رغم بطلان وعد بلفور المشؤوم من الناحية القانونية والإنسانية باعتباره وعد من لا يملك لمن لا يستحق، لا تزال سلطات الاحتلال تعتبره من أهم المستندات القانونية التي تستند عليها في قيام كيانها، وتنصّ الوثيقة على أن: حق اليهود في الانبعاث القومي في بلدهم اعترف به إعلان بلفور...
لا نكتب عن وعد بلفور بهدف التباكي عليه، لكن من أجل توضيح حجم المؤامرة على فلسطين وعلى الأمة العربية بأسرها من الدولة الأعظم آنذاك واستهدافها عموم المنطقة. كان الموعد في مثل هذه الأيام أن نستذكر وعد بلفور المشؤوم ونتعاطى معه بالمادة الفكرية والإعلامية وذلك آخر ما تبقى لنا من مستلزمات ذلك الوعد، حتى لكأن تاريخنا العربي تحوّل إلى سلسلة مشؤومة من الوعود تأتينا من الخارج، من ذلك المصدر الغربي الذي تخصص تاريخياً في التآمر على الشعوب المستضعفة، وفي إلقاء القبض عليها حتى بعد رحيل المستعمر، ولكن التاريخ بواقعه ووقائعه يخبرنا بأنه ما من وعد بريطاني أو فرنسي أو أمريكي إلا وآثر بدوافع شتى أن يستوطن في بلادنا، كنا كأمة منكوبة ومخترقة نحتفل ونحتمل ذلك ونقع في نسق الأماني إذ لعلّ وعسى أن يرحل الوعد بعد أن غادر من بناه ورسخه وجذّره في بلادنا المستباحة.
نكتب عن الذكرى الأليمة هذا العام، في الوقت الذي تتعرض فيه القضية الفلسطينية لمخاطر جمّة، اليوم وبعد مرور مئة وأربعة أعوام على الوعد المشؤوم، وبفضل الدعم الغربي المفرط لإسرائيل، تستحوذ إسرائيل على أكثر من ثلثي أراضي فلسطين التاريخية، في وقت تواصل فيه توسعها الاستيطاني في أراضي الضفة الغربية والقدس، تمهيداً لابتلاع ما تبقى من أراض فلسطينية، فالاحتلال الإسرائيلي ما زال مستمراً نتيجة قرار الشؤم المذكور، والاستيطان الجاثم على الأرض الفلسطينية ما زال يتوسع عمودياً وأفقياً بسببه، واللاجئون الفلسطينيون ما زالوا مشردين ومشتتين خارج ديارهم في مخيمات اللجوء كأحد نتائجه المباشرة، وما زال الفلسطينيون يناضلون لرفع هذا الظلم التاريخي عنهم وعودتهم إلى ديارهم التي هجروا منها عام 1948 طبقاً لما ورد في القرار (194)، لكن المجتمع الدولي، وفي مقدمته بريطانيا التي أنتجت هذا الوعد المشؤوم، ما زالوا يتجاهلون الجريمة النكراء ويرفضون الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 67 وعاصمتها القدس، وما زال العالم يتفرج على مأساة الشعب الفلسطيني ويرفض تحمل مسؤولياته تجاهه ونصرة قضيته العادلة.
ورغم بطلان "وعد بلفور المشؤوم" من الناحية القانونية والإنسانية باعتباره "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، لا تزال سلطات الاحتلال تعتبره من أهم المستندات القانونية التي تستند عليها في قيام كيانها، وتنصّ الوثيقة على أن: "حق اليهود في الانبعاث القومي في بلدهم اعترف به إعلان بلفور"،
ولا شك أن هذا الوعد بكل ما يحتويه باطل ولا يستند إلى المنطق والقانون كونه صدر عن دولة لا صلة لها بالموضوع الذي يتناوله التصريح، ذلك أن بريطانيا لم تكن قد احتلت فلسطين وليس لها أية مسؤولية على الجماعات اليهودية، وبالتالي هو وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، ومن جهة أخرى صدر عن دولة إلى هيئة غير رسمية هي الوكالة اليهودية التي ليس لها صفة تمثيلية في فلسطين وليس لها أية علاقة بها. ويتنكر التصريح لتعهدات بريطانيا للعرب بالاستقلال، وحق تقرير المصير، حسب الرسائل المتبادلة بين الشريف حسين ومكماهون عام 1915، كما يتناقض مع نفسه كونه ينصّ على إقامة وطن قومي للجماعات اليهودية في فلسطين، وفي الوقت نفسه المحافظة على حقوق الطوائف غير اليهودية، تلك المعادلة غير المنطقية، حيث أثبتت الأحداث أن إسرائيل منذ قيامها حتى هذا الوقت تواصل انتهاكاتها لحقوق الشعب الفلسطيني المدنية والدينية والسياسية.
