضع له أو هو الذي يتبعها، ثم لماذا ينصرف ذهن "العامة" إلى أنها عمل يتّسم بالحيلة وإخفاء الحقائق، بل والكذب أحياناً بنشر الأباطيل والخدع للوصول إلى الأهداف المرجوّة؟
في كتاب الأمير لمؤلفه ميكافيلّي الذي احتفيَ بصدوره في العام 2013 بمرور 500 عاماً مثلّت السياسة جوهر الفكرة الدارجة: "الغاية تبرّر الوسيلة"، بغض النظر عن عدالة أو شرعية هذه الوسيلة من عدمها، خصوصاً بالنسبة للحاكم لكي يدوم حكمه ويبسط سيطرته، علماً بأن الشرعية السياسية تقوم على عنصرين، أولهما – رضا الناس، وثانيهما – المنجز المتحقّق، في حين أن المشروعية تقوم على "حكم القانون".
ولعلّ الاعتقاد الشائع أن "السياسي" لا يتورّع عن فعل أي شيء لتحقيق أهدافه، بالإدعاء أن غايته الشريفة تعطيه مثل هذا الحق مبرّراً أن الحقيقة معه تميل حيث يميل بزعم أفضليته، وهكذا وقع الكثير من التيارات الآيديولوجية الشمولية أو غيرها في مستنقع الاستبداد أو تبريره أو الاستعلاء والعنصرية أو التمييز الديني والطائفية، باستخدام العنف والتعذيب والارهاب والديماغوجيا والتضليل، أي القوة الخشنة والناعمة، في حين كان المهاتما غاندي يعتبر الوسيلة من شرف الغاية، لارتباطهما العضوي مثل "البذرة إلى الشجرة".
والسياسة حسب أرسطو في كتابه "السياسة" تعني الأفعال النبيلة، وحسب ابن خلدون: السياسة هي صناعة الخير العام، وهي أمانة وتفويض، ووفقاً ﻟ لينين "تعبير مكثّف عن الاقتصاد"، أما حنة أردنت: فإن أصل السياسة هي الحريّة، وهذه الأخيرة هي جوهر الفعل الإنساني الذي يقوم على البراعة والشجاعة. ويذهب كلاوزفيتز إلى اعتبار الحرب سياسة بوسائل عنفيّة.
يمكنني القول أن السياسة هي علم إدارة الدولة و فن الممكن في الواقعية السياسية وتوازن القوى، وهي تجمع الإدارة والتدبير والتنظيم والفن ضمن قواعد ومعايير إنسانية باقترانها بفعل الخير، وإلّا ستكون السياسة وفعلها ومنتجها شرّاً، والشرير ليس شجاعاً حتى لو انتصر على عدوّه، لاقتران صفة الشر بالجبن، أما الشجاعة فهي "فضيلة من فضائل القلب الحر"، حيث تقتضى مقاومة الشر، والسياسي الناجح هو من يعمل للخير والحريّة والعدل والمساواة والتسامح والجمال، مقرناً الوسيلة بالهدف.
إذا كانت السياسة كممارسة قائمة منذ القدم وهي صراع واتفاق مصالح، فإن التأطير النظري لها كعلم بدأ عشية الثورة الفرنسية وما بعدها، بانتشار أفكار روسو ومونتيسكيو وفولتير وهوبز ولوك بشأن الحقوق والواجبات بين الفرد والدولة في إطار عقد ينظّم ذلك، حيث ارتفعت شعارات الحريّة والإخاء والمساواة، حتى إذا ما جاءت "الدولة القومية" وبدأ "عصر الاستعمار" أصبح الفكر مرادفاً للدولة وباتت السياسة المعروفة بالبراغماتية مرادفاً لها، هكذا ابتعدت السياسة كعلم عن الوظيفة الأخلاقية.
وكانت الحرب العالمية الثانية محطّة جديدة لبلورة مفهوم نظري جديد لعلم السياسة، ولاسيّما في الغرب لمواجهة الأفكار اليسارية التي انتشرت عشيّة وبُعيد الحرب الباردة، حيث برزت المكارثية واتُّهم العديد من علماء السياسة بالشيوعية وجرى طرد المئات من أساتذة الجامعة.
وحينها أدرك العقل السياسي الأمريكي أن الفكر لا يحارب بالقمع، حيث أنتج ذلك مقدّمات لنشوء علم السياسة بمعناها الراهن الذي نراه يدرّس بجامعاتنا بمناهجه المختلفة. وكان من بين ألمع من تصدّى لهذه المهمة "تروست الأدمغة" الذي عمل مع الرؤساء ومنهم كيسنجر وبريجينسكي وهنتنغتون وألموند باول وروستو وغيرهم، وهؤلاء بلوروا رؤية رأسمالية لعلم السياسة الذي ركّز على التنوّع ومراحل النمو ودور النخب بإخضاع الفكر للدولة، وأصبحت النظريات لتبرير السياسات التي اتخذتها الإدارات الأمريكية، وقد جئت على تناولها في كتابي الموسوم " الصراع الآيديولوجي في العلاقات الدولية".
وراجت نظريات مثل "التفريغ الآيديولوجي" أو "نهاية الآيديولوجيا" أو "بناء الجسور" أو "التآكل والتدرّج"، وبرّر صموئيل هنتنغتون التدخل باسم الديمقراطية بتشجيع انقلابات عسكرية كما حصل في أندونيسيا، بحجّة التنمية من الأعلى وعدم راهنية الديمقراطية. وصاغ هنري كيسنجر "نظرية القوة". ونظّر بريجينسكي لمفهوم "حقوق الإنسان" في عهد كارتر، وهو ذاته صاحب "نظرية القوة والمبادئ"، ثم قاد ريتشارد بيرل حملة نظرية لمكافحة الإرهاب في عهد جورج بوش الإبن ، وهكذا تحوّل علم السياسة في الغرب إلى تبرير آيديولوجي ذرائعي يبرّر مناهج السلطة.
فهل يمكن بناء علم سياسة جديد يعتمد المعايير الدقيقة والصارمة ويحقق الاستقلال النسبي عن السلطة ويسعى لخدمة الإنسانية؟ وذلك ما كان محطّ نقاش أكاديمي في جامعة بغداد في إطار مؤتمر التطورات المنهجية والمعرفية في العلوم السياسية، ويمكن أن نختتم بالقول: آن الأوان لرد الاعتبار للسياسة بحيث تضع "الإنسان مقياساً لكل شيء" حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.
اضف تعليق