أجاد السيد مرتضى الشيرازي عندما تحدّث في كتابه (شورى الفقهاء) عن هذا المبدأ الحضاري عندما أكّد أن بوصلة التقدم في المجتمعات التي تطلب الرقيّ هي التي تشير إلى مبدأ الشورى العامة في الأمّة: فللشعب حق في انتخاب حكّامه، وله الحق في محاسبتهم نيابيّاً وإعلاميّاً، وحتى في عزلهم دستوريّاً...
مدخل موجز
من غير الممكن في عصرنا الراهن أن نعيش على وجه البسيطة ولا نسمع بأفكار الآخرين وبنظرياتهم ورؤاهم حول الميادين المختلفة في وجودنا الذي نطمح دائماً وأبداً نحو الرقيّ والارتقاء به إلى أعلى درجات المدنيّة والحضارة. ومن الطبيعي أيضاً بنفس الوقت أن لا تكون تلك الأفكار والنظريات التي نسمع بها من الآخرين بنّاءة على الدوام، فهناك أفكار ونظريات غير ناضجة بالنسبة لنا وربما تبدو غريبة تماماً عن مجتمعنا وعن قِيَمنا ومبادئنا ولكن لا مفرّ من السماع بها وربما أحياناً من التعامل معها بحيطة وحذر لمعرفة طبيعتها وأهدافها من جهة، ولاستغلال بعض النقاط الإيجابية فيها ومكافحة النقاط السلبية الأخرى التي يمكن أن تؤثر سلباً على منظومتنا الفكرية التي تأسست على مبادئ سماوية نقية سليمة من جهة أخرى.
وفي محصلة الأمر ما العالم عموماً إلا مجموعة هائلة من الأفكار والآراء والنظريات المتصارعة التي تتفاعل مع بعضها البعض وكأنها مركّبات كيميائية، فمنها ما يأتلف مع بعضه ومنها ما يختلف، ولكن تبقى غاية العلماء والعقلاء في هذا العالم المعقّد أن تترسّخ القيم الأخلاقية النبيلة والسنن الرسالية في المجتمع الإنساني بشكل عام، وليس هناك من وسيلة لتحقيق عملية ترسيخ القِيَم ومجاراة المتغيرات في سير الحياة للأمام مع كل ما تحمله من تطورات وتغيّرات إلا بعدة وسائل إيجابية حضارية كالحوار البنّاء وتطبيق مبدأ الديمقراطية، وربما كان أرقاها في قيادة المجتمعات الإسلامية مبدأ الشورى الذي أثبت جدواه في الكثير من التجارب العملية عبر تاريخ الرسالة الإسلامية، وبشكل خاص في فجر الرسالة المباركة عندما قام الرسول الكريم ذاته (ص) بتطبيق هذا المبدأ الحضاري الراقي في العديد من المناسبات التي تتعلق بواقع ومصير الأمة.
المجتمع وليد الفكر
قبل الدخول في الحديث عن مبدأ الشورى في الإسلام كعلامة حضارية، لابدّ من الوقوف على نقطة هامة تُعتبر تتمة للمقدمة الموجزة التي ذكرناها للتوّ.
فما ينطبق على الفرد والأسرة من عملية التأثّر والتأثير في المجتمع سواء كان ذلك سلباً أم إيجاباً، ينطبق على المجتمع بأكمله أيضاً. فالمجتمع الحي هو المجتمع الذي يتفاعل قبل كل شيء مع ذاته، ثم يتفاعل مع غيره من المجتمعات ويتبادل معها الخبرات والنظريات والآراء، وحتى وجهات النظر التي تتعلق بالقضايا الكبيرة التي يمكن أن يكون لها أثر كبير على التركيبة الفكرية وعلى المنهجية العملية على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمعات الأشمل والأوسع.
والمجتمع الذي يطلب الرقيّ والتقدم الحضاري لابدّ له من أن يقبل عملية التأثر والتأثير، أن يعطي ويأخذ، أن يتحدث وأن يستمع، فلا مانع من أن يستمع المجتمع إلى ثقافات وتطلّعات المجتمعات الأخرى ويدرس ماضيها وحاضرها وأن يأخذ قبساً من تجاربها وخبراتها، إنها عملية التأثر الإيجابي التي وصفها الله عز وجلّ في محكم تنزيله، (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (الزمر|18). وبالتالي، كلما كان نبض الوعي والفكر السليم قوياً نتيجة التشاور والحوار، كان المجتمع أقرب إلى الوصول في صيرورته إلى العتبة الحضارية العليا التي تقوم على نقاط ارتكاز قوية من الوعي الذاتي والنضوج الفكري والطمأنينة الروحية واحترام الرأي والذات الإنسانية من خلال تفعيل عدة نقاط هامة والتأكيد عليها بشكل مستمر، وعلى رأسها – كما ذكرنا – مسألة الشورى التي تعتبر من وجهة معظم المفكرين الغربيين المنصفين من أعظم النقاط قوة ومن أكثرها حضارةً في الهيكلية الفكرية العامة والأسس الراسخة في مضمون الرسالة الإسلامية التي تؤمن (بالآخر) وتحترم قيمة الذات وقيمة الذوات الأخرى وتدعو للتحاور والتشاور معها بدءاً من الشورى داخل المجتمع الإسلامي ذاته في كافة مستوياته ومؤسساته ومرجعياته العلمية والفقهية الرشيدة (1).
