لا نستطيع أن نحكم على الخطاب الديني الشيعي بنفس أدوات الحكم والتقدير التي نستخدمها في تقييم بقية أنواع الخطابات الدينية، سواء الإسلامية منها، أو في الديانات الأخرى، فمقدار الظلم والتغييب القسري، وخطاب الكراهية الذي كان مواجه للطائفة الشيعية خلال التأريخ، حصرها في إطار خطاب ديني سوسيولوجي...
هل ان الخطاب مقصود منه نتاجات ومخرجات الدراسات الأصولية الفقهية، ومدى تفاعلها مع سلوك الفرد والمجتمع، وقدرتها على تحقيق عملية بناء اجتماعي نسقي شاخص ينهض بمقوماته؟
أم ان المقصود من الخطاب، هو محاولة توليف الأسس والمرتكزات التي يحملها الدين بذاته، ومحاولة تصديرها للوعي المجتمعي تحت مسمى الدين، لكي تكون قالبا مقبولا، يحمل الناس على تنسيقية بنائهم القيمي، والمؤثر بالنتيجة على مواقف واتجاهاتهم الإجتماعية، وبشكل أكبر على رؤيتهم للوجود وفلسفته.
* هل كان الخطاب الديني الإسلامي التوعوي في بداية الدعوة الإسلامية او بشكل أدق، في بداية نزول الوحي، مشابها لما بعدها، أم ان الخطاب الديني يتأثر أيضا بمعطيات ومؤثرات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فإذا أردنا الحديث اليوم عن خطاب ديني اسلامي، يجب علينا أن نأخذ بنظر الإعتبار، كم المخططات والفواعل والمؤثرات (القسرية المقصودة والطبيعية)، التي تحاول التدخل في هذا الخطاب والتأثير فيه، في محاولة مرة لحرفه عن أصوله، وفي محاولة مرة لإيقاف امتداداته التوعوية.
* هل أن الخطاب الديني هو بذاته عنصر محرك ومتفاعل مع الوجود المجتمعي، مستقل بذاته وبأدواته؟
أم هو آلة يمكن توظيفها في مجالات قد تخرج عن سياقاتها الأصلية؟
فإذا كان ذلك، هل يحق لنا أن ننتقد الخطاب الديني بذاته، كآلة تواصل لغوية معرفية؟
أم ننتقدها لأنها دخلت جوانب وظيفية خاطئة، واستغلت من أجل خلق ثغرات معرفية وأخلاقية وقيمية وسياسية في المجتمعات.؟
سوسيولوجيا المعرفة
يعرف علم اجتماع المعرفة على أنه ذلك الفرع من علم الاجتماع الذي يدرس العلاقة بين المعرفة والإطار الاجتماعي. كما عرفته دائرة معارف العلوم الاجتماعية "بأنه فرع من علم الاجتماع يهتم بدراسة محددات مشاركة الإنسان في الحياة الاجتماعية، حيث تؤثر هذه المحددات في معرفته وفكرة وثقافته. ويعرفه كارل منهايم: يعتبر علم اجتماع المعرفة فرعاً من أحدث فروع علم الاجتماع يتوخى بوصفه نظرية، تحليل العلاقة القائمة بين المعرفة والوجود، بوصفه منهجاً للبحث الاجتماعي- التاريخي يتعقب جذور الاشكال المختلفة التي حصلت عليها تلك العلاقة خلال مسيرة التطور العقلي الذي قطعته الانسانية.
ويعتبر (ماكس شيلر) أول من أطلق مصطلح (علم اجتماع المعرفة). وقد ذكر أن موضوع هذا العلم هو البحث عن العلاقة بين أنماط الحياة الاجتماعية ومختلف أنواع المعرفة. وعلى الرغم من هذا التعريف الذي قدمه (ماكس شيلر) لعلم اجتماع المعرفة، يمكننا القول إن هذا العلم وخلافاً للكثير من فروع علم الاجتماع ليس له تعريف معين ولا دائرة محددة. ويرى بعض الباحثين أن من غير الممكن جعل هذا العلم فرعاً من فروع علم الاجتماع، بل غاية ما يصل إليه أن يكون أشبه ببرنامج علمي.
فهذا الاصطلاح ينظر إلى الاختلاف الواقع حول العلاقة بين الظروف الاجتماعية، أو بين العوامل غير المادية. فقد تعرضت العديد من الدراسات في علم الاجتماع لهذا المسألة وظهرت نظريات مختلفة في هذا المجال وهي التي يطلق عليها تسمية (نتائج علم اجتماع المعرفة).