ويحمل التصريح تناقضات أخرى في طياته، مثل عدم مراعاته للأكثرية الساحقة من عرب فلسطين، في حين يُظهر حرصه على الأقلية اليهودية وحقوقها داخل فلسطين وفي البلدان الأخرى، وإن هذا التصريح يؤكد أن سلوك القوى الكبرى لا ينبثق من اعتبارات الحق والإنصاف، ولا من قوتها ودقة نصوصها، أو شرعية منطلقاتها بقدر ما تستقيها من مضمون الأمر الواقع وحكم القوي على الضعيف. وهكذا أصبح هذا التصريح فيما بعد أساساً لسياسة بريطانيا في فلسطين والوطن العربي، وفرض هذا الوعد على عصبة الأمم، التي عدّته جزءاً من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد أعطاه الصهاينة فيما بعد التفسير الذي يتناسب مع مصالحهم، وجعلوا منه أساساً لمطالبهم، وأشاروا إليه في إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948.
في سنته الرابعة بعد المائة، نتذكر وعوداً كثيرة وُعِدْت بها الحركة الصهيونية وفيما بعد إسرائيل، كل هذه الوعود يجري تنفيذها بدقة متناهية من كافة دول العالم، لكن الوعود التي تقطع للفلسطينيين والعرب يجري التخلي عنها تماماً والانقلاب عليها، أولاً عن آخر. لقد وعدت بريطانيا في أربعينيات القرن الماضي بإقامة دولة فلسطينية، وتخلت عن هذا الوعد. ما أشبه الليلة بالبارحة، فالرؤساء الأمريكيون منذ كلينتون ومروراً بجورج بوش الابن وصولاً إلى الرئيس بايدن تعهدوا بالعمل على إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، لكن هذه الوعود جرى التخلي عنها تماماً. ونتساءل في ذكرى وعد بلفور لماذا لا تجرؤ دول العالم عن التخلي عن وعودها لإسرائيل؟ وتتخلى عن وعودها للفلسطينيين...؟
الجواب ببساطة: إن إسرائيل والحركة الصهيونية هي حليف استراتيجي للدول الاستعمارية، هذا أولاً، وثانياً، لأنهما يمتلكان من وسائل الضغط الكثير وفي مختلف المجالات مما يؤثر على هذه الدول، بينما نحن كفلسطينيين وكعرب ورغم امتلاكنا لأوراق قوة ضاغطة كبيرة، إن من حيث السياسة أو في المجال الاقتصادي، لكننا لا نحسن استغلال هذه الأوراق، ونتعامل مع تلك الدول كأقطار متفرقة، وليس كصيغة جمعية مؤثرة، الأمر الذي يعني أننا نستهين بأنفسنا، بالتالي تستهين بنا هذه الدول. تلك هي الحقيقة! ولابد أن نقر، أن تداعيات وعد بلفور المشؤوم والآثار الناجمة عن التآمر الغربي والعربي على الشعب الفلسطيني، مازالت مستمرة حتى يومنا هذا. فعلى أرض الواقع تواصل سلطات الكيان الاسرائيلي العدوانية ممارسة كل أشكال الإرهاب واغتصاب الأراضي واستيطانها لترسيخ وجودها، وتعمل على قدم وساق من أجل ترسيخ فكرة يهودية هذا الكيان المزعومة، واستكمال مراحل تصفية القضية الفلسطينية وطرح الحلول الاستسلامية التي تنسف حق العودة وتكرس الاحتلال الاسرائيلي...
خلاصة الكلام: إن ما تعانيه الكثير من الشعوب العربية اليوم من هجمة استعمارية شرسة تستهدف تفتيت الدول إلى كيانات صغيرة لا حول لها ولا قوة، وكذلك ما يعانيه الشعب الفلسطيني من انتهاكات إسرائيلية يومية، ومحاولة إلغاء حقوقه المشروعة، يتطلب من المجتمع الدولي وبخاصة أحرار العالم في هذا المجتمع تحمل مسؤولياتهم الإنسانية والتاريخية، والحد من تداعيات الوعد الظالم الكارثية بحق العرب ولجم العدوانية الإسرائيلية المدعومة أمريكياً، والعمل على تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي تحرم احتلال أراضي الغير بالقوة، وتؤيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وفي ذلك الحد الأدنى من رفع الظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني نتيجة الوعد المشؤوم... وإن كثيراً من الأمور يمكن أن نفعلها لمناسبة ذكرى 104 أعوام من وعد بلفور، والمهم فيها أن تبدأ، وأن تتكامل وأن تحدث أثرها المطلوب عالمياً في تذكير العالم بوعد ظالم، وبضرورة الاعتذار عنه، ووضع حد لتداعياته الكارثية على الشعب الفلسطيني وعلى الإنسانية.
اضف تعليق