الديمقراطية والشورى
ربما يبدو مصطلح (الشورى) غريباً تماماً بالنسبة للمجتمعات الغربية أوغير الإسلامية، وبالمقابل يرفض البعض في المجتمعات الإسلامية مصطلح (الديمقراطية) ويعتبره عنصراً دخيلاً على الفكر الإسلامي الأصيل لأنه في الأساس لم يولد في أرض الإسلام بل ولد في أرض أجنبية كانت بعيدة كل البعد عن أجواء الإسلام زمانياً ومكانياً. ولكن لو نظرنا بعين العقل وبروح الحياديّة نرى أن هناك تقارباً في العديد من ميزات كل مصطلح من هذين المصطلحين الذي وُلِد أحدهما في الشرق على يد الرسالة الإسلامية، بينما وُلِد المصطلح الآخر في الغرب على يد الفلسفة اليونانية القديمة. وبالطبع ليس هنا المكان المناسب لإجراء المقارنة المطلوبة بين المصطلحين سواء في التقابل أم في التدابر، فهذا ليس موضوع بحثنا الآن، وربما نقوم بذلك في موضع أوفي بحث آخر حول هذه المسألة التي شغلت بال الكثير من الطرفين، الإسلامي والأوروبي الغربي.
ولكن ما يمكننا قوله الآن هو أن الغرب عموماً، الذي يعتبر نفسه وريثاً شرعياً للحضارة اليونانية القديمة، كان وما يزال حتى الآن يفخر على بقية الشعوب باعتناقه وتبنّيه مبدأ الديمقراطية التي يراها أكبر خطوة حضارية خطتها الإنسانية عبر مسيرتها الطويلة خلال كل العصور. في حين أن مبدأ الشورى الذي يراه المسلمون قاطبة أنه السبيل الأمثل لتحقيق وجود المجتمع النموذجي من خلال تطبيقه مبدأ الشورى بالطريقة التي أرادها الله ورسوله (ص)، هو في حقيقته قمّة الحضارة ذاتها وذلك لأن هرم مبدأ الشورى يبدأ من القمّة، أي من القيادات والمرجعيات والعلماء، أولئك الذين ينطبق عليهم القول الواسع الشهرة للرسول الأكرم (ص): (العلماء ورثة الأنبياء)، وكيف لا يكون المجتمع الذي يدير شؤونه ورثة الأنبياء مجتمعاً مثالياً يحقق القِيم العليا والمنفعة الأسمى للإنسانية جمعاء !!!
الحوار والشورى
لا ريب أن هناك العديد من المفكرين والعلماء والمراجع الفضلاء قد كتبوا العديد من الأبحاث والكتب عن مبدأ الشورى وعن تاريخه ومنشئه وعوامل ظهوره وعن آثاره ونتائجه المباشرة وغير المباشرة على الأفراد والمجتمعات. ولكن الشيء اللافت للنظر كتاب هام للسيد مرتضى الحسيني الشيرازي بعنوان (شورى الفقهاء والقيادة الإسلامية) (2)، ومن السمات الهامة لهذا الكتاب المتميز هو أسلوب تأليفه وشمولية النقاط التي طرحها بإيجاز ووضوح ودقّة المعلومة التي يتناولها بالدراسة والتحليل والنقد الموضوعي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكتاب المذكور هو فقط الجزء الأول من مشروع أكبر يتناول الكتابة عن مبدأ الشورى وعلاقته بكافة فعاليات وميادين الحياة.
والذي يقرأ الكتاب المذكور بإمعان ورويّة يدرك أن السيد الشيرازي يريد أن يوصل لنا فكرة هامة قد لا يدركها القارئ العادي بسهولة ملخّصها أن من المستحيل بالنسبة لأي مجتمع يطلب تبادل الآراء ووجهات النظر والحوار البنّاء -والذي هو شكل من أشكال الشورى– مع المجتمعات الأخرى ما لم يكن أفراد هذا المجتمع، وعلى وجه الخصوص قياداته ومرجعياته على درجة عالية من الانفتاح الفكري لقبول الحوار، وتطبيق مبدأ التشاور فيما بينهم.