إنَّ من أهمِّ المواضيع المرتبطة بسوسيولوجيا المعرفة هو (حقيقة المعرفة)، فقد لفت جملة من المفكِّرين إبَّان ظهور علم الاجتماع أو حتّى قبل ذلك إلى تساؤلات حول المعارف البشريَّة وعلاقتها بالظروف والبيئة الاجتماعيَّة الحاكمة، فكانت التساؤلات: ماذا يطرأ عندما تتطوَّر المعرفة البشريَّة؟ وما هي العوامل المقتضية لتنمية الأفكار الإنسانيَّة أو المتسبِّبة في تقهقرها أحياناً وإصابتها بالجمود؟ ما هي العلاقة القائمة بين مجتمع ما والمؤسسة الاجتماعيَّة من جهة وبين أنماط محدَّدة من المعرفة من جهة أُخرى؟ وبشكل عام ما هي العلاقة بين الفكر والتفكير والمجتمع العامل بتلك الأفكار؟ ما العلاقة الموجودة بين المعرفة الإنسانيَّة والظروف الاجتماعيَّة الحاكمة لا سيما ما يتمتَّع به أصحاب تلك المعارف من مكانة اجتماعيَّة؟ وما العلاقة القائمة بين البيئة الاجتماعيَّة والعوامل النفسيَّة؟
ويتبين لنا من خلال ذلك أن سوسيولوجيا المعرفة تمثل العلاقة المحوريَّة بين المعرفة والمجتمع. وقد كان(ماكس شيلر) يعد هذا المجال علماً وموضوعه دراسة العلائق بين أنماط الحياة الاجتماعيَّة وأقسام المعرفة المتعدِّدة.
من جانب آخر، نجد أن (رابرت مارتن) يعرف هذا المجال باعتباره علما، بقوله: «يهتمّ علم اجتماع المعرفة بالعلاقة القائمة بين المعرفة والعوامل الخارجيّة في المجتمع أو الثقافة». في حين يرى (اشتارك) أنَّ وظيفة هذا العلم الأساسية تكمن في دراسة تأثير الشراكة الإنسانيَّة في الحياة الاجتماعيّة على المعرفة والفكر والثقافة وتحديد مداه.
وتمتدّ حدود علم اجتماع المعرفة لمساحاتٍ شاسعةٍ لتشمل نماذج عديدة من الوعي الإنسانيّ، فإنَّ جميع العلوم والمعارف تدخل تحت لوائه.
لقد لعبت المدرسة الفرنسية في تاريخ الفكر الاجتماعي وبزعامة العالم اميل دورکهایم دوراً كبيراً في إثبات أثر العوامل الاجتماعية في اكتساب المعرفة ونشأة العلوم، ولهذا تظهر اسهامات دوركهايم واضحة المعالم في سوسيولوجيا المعرفة ففي كتابة عن "الصور الاولية للحياة الدينية" قدم دوركهايم تحليلاً عن اشكال او صور الدين والمعرفة الدينية ومصادرها وطبيعتها وآثارها، بنفس المنظور السوسيولوجي الذي التزم به من قبل، وانتهى من تحليلاته الى ان الدين يعتبر شيئاً اجتماعياً قائم على نسق معرفي محدد، بما يفيد او يسلم الى نتيجتين هامتين وهما، ان الافكار والممارسات الدينية تشير الى وجود جماعة اجتماعية من ناحية، وأن التجمع هو المصدر أو المنبع الأصلي والسبب النهائي لكل خبرة او معرفة دينية من ناحية أخرى، إذ يمثل الدين في نظر دوركهايم معرفة قائمة على مجموعة من المعتقدات والممارسات في نسق يحقق القداسة للأشياء المحرمة والمقدسة، كما ان هذه المعتقدات هي التي توحد بين الافراد والجماعات، وذلك بان تخلق مجتمعاً اخلاقيا يعد شرطاً اساسياً لنموه.
وكمثال على علم اجتماع المعرفة، نجد مثلا أن الممارسات الدينية تشير إلى جماعة اجتماعية، لذا فهي لا يمكن ان تشير إلى بيئة خارجية طبيعة، ولا إلى طبيعة فردية، بل تشير فقط إلى واقع أخلاقي للمجتمع، من هنا كان الوجود الاجتماعي يمثل أصل الدين والتصورات الدينية لأن مصدر موضوع الدين مستمد من الحياة الجمعية ولا شيء غيرها في اعتقاده، لذا اعتبر دوركايم أن الحقيقة الدينية هي حقيقة اجتماعية وجمعية لا تصدر إلا عن ما هو جمعي، ولا تتحقق إلا في مجتمع، كما أن الشعور الديني شعور جمعي وليس شعورا فرديا، بل ان الوظيفة الاساسية للدين هي خلق وتدعيم التضامن الاجتماعي ولذلك فلن يبقى الدين إلا ببقاء المجتمع، أي أن افكارنا وممارساتنا الدينية ترمز إلى الجماعة الاجتماعية.
لذا نجد أن علم اجتماع المعرفة يقيم أسسه بالدراسة والتحليل للعلاقة بين الوضعيات الاجتماعية والمظاهر المتطابقة معها في صميم النظام الاجتماعي مع الاخذ بنظر الاعتبار تلك التقويمات الصادرة منها، ونجد مثال ذلك واضحا في اسـتثمار المنهـج المقـارن في دراسـة الظاهـرة الدينيـة مـن طـرف العلـوم الاجتماعيـة بهـدف التأكيـد أيـضـا عـلى أنـه لا يمكـن فصـل الدراسـة العلميـة للظاهـرة الدينيـة وإنتـاج المعرفة الدينية في المجتمع، عـن السياق العام لمسلسـل التغير الاجتماعي وتحـول الوظيفـة السوسيو - تاريخية للديـن داخـل المجتمعـات الإنسـانية.
