لذا تتحول أغلب الرتب الاجتماعية، وأنماط المكانة الاجتماعية في زيارة الأربعين، إلى شكل من أشكال الوحدة البشرية المنفعلة في فعل اجتماعي واحد، يجمعها، ويخلق منها وحدة وعي طبقي موحد، متشابه في مضمونه، لدرجة أن هذه الزيارة والممارسة، قد نجحت في الاختلاف مع الأيديولوجيا المتعلقة بالدين والعادات في المجتمعات...
غالبا ما ينظر إلى الدراسات الدينية من قبل الباحثين الغربيين، على أنها دراسات ترتكز أساسا على مفاهيم ما ورائية أو غيبية، وفي نطاق واقعي أكثر، يتم النظر للدين أحيانا من قبلهم على أنه إطار نظمي أخلاقي، تحيط به الجماعات الاجتماعية نفسها، وتُسَيّر وعيها الجمعي بموجبه.
ولكن، ومنذ تطور العلوم الاجتماعية، أخذت الدراسات المنهجية تتناول الفعل الديني من منطلق نسقي اجتماعي، يؤثر ويساهم مساهمة فعالة في بناء أو تخريب المجتمعات وأنساقها، أو يكون كعامل تغيير وتفكيك وإعادة بناء لمنظومات الوعي والسلوك في مجتمعات أخرى.
غالبا ما يُنظر إلى نظريات التراصف الطبقي على أنها نظريات تتعلق بأفكار المساواة في الحياة الاقتصادية العامة للمجتمعات، فكان ربط مفهوم الطبقة وتصنيف الطبقات وترتيبها بتراتبية اجتماعية، يقوم أصلا على الفصل بين مستويات الناتج والتملك الاقتصادي لدى فئات المجتمع، والتمييز بين المستويات العليا والدنيا فيه، ومع أن التفكير السائد أن الفكر الطبقي كان من أهم مميزات المدرسة الماركسية، التي اعتقد أصحابها أن الوجود الاجتماعي قائم على صراع اقتصادي طبقي بين فئات لها أطرها الاقتصادية الخاصة بها، إلا أن الرأسمالية (والنيوليبرالية) بحد ذاتها لم تستطع التخلص من فواعل التقسيم الطبقي، خاصة وأنها اعتمدت في أبجدياتها الفكرية على مبدأ التنافس المبدع والخلاق، فكانت تنظر إلى مفهوم المساواة كشرط يخل أساسا بمبدأ الإبداع الخلاق الذي تقوم عليه الحركة الصناعية والاقتصادية الرأسمالية في ميكانيزماتها الداخلية، والتي يتم التمييز فيها بين المبدع، وبين غير المبدع.
ومع أن الكثير من مفكري علم الاجتماع قد أكدوا أن نظرية التراصف الطبقي، وتقسيم المجتمع إلى طبقات، قد اضمحلت مع أفول نجم الماركسية وشيوعيتها السياسية الوظيفية، وأيضا بتطور مبادئ الحقوق البشرية والدعوة إلى المساواة والقضاء على أشكال التفاوت، إلا أن تطور الدراسات الاجتماعية، قد أعاد فتح ملفات هذه النظرية، حيث أن التطور الحاصل في يومنا هذا، قد أظهر تمايزا واضحا في أشكال التعاطي الاجتماعي العلمي، باختلاف أساليب ومناهج التنشئة والتربية، مع وجود التصارخ الحاد في أبجديات التعاطي الاجتماعي العام، وتناول الحالة الإنسانية، وتفكيك فواعلها ومؤثراتها وأنساقها، والتفكير في وجود الفرد ومكانته من الوجود العام.
مع مجيء مبادئ العلمنة، وغزوها للثقافات العامة لمختلف الشعوب، بدأت بعض المجتمعات تحاول أن تختط لنفسها طريقا يحفظ لها جزءا من كيانها الوجودي الذي تقوم عليه قيمها ومبادئها، فكانت ردة الفعل هي رجوع الظاهرة الدينية، لتخلق شرخا وصدعا قويا في أيديولوجيا العلمنة.