فتداول الآراء وطرح مبدأ الاستشارة والشورى العامة في المجتمع الإسلامي هي نقطة ارتقاء ومؤشر قوي على ترسيخ مبدأ النهوض التوعويّ والارتقاء الفكري الناضج بين القيادات والمرجعيات، ومن ثم بين جميع الهيئات والمؤسسات والأندية الفعّالة التي تبسط أجنحتها على معظم أفراد المجتمع بشكل أو بآخر وتنضوي تحت رايتها (3).
فالمنطق العقلي والنص الإلهي يؤكدان على وجوب إتبّاع مسألة التشاور أو الشورى والعمل برأي الأكثرية في شتى مستويات القيادة الإسلامية، سواء كانت قيادة للأمة، كقيادة الفقهاء والمراجع العظام، أم كانت قيادة لتيارات وشرائح من الأمة، كقيادة العشائر لأبنائها والأحزاب والنقابات والاتحادات لأعضائها ومختلف مؤسسات المجتمع المدني للأفراد التابعين لها بشكل مباشر.
ومما لا شك فيه أن كل هذا يكون في حدود ما يصدق عليه عنوان (أمرهم) في الآية الشريفة (وأمرهم شورى بينهم)(4). فما كان أمراً للأمة وهو المسمى بالشورى العامة وجب أخذ رأيها واستشارتها فيه والعمل برأي الأكثرية وفقاً للضوابط الشرعية والقواعد الفقهية المستمدة من الكتاب الكريم والسنّة النبوية المطهرة التي حمل لواءها أهل بيت النبوّة (ع) بالشكل الأكمل المطلوب المطابق لإرادة السماء.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالعشيرة أو الحزب أو النقابة أو حتى بأي تجمع إنساني آخر، سياسياً كان أم اقتصادياً، أم غير ذلك، وجب على القادة – وفق منظور السيد مرتضى الشيرازي – استشارة كافة الأعضاء عبر الطرق العقلائية والوسائط الحضارية السليمة، كما وجب العمل برأي أكثريتهم في كافة أمورهم وقضاياهم.
ومن الجدير ذكره هنا أن العديد من المستشرقين والمفكرين الغربيين يضعون مبدأ الشورى مقابل مبدأ الديمقراطية، بل عندما يتحدثون عن الشورى في المجتمعات الإسلامية نرى أنهم يغيّبون كلمة الشورى ويستعيضون عنها بكلمة الديمقراطية. وهم بنفس الوقت يعتبرون هذا المبدأ من المؤشرات الحضارية، بل من المطالب الأساسية لكل مجتمع يريد أن يرتفع ويرتقي بواقعه إلى أعلى درجات التقدّم والتطور في مجمل ميادين الحياة. فعلى سبيل المثال، يرى المفكّر الغربي (جون إسبوست) في كتاب (الإسلام والديمقراطية) أن: ((نهاية القرن الحالي –القرن العشرين الفائت– قد اتسمت بظاهرتين في العالم الإسلامي، وهما العودة إلى الإسلام والمطالبة بالديمقراطية)) (5).
موقع العلماء الفقهاء من الشورى
رب سائل يتساءل قائلاً:
بما أن للشورى هذه الأهمية العظيمة والتي تُعتبر مَعلماً حضارياً عالي القيمة في كافة ميادين الحياة مع كل مل تملكه الحياة من إمكانيات التطور والتجدّد، فمن هم أرباب مبدأ الشورى الذين يمسكون بزمامها بحكمةٍ ودرايةٍ، وما هو موقع العلماء الفقهاء من هذا المبدأ الذي ذكره القرآن الكريم في أكثر من موضع؟؟
في الحقيقة، يؤكد القرآن الكريم، الكتاب السماوي الخالد، على قيمة العلم وعلى أهمية العلماء في بناء المجتمعات الحضارية الصالحة التي تحكمها القيمة الروحية قبل القيمة المادية.
يقول كتاب الحق تعالى: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات)) (6). ويقول أيضاً مؤكداً على قيمة العالِم المتفقّه ((... قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب)) (7). وهناك آيات كثيرة في الذكر الحكيم تحض على طلب العلم والمعرفة وتبيّن بنفس الوقت موقع الإنسان العالِم الذي ينهل علومه ومعارفه من مدرسة السماء. فالفقيه العالِم هو وريث ثقافة السماء ورسلها، ((بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم)) (8).