يعكـس تفاعـل العلـوم الاجتماعيـة مـع العلـوم الدينيـة نسقا من المعرفة الإجتماعية المتعلقة بفهم أسس التفكير المجتمعي، وعوامل التأثير على هذه الأسس، إضافة أنها تسهم في فهم حقيقـة التطـور التاريخي للديـن كموضـوع للدراسـة في خضـم اختـلاف منطلقـات كل حقـل معـرفي: تقـارب العلـوم الاجتماعية المعتقـدات الدينيـة مـن منظـور نسبانیتها وارتباطها بوقائع فعلية ليست بالضرورة خياليـة، لكـن مـن المسـتحيل أو مـن الصعـب البرهنـة عـلى حقيقة وجودهـا بوسائل منطقيـة أو تجريبيـة مقبولـة؛ لذلـك فمسـألة حقيقـة وجودهـا لا تدخل في صلب اهتمام علماء اجتماع المعرفة.
تذهب المدارس الغربية المختصة بالدراسات السوسيولوجية، إلى أنه ولدراسة الدين كواقعة اجتماعية، عملت السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا على موضعة المعرفة حـول المجتمع، حيث لا يتـم فصل الدراسـة العلمية للظاهرة الدينيـة وإنتاج التدين عن السياق العام لمسلسـل التغيـر الاجتماعي وتحول الوظيفة السوسيو ـ تاريخية للدين داخل المجتمعات الإنسـانية. ويعكس هذا التفاعل للعلوم الاجتماعية مع العلـوم الدينية حقيقة التطـور التاريخي للدين كموضوع للدراسة في خضم اختلاف منطلقات كل حقل معرفي: تقارب العلوم الاجتماعية المعتقدات الدينية من منظور نسبانيتها وارتباطها بوقائع فعلية ليست بالضرورة خيالية، لكن من المستحيل أو من الصعب البرهنة على حقيقة وجودها بوسائل منطقية أو تجريبية مقبولة، لذلك فمسـألة حقيقـة وجودها لا تدخل في صلب اهتمام علماء الاجتمـاع بل فقط المعتقدين فيها، في حيـن أن العلوم الدينية تقارب الدين من حيث هو معتقد يحمل حقيقته المطلقة في ذاته، ويبني قوته من حيث وجود المعتقدين فيه.
سوسيولوجيا المعرفة، وإنتاج الخطاب الديني:
إن الشروط الاجتماعيـة لإنتـاج الخطـاب الدينـي مختلفـة جذريـا عـن البنيـات النسقية المؤطـرة للفعاليـات العلميـة. نتصـور الإبستيمولوجيا باعتبارهـا بحثا عـن المعايير العقلانية للاعتقاد الديني أو الاعتقـاد في الدين، ليس بهدف الكشـف عـن صـواب أو خطـأ مـا يعتقـد فيـه المـرء، لـكـن مـن أجـل مسـاءلة الـشروط الموضوعيـة والذاتيـة لبنـاء الاعتقـاد الدينـي، ورسـم المعـالم الاجتماعيـة الثقافيـة لاختـلاف التدين وأنماطـه بين الأديـان المختلفـة؛ بـل وداخـل الديـن نفسـه لقـد قذف بالإنسان داخـل هـذا الوجـود بلغـة وجودية؛ لذلك تسـعى الإنسـانية (أفـرادا وجماعـات) إلى تذويـت العـالم، وتشـكيل الأنسـاق الرمزيـة للحيـاة الاجتماعيـة والثقافيـة من خلال التشبث بالمعتقـد. لا تهـدف سوسيولوجيا المعرفة إلى البحـث عـن القواعـد المعياريـة التـي يجـب احترامهـا في الاعتقـادات، لكنهـا توجـه اهتمامها إلى توصيـف الإبستيمي الفاضـل مهـما كانـت اعتقاداتـه. فـإذا كانـت أخـلاق الفضيلـة تصـف مـن هـو الأخلاقـي الفاضـل مـهـمـا كانـت أفعالـه فإن إبستيمولوجيا الفضيلـة تهتـم بتوصيـف الإبستيمي الفاضـل مهـما كانـت اعتقاداتـه. تصير الإبستيمولوجيا بهـذا المفهـوم بمثابـة أخـلاق للاعتقـاد.. وموضـوع الإبستيمولوجيا ليـس هـذه المعياريـة الدوكسـاتية بقـدر مـا هـو الموقـف الإبسـتـيـمولوجي الصحيـح للشخصية الإنسانية.
إن الحاجـة إلى سوسيولوجيا المعرفة داخـل المجتمع وداخل الديـن وبـين الأديـان راجعـة إلى كـون العـالم أو العـوالم الدينية تتسم بالتركيـب والانفـلات، والمعتقـدات الدينيـة لا تحيـل بالضرورة إلى قناعـات -أو رؤى اجتماعيـة- تدافع عنهـا تنظيـمات اجتماعيـة أو أفـراد معينـون فقط؛ بل تتضمـن رهانات أيديولوجيـة، سياسية، اقتصاديـة... وأيضـا إرثـا حضاريا وثقافيـا معينـا.