إن عودة الظاهرة الدينية (بمختلف مسمياتها: حركات دينية جديدة، أو وعي ديني جديد، أو أصولية دينية أو سلفية دينية)، إلى الظهور بشدة، تثير قلق المدافعين عن فرضيات الحداثة والعلمنة، وتثير حيرة المراقبين والباحثين، فقد عادت الظاهرة الدينية بقوة من جديد، وقد بدأت هذه العودة بشكل دقيق ويبدو في ظاهره انه منظم، حيث بدت وكأنها تأكيد جديد لتفوق الديني على غيره من التفسيرات المتعلق بالذات البشرية ومصيرها الأخلاقي.
لقد كان تراجع العلمانية في بقاع كثيرة من العالم، بعد محاولاتها الحثيثة، التفرد في تفسير الوجود البشري، ومحاولة فرض نفسها كدالة قيادية منهجية للمجتمعات، تكون بديلة عن الدين في مقوماته التفسيرية والحياتية بكل نواحيها، قادها ذلك إلى الوقوع في الكثير من المشاكل والإخفاقات المدمرة.
لقد عجزت الحداثة المعلمنة عن تفسير الأشياء الأبدية (أفكار مثل الموت والكوارث الطبيعية والمجهولات عموماً) عجزاً أبدياً، فضلاً عن فشل الأيديولوجيات العلمانية المختلفة، وأهمها الماركسية في تحقيق وعودها بعالم مثالي مزدهر، قد شكل عاملاً مهماً في تفسير عودة الناس إلى الاعتماد على الدين، حتى في البلدان التي تعد قلاعاً للحداثة والعلمنة.
إذ وعلى الرغم من انـحسار فواعل المؤسسة الدينية في الحياة في الغرب، إلا ان ذلك لم يمنع عودة انتشار الحركات الدينية الأصولية، وبخاصةٍ في الولايات المتحدة، وشكلت ما يسمى بـ(اليمين المسيحي الجديد)، رداً على القيم العلمانية، والتي قادت إلى ما بات يعرف بالأزمة الأخلاقية المستشرية في المجتمع الأمريكي، والمجتمعات التي حاولت إزاحة الدين عن مناهج مجتمعاتها الحياتية.
إن كلا الأمرين (تفكك مفهوم التراصف الطبقي، ومحاولة العلمانية الحداثوية إقصاء الدين من الحياة العامة) كلا المنهجين اتجه نحو نتائج مغايرة، حيث أن التراصف الطبقي الذي كان محددا عند علماء الاجتماع التقليديين، بالحالة الاقتصادية، ومحددات المكانة الاجتماعية، انطلق اليوم ليمثل أوجه أخرى، باتت الحالة الدينية والعقائدية تمثل أهم تمثلاته، والذي اندمج معه (أي بروز الحالة الدينية)، هدف مستجد، وهو محاربة وتقييد العلمانية التي باتت تشتغل بفعل تدميري عكسي في المجتمعات الشرقية بشكل خاص، وبعض المجتمعات الغربية بشكل عام.
لقد شدد دوركهايم كثيراً على علاقة النسق الديني بالأنساق الاجتماعية الأخرى، فالدين عنده هو نسقٌ من المعتقدات المقدسة التي تربط الأفراد معاً على شكل جماعات اجتماعية. مع أنه انطلق من خصوصية الدين البدائي، ووسع تنظيراته عن الدين البدائي لتشمل جميع الأديان، مع تأكيده الصريح على أن لكل تجربة اجتماعية بعداً دينياً خاصاً شرط أن تكون شمولية.
لقد أصبح الحديث عن نسق ديني يكون مميزا لنسق اجتماعي، أمرا معهودا في الدراسات الاجتماعية، وليس غريبا أن نرى طبقة اجتماعية في رقعة جغرافية معينة، يكون أساس تراصفها الطبقي هو الرابط الديني ببعده الروحي الماورائي، وببعده الأخلاقي القيمي.