وقد أكّد الرسول الكريم (ص) بدوره هذه الحقائق الثابتة بقوله: (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا) (9).
وقال أمير المؤمنين علي (ع) موصياً: (تفقّه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء) (10).
أمّا الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع) فقد استفاض في أحاديثه عن فضل العلم والمعرفة، حيث من المعروف عنه عالمياً أنه كان صاحب أول جامعة أكاديمية وقد وصل عدد الطلاب فيها إلى أربعة آلاف طالب علم، وكان من جملة ما قاله عن فضل العلماء الفقهاء قوله (ع): (الملوك حكّام على الناس، والعلماء حكّام على الملوك) (11).
وفي الحقيقة، لقد نجح السيد مرتضى الشيرازي نجاحاً مميزاً في انتقاء العديد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، بالإضافة إلى العديد من أقوال الأئمة الأطهار (ع) وأحاديثهم النقية المستقاة من نبع كتاب رب العالمين وعلم الرسول الصادق الأمين (ص) التي تبيّن أن للعلم مكانة عظيمة لا تفوقها عظمة أخرى، بل للعالِم الفقيه منزلة عند الله أرفع وأسمى من منزلة الملوك وما ملكوا. وبالتالي فهم الأَوْلى بقيادة المجتمعات إلى برّ الأمان في كل القضايا والمسائل التي من شأنها أن تتطلّب المشاورة وتبادل الآراء والأحكام، تلك الآراء والأحكام المبنيّة على العلم والتفقّه في قضايا الدين والدنيا.
فالشورى –كمقياس حضاري للأمم– لا يأتي من مجرد تبادل الآراء بين مجموعة من الناس يتبوّأ البعض منهم المراكز السلطوية في المجتمع. فقد يكون الرجل السلطوي، أو صاحب القرار رجلاً قد وصل إلى أحد مراكز القوة وصناعة القرار بمالِه وسطوته. ولكن مبدأ الشورى الحقيقي الذي يحدّثنا عنه السيد مرتضى الشيرازي هو ذلك المبدأ القائم على وضع رجال العلم والمعرفة والفقه في مكانهم الصحيح اللائق بهم وبعلمهم ليكونوا هم أصحاب القرار وصنّاعه في مجتمعهم. وقد أكّد سماحة السيد الشيرازي على دور العلماء في صناعة التاريخ وصياغة الهِمم والأمم بقوله: (عندما نتصفّح كتب الروايات، نجد المئات من الروايات الشريفة التي تتحدّث عن العلماء ودورهم في تاريخ الأمم وحياة البشرية، وتركّز على ضرورة التقييم الدقيق للفقهاء ومحاولة استكشاف خصائصهم وصفاتهم، باعتبارهم القادة التي تستقيم الأمة باستقامتهم وتنحرف بانحرافهم.) (12)
بين الشورى العامة والرأي الواحد
لا ريب أن المقصود بمبدأ الشورى في بحثنا هذا هو مبدأ الشورى العامة التي تحدّث عنها السيد الشيرازي في كتابه السابق ذكره والتي هي من أهم وأخطر المسائل في إدارة شؤون الأمة.
لماذا تُعتبر الشورى من أهم القضايا ومن أكثرها دلالة على التقدم الحضاري؟؟
من الواضح أن أي مسألة تتجلّى أهميتها من خلال أهمية آثارها ونتائجها المترتّبة عليها. ولذلك فإن مسألة الشورى العامة تكتسب أهميتها الحضارية من خلال نتائجها المتعلقة بها، فهي تتعلق بالأنفس والأموال والأعراض ومصالح الكثير من الأشخاص وليس بمصالح فرد واحد، وخير مثال على ذلك إصدار الأمر بالحرب أو السلم. فأي خطأ في هذه المسألة الحساسة قد يقود المجتمع بأكمله إلى كارثة حقيقية كبيرة تحيق بالبلاد وبالعباد على حدٍّ سواء.
وعن هذه النقطة بالتحديد، تحدّث السيد الشيرازي عنها من خلال مثال ضربه لنا من عمق التاريخ الإسلامي. إنه المثال الذي يتحدّث عن الصلح المفروض على أمير المؤمنين علي (ع) في موقعة صفين ومسألة التحكيم.