وقد أصبح سؤال سوسيولوجيا المعرفة الذي شغل الفلاسفة والمفكرين سؤالا أكثر راهنية الآن، لأنه بات يشكل مساحة أكثر إتساعاً، تتجاوز حدود الفلسفة لتتصل بقضايا وتساؤلات تطال مجالات إجتماعية متنوعة وحقول بحثية متعددة التخصص. فقد أصبحت "إقتصاديات المعرفة" و"سياسات المعرفة" وغيرها، مصطلحات كثيفة التداول في ما بات يعرف اليوم بـ "مجتمع المعرفة".
لماذا يحتاج الانسان إلى المعرفة؟ لسبب بسيط وهو أنه بحاجة ليدرك ويفهم ويفسر ما يجري حوله. فالمعرفة العملية تبدأ مع الانسان بإعتباره فاعل اجتماعي، يحتاج أن يعرف لكي يفهم، ويكون بالتالي لتفاعلاته وممارساته "معنى"، يسمح له بالتوافق مع محيطه. قديماً إعتبرت المعرفة في الفلسفة العربية كنوع من الإدراك للجزئيات، أما "العلم" فكان إدراك بالكليات. حينها إستخدم مفهوم المعرفة في مجال التصورات، في حين أستخدم مفهوم العلم في مجال التصديقات.
لذلك تسعى السوسيولوجيا إلى تحليل الـديـن بوصفه نسقاً كاملاً يمد المؤمنين بحوافز ودوافع مشيدة وأنماط ثقافية لممارسات رمزية ذات معنى، فتركز على الممارسة السلوكية في الواقع المعيشي وما تعتمد عليه المجموعات البشرية من معتقدات وتفسيرات للنصوص الدينية من منطلق موقع الإنسان والجماعات في البنية الاجتماعية. منطلق السوسيولوجيا وعلم الاجتماع يختلف منهجياً عن منطلق الدراسات الدينية، فالأول يسعى إلى تحليل السلوك الديني في الحياة اليومية وما يستند إليه من تفسيرات خاصة للنصوص الدينية في السياق الاجتماعي والتاريخي، ومن منطلق التناقضات والصراعات القائمة داخل المجتمع وفي علاقاته بمجتمعات وحضارات أخرى، في حين تذهب الدراسات الدينية في اتجاه تقديم تفسيرات خاصة للنصوص والوقائع.
ان دراسة سوسيولوجيا المعرفة ليست عملية أكاديمية بحتة، بقدر ما هي محاولة موضوعية لمقاربة الحقيقة الاجتماعية لمعارفنا على كافة المستويات، بهدف الوصول إلى تفسيرات تطال أكثر القضايا المثيرة للجدل والتي تواجه الناس في حياتهم وتفاعلاتهم وصراعاتهم وتناقضاتهم.
هذه الدينامية تعني أن الانسان بصفته فاعل إجتماعي، هو كائن معرفي وثقافي وبنفس الوقت: يدرك، يعرف، يتفاعل، يفعل. والفعل هو ذروة الافصاح المادي عن الإرادة الانسانية العارفة. ولأن الأمر كذلك لا يمكن إدراك طبيعة المعرفة وديناميتها، دون هذا التلازم الجدلي بين التصور الذهني والفعل العملي. من هنا التمييز بين الثقافة والمعرفة سوسيولوجياً، حيث تحتوي الأولى الثانية، وتنتقل بها إلى حقل الواقع المعاش.
والواقع أن سوسيولوجيا المعرفة، تتعامل مع الدين باعتباره عالماً من المعاني والرموز، ينتج روابط اجتماعية وثقافية قد تُفسّر أو تُستعمل بطرق مختلفة، وفي تنظيمات مؤسساتية واجتماعية متعددة، تتمتع بجاذبية شعبية ظاهرة، تنتج فعاليتها وتعيد إنتاجها عبر فاعلين يمدون حقل العلاقات المتصلة به بفاعلية قد تتجاوز المكان والزمان، لكنها تبقى على ارتباط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتاريخي من حيث الممارسة بوصفها فعل تدين للجماعة، يتطور بتطور هذا الواقع وهو يتصل بدور المؤسسات والبنى الاجتماعية (كالعائلة والطبقات والمؤسسة السياسية وغيرها) اتصالاً عضوياً وتفاعلياً، وهو يقوم بوظائف محددة ويلبي حاجات ظاهرة وخفية، وقد تكون توظيفاته إيجابية أو سلبية، وكثيراً ما تكون التأويلات الدينية متنوعة بل متناقضة، وقد يتحول الدين من طاقة روحية ثورية في مراحل التكوين الأولى، إلى مؤسسات ونظم وطبقات وطوائف في المراحل التاريخية التالية، ثم تحصل الانقسامات والتناقضات، ليس بسبب التنوع في المعتقدات بحد ذاتها، بل بسبب التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
في المحصلة ان قضية اكتساب المعرفة سوسيولوجياً، لم تعد مسألة ترف، أو نزوع نحو ترقية فردية أو نخبوية، بقدر ما أصبحت سبيلاً أساسياً للتنمية الانسانية. ما يعني أن ببساطة أنها أصبحت حقاً إنسانياً وجودياً، يزداد أهمية كلما إزداد إرتباط إكتساب المعرفة بالقدرة الانتاجية في المجتمع. ولهذه الأسباب تزداد الحاجة إلى تجاوز التخلف المعرفي وخاصة في المجتمعات النامية التي تعاني من أزمة مركبة في هذا المجال، تتمثل في تخلف منظومة إكتساب المعرفة وإنتاجها، والمعوقات البنيوية التقليدية المعرقلة للتنمية، كغياب الحرية والعدالة، وتفشي الفساد والزبائنية من جهة، والحاجة الملحة لتجاوز هذه المعوقات الداخلية، والتي لا تجد ما يدعمها أو يحفزها على المستوى العالمي المحكوم بآليات العولمة واحتكار مصادر وآليات اكتساب المعرفة من جهة أخرى، والتفاعلات الحاصلة والمصاحبة لها، بفعل التطور الهائل على صعيد تقنيات الاعلام والاتصال والانفوميديا عموماً، والذي إزدادت أهميته مع مطلع هذا القرن الجديد بما لا يقارن مع ما كانت عليه الحال في القرن الماضي، ما يستوجب إعادة تحليل ظاهرة المعرفة، ودراسة كيفية إشتغال العناصر المعرفية وتشكلها وتفاعلها بعضها مع بعض.