ولكن الغريب فعلا هو الحديث عن نسق ديني يتكون من توحد رؤى وعواطف ومنظومات قيم أخلاقية، وتفاعل اجتماعي جمعي، لشرائح مختلفة تجتمع من دول متعددة، ومجتمعات متمايزة، لتكوّن تراصف طبقي يحمل وعي موحد، وينتظم بقيم موحدة، ويحاول التلاصق بمشتركات محددة وواضحة، ويتناسى كل أشكال الاختلافات في بنيته الاجتماعية الأم.!
إن الحديث عن زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، وتحليلها من ناحية نسقية، تظهر لنا بوضوح حصول حالة من التراصف الطبقي (الديني- القيمي- اللاجغرافي)، خاصة إذا علمنا أن هذا التراصف الطبقي في تزايد مستمر، وفواعله الروحية والقيمية أخذت بالانتشار أفقيا وعموديا في مجتمعات كثيرة متباينة ومختلفة في أنساقها الاجتماعية، قادت إلى تمظهرات أخلاقية كبيرة، وتوحدت من خلالها مكامين الوعي ومحركات السلوك، فقادت إلى تراصف تميز بانسجام كبير، انتفت ضمنه كل انواع المشاكل والصراعات البشرية المعهودة.
يرى الكثير من الباحثين الاجتماعيين، أن مفاهيم (المكانة والدور) هي التي تحكم التراتبية الاجتماعية في تراصف الطبقات، وهي التي تعطي نكهة الاختلاف والتمييز بين أعضاء طبقة وأخرى، إلا أن الحال سنجده مختلف في قضية الزيارة الأربعينية، حيث يكون الدور الاجتماعي والمكانة الاجتماعية، في وضع متسامي، يبحث عن انسجام روحي ونفسي، ويبحث عن تفاعل وانصهار في الأدوار، لذا تتحول أغلب الرتب الاجتماعية، وأنماط المكانة الاجتماعية في زيارة الأربعين، إلى شكل من أشكال الوحدة البشرية المنفعلة في فعل اجتماعي واحد، يجمعها، ويخلق منها وحدة وعي طبقي موحد، متشابه في مضمونه، لدرجة أن هذه الزيارة والممارسة، قد نجحت في الاختلاف مع الأيديولوجيا المتعلقة بالدين والعادات في المجتمعات التقليدية، والتي كانت أحيانا تقدم تبريرا أخلاقيا قويّا للتوزيع غير المتساوي للموارد والمكانات الاجتماعية، مع الرتب المختلفة في المجتمع.
من ناحية أخرى، نجد إن اختزال الطبقات الاجتماعية، وجمعها في تراصف طبقي واحد، هو من أهم أهداف الأديان السماوية، وعند أبسط مراجعة لحياة المسلمين في زمن ظهور الإمام المهدي (عج)، سنجد أن مواصفات الحياة، وآلية عمل الوعي الجماهيري في دولته (عليه السلام)، تتشابه في كثير من جزئياتها مع حالة الانصهار الاجتماعي والتوحد الطبقي الذي يحصل لفئة الزائرين للإمام الحسين عليه السلام في الزيارة الأربعينية المباركة.
فالمجتمع المهدوي ينطلق في كل سلوكياته اليومية (وبحسب ما يستشف من الروايات الشريفة)، من إطار نسقي اجتماعي موحدة، تنهار فيه الفوارق الطبقية، وتُصطنع فيه التراصفات الطبقية الأخلاقية والقيمية والعلمية، حتى يبات مفهوم التراصف الطبقي، معيارا لتوحد الجمهور، ووعيه بذاته ولذاته، فتتحقق بذلك حالة التكامل المجتمعي، ويتحول البنيان الاجتماعي إلى حالة من التماسك القيمي، (ولا أقول تماسكا جامدا شبيها بما طرحته نظرية الأنساق الاجتماعية لتالكوت بارسونز)، وإنما تماسكا نسقيا متحركا نحو هدفية كونية موحدة، تتحقق من خلالها رسالة العنصر البشري في الحياة.
اضف تعليق