فأمير المؤمنين كان يرى صواب الاستمرار في الحرب، ولو أنها استمرت لساعات قليلة لَظَفر الإمام (ع) بمعاوية الباغي، ولكن الذين انشقّوا عن رأي الإمام أصرّوا على التحكيم وكانت النهاية المعروفة التي نتجت عن عملية الخذلان المبين. فالإمام كان قلباً وقالباً ضد التحكيم حتى أُكره عليه، وقد قال: (وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم عليَّ آباء المنابذين حتى صرفت رأيي إلى هواكم) (13). وقد علّق السيد الشيرازي على ذلك بعد إيراده لمثال مسألة الحرب والسلم وأثره على الأمة بقوله: (وقد ثبت بالفعل أن قبوله (ع) بالصلح بعد انشقاق جيشه وقيام الخوارج ضده هو الأصلح بالعنوان الثانوي) (14).
وبالفعل، فقد درأ الإمام بحكمته وبقبوله بالصلح عدة انشقاقات وعدة حروب فتّاكة بنفس الوقت، ولو أنه لم يفعل ذلك لاستعر القتال بين أفراد جيشه ولإزدادت الانشقاقات في الصف الواحد. ومن جهة أخرى، لكان قد أصبح كامل جيشه لقمة سائغة بيد معاوية الذي كان كل همّه القضاء على علي(ع) وعلى جيشه بالكامل وإطفاء النور الرساليّ المحمدي الذي كان الإمام علي (ع) يقاتل من أجل إحيائه وإعلائه.
وإذا كانت الشورى العامة من المسائل البالغة الخطورة نظراً لما تحمل من آثار ونتائج على عموم أفراد المجتمع وعلى تماسكه وتناغم أنسجته وأطيافه، كان بالمقابل، من الطبيعي، أن يكون في التفرّد بالرأي الواحد إلقاء للنفس والآخرين في المهالك وتضعيفاً وتوهيناً لقوة الأمة وإرادتها وبالتالي، فالنتيجة المنطقية التي يمكن أن يخلص إليها العقل والمنطق هي باختصار شديد (لا مناص إلا من حكومة أكثرية الفقهاء) (15)، فبهذه النتيجة يمكن للمجتمع أن يخطو خطوات حثيثة نحو المستقبل الحضاري البعيد كل البعد عن شتى أنواع التفردّ بالرأي الواحد وهو ما يمكن أن يدعوه الغرب بالديكتاتورية في التفرّد بالآراء والقرارات والتي –بالفعل– قد أثبت التاريخ أن ذاك المبدأ قد قاد الكثير من الأمم إلى الاندثار والفناء بعد أن عانت من ويلات البؤس والقمع والانحراف والانجرار وراء آراء وقرارات خاطئة لم تكن ناضجة ولم تكن مدروسة بطريقة عقلانية تشاوريّة مع أصحاب الرأي والاختصاص فأدّى بها ذلك كلّه إلى التراجع والانحطاط والخروج من دائرة المدنيّة والحضارة.
معالم إلهيّة على طريق الشورى
عندما نقرأ الآية القرآنية التالية: ((والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)) (16)، علينا أن ندرك أن هذه الآية القرآنية الكريمة هي آية من سورة كاملة تدعى (سورة الشورى)، ولا ريب أنها سُمّيت بهذا الاسم نظراً لِما تحمل الشورى من قِيَمٍ حضارية تشمل مجمل قطاعات الحياة وميادينها، مع الأخذ بعين الاعتبار كل المستجدّات والتطورات التي يمكن أن تطرأ على المجتمعات نتيجة ما تفرزه الحياة من تغيّرات ديناميكية لا تعرف الثبات أو الاستقرار.
ولا ريب أن لهذه الآية الكريمة دلالتها على الرجحان لكونها صفة من صفات المؤمنين. فالذي يقرأ الآيات السابقة على هذه الآية الكريمة يدرك مباشرة أن هذه الآية تؤكد أن المقصود بها المؤمنون حصراً، هذا بالإضافة إلى أنها اشتملت مع الآيات السابقة عليها على أن المقصود بهم هم المؤمنون العلماء بما جاء به الكتاب العظيم والرسول الكريم (ص).
وربّ قائل يقول متسائلاً:
وهل هناك من دليل إلهي آخر يؤكد صواب ما جاء في تحليل الآية المذكورة سابقاً، بل هل هناك من دليل آخر على أهمية الشورى وسلامة مقياسها الحضاري؟؟
والجواب يأتينا بكل بساطة من خلال دليل آخر من كتاب الحق جلّ وعلا: ((... فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر...)) (17).
يرى السيد مرتضى الشيرازي أننا بالإمكان أن نستدل بهذه الآية على أهمية مسألة الشورى وضرورة الأخذ بها من خلال عدة روايات ثابتة تاريخياً تؤكد عمل الرسول الكريم (ص) بها.