الخطاب الديني:
يأخذنا لفظ الخطاب ولفظه الرديف (الديني) إلى بعض المناهـل اللغويـة وغيرها كي نضع أيدينا على دلالة اللفظ ومن ثم الوصول إلى بغيتنا في معرفة المعنى الذي تركب منه مصطلح (الخطاب الديني). ولذا: وجدنا أن التوقف عند هذين اللفظين من ضرورات البحث. المسألة الأولى: لفظ (الخطاب) كما قدمه اللغويون والمفسرون.
أولا: الخطاب لغة:
هو مصدر للفعل (يخاطب، وخاطب)، وقد جاء من كلمة الخَطب أي الأمر أو الشأن، والخطاب هو سبب الشيء، ويقال للمرء ما خطبك؟ أي ما شأنك، ونَصِفُ بعض الحوادث والأمور فنقول: خطب عظيم أو جليل.
يذهب الفراهيدي (المتوفى 175 هـ) إلى اختصار الدلالة ويوجز في البيان فيقول في معنى (الخطاب)، (مراجعة الكلام) وهـي عنـد الجـوهري (المتـوفى ٣٩٣ هـ): (وخاطبـه بـالكلام مخاطبـة وخطاباً) (٢)، ويفهم منه ما أراده الفراهيدي، أي: مراجعة الكلام بين المتكلم والسامع.
في حين يظهر أحمد بن فارس (المتوفى 395 هـ) معنى أوضح لهذا اللفظ، فقال: 11 (خطب): الخاء والطاء والبـاء أصـلان أحـدهما الكـلام بـين اثنين يقـال خاطبه يخاطبه خطاباً، والخطبة من ذلك (۱). وقريب منه قال الزمخشري (المتوفى 538 هـ): خطـب: خاطبـه أحـسن الخطـاب وهـو المواجهـة بـالكلام، وخطـب الخطيب خطبة حسنة، وخطب الخاطب خطبة جميلة، وكثر خطابها "). وقد حاول ابن منظور (المتوفى ٧١١ هـ) الجمع فيما قالـه أهـل اللغـة مـن قبله فقال: (والخطـاب والمخاطبـة: مراجعـة الكـلام، وقد خاطبـه بـالكلام مخاطبة وخطاباً، وهما يتخاطبان؛ والخطبـة مصدر الخطيب، وخطـب الخاطـب على المنبر، واختطب يخطب خطابة، واسم الكلام: الخطبة
الخطاب اصطلاحاً: فهو مواجهة الآخرين بكلام قد يكون على شكل رسالة، أو محاضرة، أو تسجيل، أو نص معين، وقد يتعدى الكلام إلى الرموز، وتتنوع أشكاله فمنه اللفظي الذي يستخدم اللغة كأداة له، وغير اللفظي الذي يستخدم العلامات والإشارات والإيحاءات، يعرف مفهوم الخطاب اصطلاحاً أيضاً بأنه مجموعة متناسقة ومترابطة من الجمل والأقوال، تحمل في سياقها معلومات ومعاني تهم المتلقي أو المرسل إليه.
وجاء لفظ الدين أيضاً في لغة العرب على معان متعددة، منها الطريقة والمذهب والملة والعادة والشأن، كما تقول العرب في الريح "عادت هيفُ لأديانها"، ويقولون: ما زال ذلك ديني وديدني، ومنها الجزاء والمكافأة يقال: دانه بدينه ديناً أي جازاه، ويقال: كما تدين تُدان أي كما تجازي تُجازى بفعلك، وبحسب ما عملت، ومنها سيرة الملك ومملكته، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
لئن حللت بجو في بني أسد---دين عمرو وحالت بيننا فَدَكُ
ومعنى الدين في القرآن لا يخرج عن المعنى اللغوي، فمن ذلك قول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، فدين الله هنا هو الخضوع له والانقياد لحكمه وأمره ونهيه.وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه}. فكلمة دينكم تعني ملتكم وتعني كذلك نظامكم وقوانينكم وتقاليدكم التي تسيرون عليها في الدولة. فدين الملك سياسته وقانونه وشريعته ونظامه. وقول الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. يوم الجزاء والحساب والمكافأة.
