أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40) سورة النور.
العبارة يرددها الكثيرون من الناس، في ملتقياتهم ومنتدياتهم دون فهم دقيق لها، معتقدين ان كثرة ترديدها سيجعلنا خارج الصندوق فعلا. في زمن أصبحنا فيه خارج الحضارات وخارج الحاضر والمستقبل.
وسبب خروجنا هذا هو وجودنا داخل صندوق الماضي، الذي نأنس لأطيافه وتهويماته. خذ مثلا العراقي حين يتحدث عن الحضارة بما هي منتج لآخرين في واقع استلاب نعيشه، فهو يحدثك عن حضارات سادت ثم بادت، بابلية واكدية واشورية، ويحدثك عن حمورابي وقوانينه، وعن نبوخذ نصر وجنائنه، وسرجون الاكدي وفتوحاته، وغيرها من امثلة يخرجها مثل الحاوي من صندوق ماضيه.
ماذا عن الحاضر والمستقبل؟
لا حمورابي ولاغيره قادر على رفع ولو جزء بسيط مما يعاني منه حاضر هذا المتكلم، ولاسرجون قادر على فتح ولو ممر صغير للدخول الى المستقبل، ولا نبوخذ نصر قادر على إعادة الاخضرار الى ربوعنا وصحارينا.
وصندوق الماضي هو نفسه الذي خرجت منه داعش، وقبلها القاعدة، وغيرها من الحركات الاسلاموية السياسية، والتي تعتقد انها تفكر خارج الصندوق، وماتعنيه بهذا الصندوق الذي تريد الخروج منه هو صندوق الحاضر والمستقبل لاغير ذلك.
تلك المقدمة اجدها ضرورية للسطور القادمة.
وأبدأ بسؤال، ما الذي يربط بين الامثلة السابقة؟
انه (البارادايم) وتترجم الكلمة الى العربية بانها تعني (النموذج الفكري) أو (النموذج الإدراكي) أو (الإطار النظري). أو هي تعني كما يعرفها قاموس أكسفورد على أنها: (طابع أو نموذج أو مثال).
وقد ظهرت هذه الكلمة منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين في اللغة الإنجليزية بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة «الإبستيمولوجيا».
يعتبر المفكر الأمريكي توماس كون اول من منح لهذه الكلمة معناها المعاصر في كتابه (بنية الثورات العلمية) حيث قام كون بتعريف النموذج الفكري - البارادايم - على أنه:
الموضوع الذي يمكن مراقبته ونقده.
الأسئلة التي من المفترض طرحها واستكشافها من أجل الحصول على إجابات فيما يتعلق بالموضوع.
كيف يمكن تحديد هيكل وبنية هذه الأسئلة.
كيف يمكن تفسير نتائج التحريات العلمية.
وهكذا فإن المكون الإضافي في تعريف كون لمفهوم البارادايم هو:
كيف يمكن القيام بالتجربة وما هي الأدوات المتاحة للقيام بالتجربة.
وهكذا فإنه في إطار العلم المعتاد، يكون النموذج الفكري هو مجموعة التجارب المتعارف عليها التي من المفترض أن يتم احتذاء حذوها.
بعد رسوخ مصطلح البارادايم في دراسات نظرية المعرفة، والذي يعني النموذج الفكري، اوجدوا له تشبيها بسيطا وهو الصندوق من خلال العبارة الشائعة (التفكير خارج الصندوق)، حيث يماثل التفكير داخل الصندوق العلم المعتاد، ويتضمن الصندوق تفكير هذا العلم وبالتالي فإن النموذج الفكري هو الصندوق، اما خارج الصندوق فيعني التفكير خارج النموذج الفكري السائد والمتعارف عليه.
في مجتمعاتنا تكثر النماذج الفكرية والصناديق، فمن الصندوق الديني (بشكله الذي يبتعد عما أراده الدين، وهو الإسلام في مجتمعاتنا، التي يكون تدينها قشريا، زائفا، فوضويا، لا ينسجم مع أي معلم من معالم الدين الحنيف، فلا اثر للتسامح او الرحمة او نبذ الظلم كما في الحركات الاسلاموية التي ذكرناها، جئناكم بالذبح).
الى الصندوق الاجتماعي (حيث الأعراف والتقاليد والتي لا تمت بصلة الى السوي والمتزن من التفكير والسلوك، ورغم ذلك يعيش معها الناس وداخلها، ولا يستطيعون الخروج او الفرار من اسر صندوقها شديد الاحكام والاقفال).
الى الصندوق الاقتصادي، وغيرها من صناديق والتي يحتضنها بالمحصلة النهائية الصندوق الأكبر والاوسع وهو الصندوق الثقافي الذي ينتج نماذجنا واطرنا الحاكمة ونظرياتنا، التي تزيد من احكام الطوق حولنا.
وهذه الصناديق ربما يمكن ان تكون تأويلا للآية القرآنية التي جعلتها في مفتتح الموضوع (ظلمات بعضها فوق بعض).
اضف تعليق