فالرواية الأولى التي ذكرها السيد مرتضى الشيرازي هي مسألة استشارة الرسول الكريم (ص) لأصحابه بشأن الخروج لحرب النفير في معركة بدر وقد عمل الرسول المصطفى (ص) بما أشار عليه أصحابه، وهي رواية ثابتة تاريخياً ولا يمكن لأي باحث أو طرف أو جهة إنكار حدوث ذلك.
والرواية الثانية التي يمكننا أن نذكرها هنا الآن هي الرواية التي تحدّثنا عمّا وقع في غزوة الأحزاب، وقد استشهد السيد الشيرازي بما جاء في كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد عن تلك الواقعة، فنقل لنا قوله: (فلما سمع رسول الله (ص) اجتماع الأحزاب عليه وقوة عزيمتهم في حربه، استشار أصحابه، فاجتمع رأيهم على المقام بالمدينة، وحرب القوم إذا جاؤوا إليهم) (18)، وهذا يعني بوضوح أن الرسول الكريم (ص) قد أخذ بمبدأ الشورى العامة على الرغم من أنه معصوم ولا يخطئ.
أمّا بالنسبة لمسألة الشورى في قصة (حفر الخندق)، فهي قصة يعرفها القاصي والداني، ويعرف كيف أن الرسول المصطفى (ص) قد استشار أصحابه في مسألة دفع العدو، فأشار عليه سلمان الفارسي (رض) بحفر الخندق، فنزل جبرائيل على الرسول الكريم (ص)، فقال: أشار بصواب (19)، فما كان من الرسول الأكرم (ص) إلا العمل بما أشار عليه سلمان الفارسي (رض) ووافقه عليه بقية الأصحاب، خصوصاً أن تلك المشورة والرأي الذي نتج عنها قد تكلّل بالموافقة السماوية أيضاً.
وغني عن القول إن السيد الشيرازي لم يكتف بهذه الأدلّة والروايات، بل أورد العديد من الروايات الأخرى التي تؤكد صوابيّة الشورى وضرورة العمل بها ابتداءً من المنطلق القرآني الكريم الذي حضّ عليها بكل وضوح وبلسان عربي مبين.
أهل العصمة (ع) يدعون إلى الشورى
بعد أن توقفنا بعض الشيء مع المعالم الإلهية التي تدعو إلى تداول الآراء وإلى تبنّي مبدأ الشورى من خلال الآيات الكريمة والروايات التاريخية التي تثبت أن الرسول الأكرم (ص) قد قام بذلك على الرغم من تمام عصمته، ولا ريب في أن أحد الأسباب التي دفعته لذلك هو رغبته في أن يعلّم المسلمين من بعده وأولي الأمر من القادة في كافة الميادين أن الشورى العامة هي الطريق إلى السلامة، سلامة الأفراد والتجمّعات والمجتمعات بأكملها، وعلى رأس ذلك سلامة الأمة الإسلامية وضمان سيرها على طريق التقدم والحضارة والارتقاء على سلّم التطور ومواكبة متغيرات الحياة ومستجدّاتها وصيرورتها الدائمة والتي هي من أهم سماتها.
ولا ريب أن البعض قد يتساءل بدوره قائلاً:
هل لنا أن نتعرّف على بعض أحاديث الأئمة المعصومين (ع) حول مسألة الشورى ونتائجها بعد أن تعرفنا على موقعها في كتاب الله عزّ وجلّ؟؟؟
وهنا يأتينا الجواب المباشر من خلال العديد من أحاديثهم (ع) لتؤكد تلك الأحاديث على أن الإنسان العادي العاقل هو ذاك الذي يشارك الآخرين في عقولهم، فكيف الحال بالنسبة للإنسان العالم والفقيه إذا شارك العلماء والفقهاء في عقولها !!
وعلى سبيل المثال، يقول سيدنا الإمام جعفر الصادق (ع): (استشر العاقل من الرجال، الورع، فإنه لا يأمر إلا بخير، وإياك والخلاف فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (20).
وعن سيدنا ومولانا علي أمير المؤمنين (ع)، أنه قال في أكثر من موضع مؤكداً على أهمية مبدأ الشورى العام: (خاطرَ بنفسه من استغنى برأيه) (21).
ولا نعتقد أن هناك من أهل المعرفة والفكر والثقافة من يجهل قول سيد البلغاء وإمام الفقهاء أمير المؤمنين (ع) البالغ الشهرة: (من استبدّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) (22)، أو قوله أيضاً: (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) (23).