وقد عرف الدين في الاصطلاح الكلامي بأنّه عبارة عن مجموعة الاعتقادات والأحكام الفردية والاجتماعية الشاملة لجميع جوانب الحياة الإنسانية بما يحقق للإنسان السعادة في الدنيا والآخرة.
الخطاب كاستراتيجية للتواصل:
إن موضوع إستراتيجيات الخطاب من الموضوعات اللغوية المهمة، وتكمن أهميتها في كل مجال من مجالات الحياة، ومنها المجال الاجتماعي والديني والمجال التعليمي والسياسي والاقتصادي. فللمجتمع سياقات كثيرة، تتطلب خطابات متنوعة، لترضي أهداف الناس المتباينة. ولذلك فالحاجة قائمة لاكتشاف هذه الإستراتيجيات، ومعرفة كيفية تطويعها واستعمالها، وتطوير ذوات الناس التخاطبية بما يواكب متطلبات السياق وما يكفل التكيف مع تقلباته. كما أن توظيف الإستراتيجيات ضروري للدعوة وتبادل الأفكار بين الناس، بل غدا ضرورة في البيت وفي السوق وفي الطريق وفي كل مرافق الحياة. فالمعلم يحتاج إلى استعمال أكثر من إستراتيجية في خطابه طلابه، لاختلافهم في التكوين ولتعدد ميولهم، ودرجة استيعاب كل منهم في الفهم. وكذلك الأب ورجل الإعلام وغيرهم كثر.
وعليه، فتعدد هذه السياقات مدعاة لتعدد الخطابات اللغوية. وهذا مؤشر إلى ضرورة تعدد الإستراتيجيات، لما لكل منها من مزايا وآثار تختلف باختلافها النابع من اختلاف السياق، وندرك أنه لا يستطيع الإنسان أن يقتصر على استعمال إستراتيجية واحدة في كل سياقات خطابه، فإن ذلك يعد مؤشرا على الجمود في التفكير.
ومن جهة أخرى، يسعى الخطاب من خلال وظيفتيه التعاملية والتفاعلية، إلى التعبير عن مقاصد معينة وتحقيق أهداف محددة. إذ يبرز في الخطاب مقاصد كثيرة؛ قد تظهر مباشرة من شكل الخطاب، وقد لا تظهر. وعندها تصبح لغة الخطاب شكلاً دالاً يقود إلى المدلولات الثاوية خلفه من خلال المعطيات السياقية، والعلاقات التخاطبية، والافتراضات المسبقة التي يدركها المرسل أو يفترض وجودها، فيبني لغة خطابه عليها؛ كما يدركها المرسل إليه، ليستدل على المقاصد من خلالها.
ويتوخى المرسل (مرسل الخطاب) لتحقيق ذلك خططاً معينة هي التي يمكن أن نسميها إستراتيجيات، وهي إستراتيجيات تَطّرد بعينها، من خلال أنساق لغوية وأدوات معينة، فتصبح ظاهرة لافتة للنظر، فتكتسب القيمة التي ترشحها لتستحق الدرس والتحليل في نماذج مختلفة من الخطاب، بوصفها اطرادات لغوية تجسدها كفاءة المرسل التداولية في خطابه. وبوصفها ثمرة لسلسلة من الإجراءات الذهنية التي يقوم بها. ويكون في ذلك كله محكوماً بتأثيرات كل العناصر السياقية السالفة، فيغدو الخطاب عندها علامة على مجموعة من هذه الانتظامات التي تعبر عن التفكير النظري والإنجاز اللغوي الذي يرى المرسل أنه الأمثل من بين الإمكانات التي تتيحها اللغة في جميع مستوياتها، وذلك للارتفاع بأداء القول وتحقيق ما يريده خطابه.
فما هي الاستراتيجيات الخطابية التي يتوخاها المرسل؟
هي استراتيجيات قد تفوق الحصر. ومع هذا يمكن تصنيفها تصنيفا عاما، لينتظم عقدها حسب معايير واضحة. ومن هذه المعايير:
معيار اجتماعي، وهو معيار العلاقات التخاطبية؛ ومعيار لغوي، وهو معيار شكل لغة الخطاب؛ ومعيار ثالث هو معيار هدف الخطاب.
فهناك، مثلاً، معيار العلاقة التخاطبية بين أطراف الخطاب التي تتراوح قرباً وبعداً، علواً أو دنواً، وعلى ضوء هذا المعيار نستطيع أن نعين إستراتيجيات نصطلح على إحداها بالإستراتيجية التضامنية؛ ففيها يصبح طرفا الخطاب وكأنهما من الأقران لغة، ويمكن أن يعبر المرسل عن تلك العلاقة بأدوات لغوية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، الأدوات الإشارية اللغوية التي تقرب البعيد أو تقترب منه، وتجمع الأطراف المتخاطبة، مثل الضمير (نحن) الذي يدل على الجمع بين طرفي الخطاب، واستعمال الاسم الأول والألقاب والكنى.
وتحت هذا المعيار أيضا، معيار العلاقة التخاطبية، يندرج صنف آخر من الإستراتيجيات هو الإستراتيجية التوجيهية التي تتجسد من خلال آليات صريحة تسهم في توجيه المرسل للمرسل إليه، مثل أساليب الأمر والنهي الصريحين والتحذير والإغراء. ومن خلالها يبرز دور السلطة الاجتماعية وغير الاجتماعية في إعطائها المرسل نفوذاً يمارسه من خلال الأدوات اللغوية.
أما المعيار الثاني، لتصنيف إستراتيجيات الخطاب، فهو معيار دلالة الشكل اللغوي، إذ يكون واحدا من صنفين؛ إما قصدا مباشراً، أي إن القصد يتضح في الخطاب مباشرة، وإما قصدا غير مباشر، بأن يكون المعنى مستلزما من شكل الخطاب. وبالتالي يصبح شكلاً يستلزم قصداً غير المعنى الذي يدل عليه ظاهر القول أو الكلام. فقد يستخدم المرسل شكلاً ما بقصد تبطين مقاصده ومعانيه، ويرمي من خلاله إلى أمور يتدخل سياق الخطاب في كشفها وتحديدها. ويمكن أن نصطلح على هذا الضرب من الإستراتيجيات بالإستراتيجية التلميحية.
والمعيار الثالث لتصنيف الإستراتيجيات هو معيار الهدف من الخطاب. ويعد الهدف الإقناعي من أهم الأهداف التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها. وبذلك يمكننا أن نصنف إستراتيجية نسميها استراتيجية الإقناع، انطلاقا من أن المرسل يتوخاها لتحقيق مآرب كثيرة. ويستخدم لذلك آليات متعددة، و "حيلاً" لغوية مختلفة، منها ما يخاطب العواطف، ومنها ما يتعامل مع عقل المرسل إليه مثل الآليات الحجاجية التي يمكنه عن طريق البراعة فيها أن يتخذ الأقوال أدلة تساق أمام المرسل إليه حتى يقنعه دون تلاعب بعواطفه، أو التغرير به. ويوظف لها كافة العمليات شبه المنطقية التي تتجسد باللغة الطبيعية..
ما هو الخطاب الديني؟
الخطاب الديني هو المعرفة المختصة بالعقيدة (الإديان)، والشريعة (القواعد العامة الحاكمة للعلاقات بين المخلوقات)، التي تقدم لكل من يطلب هذه المعرفة. يعني في كلمات أخرى: الخطاب الديني هو "العلوم الشرعية" التي تُدرس في المدارس والمعاهد والكليات لكل من يطلب هذا "النوع" من العلوم.. والتي تقدم في وسائل الإعلام لجمهور الناس؛ لتشارك في تكوين الرأي العام، أو "العقل الجمعي" الذي يحرك ويضبط سلوك الناس.
ويستند الخطاب الدينيّ أو الإسلاميّ إلى مصادر التشريع الإسلامي؛ وهي القرآن الكريم، والسنة النبويّة، ومصادر التشريع الإسلامية الأخرى، سواءً كان هذا الخطاب صادراً من جهة إسلامية، أو مؤسسة دعوية رسمية، أو غير رسمية، أو أفراد جمعهم الاستناد إلى الدين الإسلامي وأصوله كمصدر لأطروحاتهم.
وقد حاولت سوسيولوجيا المعرفة أن تقارب الخطاب الديني كممارسات وسـلوكيات اجتماعية وفردية، استناداً إلى نسـق منهجي يسـتدمج الذاتي والموضوعـي في بناء الخطاب التفسيري والتحليلي حول الظاهرة التدينية.
ولابد من ذكر عناصر أساسية كانت بمجموعها مكونات لخطاب الديني وهي كالآتي: 1 ـ ما هو الدين كي ينسب إليـه الخطـاب فتكـون سمتـه دينيا؛ آخر: مرجعيات هذا الخطاب ومناهله. وبمعنى ۲ ـ ما هي آليات فهم النص الديني، ومن وضعها؟ 3 ـ من هم أهل الدين، وما هي سماتهم، ومـن حـدد هذه السمات؟ وهل اتفق المسلمون عليهم؟ ٤ ـ أعمال العقل أم حاكمية الجهل؟ 5 ـ قداسة النص أم نص القداسة؟ فهذه العناصر والمكونات للخطاب الديني لا شك كان لها الدور الفعـال والمؤثر في تغيير البنية الفكرية والمعرفية للمجتمع الإسلامي منذ القرن الأول للهجرة النبوية وإلى يومها هذا. إلا أننا ومن خلال لوازم المنهج البحثي وجـدنا أن التوقف عنـد هـذه المكونات ودراستها يحقق لنا رؤية واضحة عن الخطاب الديني كمـا يظهـر لنـا حقيقة دوره في تغيير البنية الفكرية للمجتمع الإسلامي الذي كان كتابه القرآن ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولابد أن يستند الخطاب إلى الـدين ولابد أن يكـون المتلقـون متـدينين وإن اختلفـت لـديهم المستويات المعرفيـة للـدين وتطبيقاته في الحياة. وعليه: يصبح من البداهة بمكان أن يكون القرآن الكريم والسنة النبوية هم المناهل الأساس لهذا الخطاب الديني، ومن ثم تصبح الحاكمية للنص، والنص فقط.