وعلينا أن لا ننسى ذلك الموقف من الرسول الكريم (ص) وجوابه عندما سُئل عن الحزم، فقال مجيباً على ذاك السؤال بجملة قصيرة وموجزة وعلى غاية من الأهمية: (مشاورة ذوي الرأي واتّباعهم) (24).
وغنيّ عن القول إن هناك العشرات من الأحاديث الواردة عن الأئمة المعصومين (ع) التي تحضّ على الشورى والعمل بها كمبدأ أساسي في قيادة المجتمعات، وبشكل خاص قيادة الأمة الإسلامية بأكملها، مع التأكيد أيضاً على ضرورة الحوار وتبادل الآراء لضبط علاقتها ببقية المجتمعات الإنسانية الأخرى، وذلك لأن الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن بقية المجتمعات الإنسانية الأخرى مهما كانت هويتها الروحية أو الفكرية.
فالحوار والشورى أو الديمقراطية وتداول الآراء كلّها تصب في نهر التطور الحضاري المتدفق للأمام باتجاه الرقي والسمو والتطلّعات الإنسانية الراقية، وهذا ما عبّر عنه المفكر المعروف (صامويل هنتنجتون) عندما استشهد في كتابه الشهير (صِدام الحضارات) بعبارات قوية المرامي للباحث (كليمنت هنري مور) بقوله إن كل نظام إسلامي يفتقد إلى الحوار والديمقراطية ويعتمد في بقائه على ديكتاتوريات شخصية أو قوة داعمة عسكرية أو عوامل أخرى بعيدة عن احترام الآراء الأخرى، ما هي في حقيقتها سوى (أنظمة متحجّرة قمعية فاسدة، معزولة تماماً عن احتياجات وتطلّعات مجتمعاتها) (25).
ولا يحسب القارئ اللبيب أن (هنتنجتون) هو الوحيد الذي يتكلم عن ضرورة وجود روح الشورى –ما يُدعى في الغرب بالديمقراطية– في العمل الإسلامي، بل هناك الكثيرون من أولئك المفكرين يدركون أن الإسلام في جوهره دين (ديمقراطي) يدعو إلى الحوار وإلى الشورى، ولكن المشكلة الحقيقية كامنة في أولئك الذين يريدون أن يغيّبوا هذا المبدأ -أو على أقلّ تقدير- أن يهمّشوه على أرض الواقع العملي في الساحة الإسلامية.
فالشورى العامة هي خير ما يمثّل تطلعات واحتياجات المجتمع بكافة أطيافه السياسية والاجتماعية، والإنسان الحقيقي الذي يطمح أن يكون حضارياً في مجتمع حضاري هو ذلك الإنسان الذي وصفه الفيلسوف والمفكّر الفرنسي (روجيه غارودي) بأنه الأكثر قدرة على وعي ذاته وتماثلاً مع ماهيته، وذلك بوعيه هذا الوجود، وبمشاركته في هذا النظام، نظام الكون ونظام الجماعة (26)، وذلك من خلال الحوار والتشاور واتخاذ القرارات المناسبة التي تخدم المجتمع الحضاري في كافة المجالات، والذي يعود –بدوره– بالخير والتقدم على كافة المكوّنات والنسيج الاجتماعي العام.
ويبدو أن الاتفاق الفكري كبير جداً بين المفكّر الفرنسي (روجيه غارودي) والمستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) حول مسألة الاحتكاك الفكري وتبادل الآراء والمشاورة، وهاهي تعبّر عن وجهة نظرها في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) بالتأكيد على أن الاحتكاكات الفكرية بين الآراء المختلفة منحت سابقاً، وتمنح الإسلام في كل وقت حيوية دائمة وتحمي الإسلام والمسلمين من الجمود وتجبرهم على التسلّح بالعلم والمعرفة والآراء السديدة وتدفعهم للتطور العقلي وبلوغ درجات عالية في سلّم المدنيّة والحضارة لأن ذلك كلّه من حقيقة الشعائر الدينية ومن المطالب اليومية في حياة الشعوب (27).
وفي الختام
وعَوداً على بَدءٍ نقول إن المسلمين الأوائل انتصروا بفضل الشورى وأصبحوا سادة عصرهم بعد أن كانوا أناساً يعيشون مبعثَرين ومشتَّتين في قبائل وجماعات متفرقة متناحرة لا تجمعهم كلمة ولا يوحّدهم رأي. ولا نبالغ إذا قلنا إننا الآن بلا تصنيف بين الأمم المتحضرة لأننا أهملنا الشورى ووأدناها في حياتنا وفي نشاطاتنا المتنوعة، مع العلم أننا الأمة الوحيدة في التاريخ الذي جاء فيها مبدأ الشورى كجزء من تعاليم دينها وقِيَمها الحضارية الراقية، ولِعظمة أهميتها ومكانتها السامية فقد جاءت مقرونة بالصلاة التي هي عمود الدين (وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) (28)، كما أن وجود سورة في القرآن الكريم تحمل اسم (سورة الشورى) لهو دليل آخر على سمو مكانة هذا المبدأ العظيم الذي صنع حضارات راقية عبر التاريخ، وبالمقابل فإن غيابه أسقط حضارات كبيرة من سجلات التاريخ وجعلها تتقهقر وتنطوي على نفسها لتفقد مكانتها التي كانت عليها بسبب الديكتاتوريات المتنوّعة التي حلّت محلّ الشورى وألغتها من حساباتها سياسياً وفكريّاً.
ويكفي هنا أن نذكر حادثة هامة من التاريخ العربي الحديث عن أهمية الشورى في رفع الأمم وفي خفضها، إنها حادثة مأخوذة من كتاب (موشي دايان) وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق في حرب عام 1967 ميلادية التي خاضتها إسرائيل مع الجيوش العربية الجرّارة، والتي مُنيَت فيها تلك الجيوش بهزيمة ساحقة أذهلت العالم وقتذاك.
قال (موشي دايان) في مذكراته إنه كان يتعجّب من أمر الجيوش العربية، فبعض الوحدات كانت تقاتل بشراسة ورجولة حتى آخر رمق وآخر طلقة، وبعض الوحدات الأخرى في نفس الجيش كانت تستسلم دون طلقة واحدة. ولم يعرف السرّ في ذلك إلى أنْ استسلم أحد القادة العرب ومعه جنوده ومعهم جميع أسلحتهم، فأخذ (موشي دايان) يسأله:
- هل أخذتَ رأي زملائك الضباط والجنود قبل أن تأمرهم بالاستسلام لنا؟؟
فأجابه الضابط العربي بكبرياء:
- إننا لا نستشير من هم دوننا رتبةً.
فقال له (موشي دايان):
- ولهذا السبب نحن نهزمكم دائماً.
ثم يستطرد (دايان) قائلاً: إن الضابط اليهودي، مهما علت رتبته، يأكل مع جنوده ويعيش بينهم كأحد منهم، ويحضر معهم دروس الدين، ثم هو بعد ذلك دائم الاستشارة لهم والتفاهم معهم (29).
ونعتقد أن مجرد هذا المثال الذي سقناه للتو هو خير شاهد على ما للشورى من أهمية في حياة الأمم والشعوب صعوداً وهبوطاً.
وأخيراً نقول لقد أجاد سماحة السيد مرتضى الشيرازي عندما تحدّث في كتابه (شورى الفقهاء) عن هذا المبدأ الحضاري الهام عندما أكّد أن بوصلة التقدم في المجتمعات التي تطلب الرقيّ هي تلك البوصلة التي تشير إلى مبدأ الشورى العامة في الأمّة: فللشعب حق في انتخاب حكّامه، وله الحق في محاسبتهم نيابيّاً وإعلاميّاً، وحتى في عزلهم دستوريّاً. وللحاكم ضرورة الالتزام برأي الأكثرية. والقيادة يجب أن تكون جماعية من خلال شورى (الفقهاء والمراجع العظام وأهل الاختصاص) درءاً لحدوث أي استئثار بالسلطة أو فسح المجال لبزوغ أي مظهر من مظاهر الديكتاتوريات في الحكم والإدارة، وحتى للمعارضة حق في إبداء الرأي، لأن المعارضة ظاهرة صحيّة في قيادة المجتمعات المتحضّرة وليست ظاهرة مرضيّة على الإطلاق.
وعلى الذي يريد أن يستفيض معرفةً عن هذا المبدأ الحضاري النبيل الذي دعانا الله سبحانه وتعالى إلى الأخذ به واعتناقه نظرياً وعملياً، وكذلك رسولهُ (ص) وأهلُ بيته الأطهار (ع)، عليه بالعودة إلى كتاب السيد الشيرازي الذي ذكرناه للتو، ففي دفّتيه ما يُبهج القلوب ويُثلج الصدور. وبالفعل، يكفي أن يكون هذا المبدأ الجوهري والإنساني النبيل أساساً في بناء الحضارات والأمم، وسيفاً قاطعاً لإبعاد شبح الانحطاط والتردّي وظهور الديكتاتوريات بشتّى أشكالها ومفاهيمها، ومن أراد الوقوف على حقيقة عظمة الشورى ورقيِّها الحضاري فليسأل عنها كتابَ الله عزّ وجلّ وليسأل التاريخ.
اضف تعليق