لذا كان للقرآن الكريم دورا كبيرا كمرجعية أساسية يعتمدها الخطاب الديني بالدرجة الأساس في شحذ الخطـاب بنصوصه الشريفة بلحـاظ إنه كتاب الله تعالى ومرجـع التشريع الإسلامي الأول فضلاً عن حاكميته التي يفرضها الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكتاب الذي نزل به الوحي عليه السلام على قلـب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ثم اكتساب هذا الخطاب تلك الحاكمية التي يفرضها الإيمان بالقرآن الكريم وتسيير المجتمع المسلم لهذه الحاكمية التي انتهل منها الخطاب سلطته.
ولكـن: ثمة مشكلة كبيرة في اكتساب الخطـاب الـديني قـوة الإصلاح المجتمعي حينما يستل منه الخطـاب هـذه الخصوصية عنـد إرجاعه إلى القـرآن الكريم لينتهل منه الخطيب أو المتكلم خطابه الـديني، وذلك أن القـرآن الكـريم فيه المحكم والمتشابه والظاهر والباطن ومن ثم كيـف سيصل المتكلم إلى مـراد الآية ليستل منها حاكمية على المتلقي؟ والقرآن فيه المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ؛ وعليـه: فنحن بحاجة إلى أهـل القـرآن والتأويـل ليـصـح بـذلك الأساس الأول في مرجعية الخطاب الديني والذي من خلاله يتحقق الإصلاح.
ولفقدان هذا الاختصاص المعـرفي في القرآن في بواطنه وظـواهره يبقى الخطاب الديني منذ عهـد الـنبي الأكرم صلى الله عليـه وآلـه وسـلم مقيـداً في عملية الإصلاح بذلك التخصص القرآني الذي حدده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام. إذن: لم يـزل القـرآن هـو المرجع الأول والمنهل الأساس في بنـاء مكونات الخطاب الديني، ويبقى الإصلاح والإفساد مرهونا بتلك المعرفة بكتاب الله تعالى، وهو ما جعل هذا الخطاب يتفاوت في التأثير في المجتمعات التي يلقـى فيها فضلا عن الأفراد.
المسألة الثانية: دور السنة النبوية في مرجعية الخطاب الديني لا تختلـف الـسنة النبويـة عـن القـرآن الكـريم في كونها الأساس الثـاني لمرجعية الخطاب الديني وثاني منهل معـرفي لـه، إلا أن هناك فرقاً بين القـرآن والسنة النبوية في كونهما المنهلين اللذين يستلهم منهما الخطـاب الـديني مادتـه الخطابية أو بالأعم مادته المعرفية. وهو أن القرآن قد حفظه الله تعالى من التحريف بينما الحديث الشريف تعرض للدس والتحريف مما حدا بكثير من العلماء إلى تأسيس علـم الرجـال والجرح والتعديل لغرض النظر في سند الحديث النبوي الشريف، وذلك لكثرة ما تعرض له هذا المنهل المعرفي من الدس والتلفيق والكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا ذاك لما احتاج علماء المسلمين إلى الجرح والتعديل. وهذا أولا.
وثانيا: حتى مع وجود الجرح والتعديل وعلم الرجال لم يسلم الحديث الشريف من التعرض للتحريف والتزييف، وذلك لما مرت به الأمة منـذ عـهـد النبوة من التربص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقليـب الأمـور لـه حـتى باتت هذه الحقيقة ظاهرة لكل مسلم لاسيما وإن الوحي قد نطق بهـا واضـحة جلية لمن كان له قلب يفقه به الأمور. قال تعالى في بيان خطر المنافقين، ولقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق.
الخطاب الديني في الفكر الغربي
يقوم الفكر الغربي على اعتبار التجربة الدينية كمعطى ذاتي واجتماعي في نفس الوقت، فهي من ناحية تعتبر تجربة ذاتية يخوض فيها وعي الفرد إشباعا لجنبته الروحية والنفسية، ومن ناحية ثانية يعتبره كمعطى اجتماعي، تتأسس من خلاله أنساق إجتماعية وتتكون أنماط وعي مجتمعي، يترابط من خلاله الأفراد كوجودات اجتماعية، ويغذيها في الوقت نفسه بخطاب معرفي موحد نوعا ما، يخلق من خلاله مشتركات نفسية وجدانية وأخلاقية.
فالتجربة الدينية في الفكر الغربي، باعتبارها خطاباً يتحقَّق فيه الدين كواقع موضوعي ببعديه الاجتماعي والرمزي؛ هو معطى دفعه إلى أهميَّة بيان هذين البعدين من خلال النظر إليهما كلحظتين متداخلتين تميِّزان الخطاب الديني في عموميته. ولا بد من الإشارة، إلى أهميَّة الحديث عن الدور الذي لعبته فلسفة الدين كمقدمةٍ ضروريَّة ومنهجيَّة من دونها لا يمكن فهم طبيعة الانتقال في التعاطي مع الدين، من التفكير فيه كجوهرٍ إلى تناوله كظاهرةٍ، ومن الانشغال بمحاولة تعريفه إلى النّظر إليه كبُنَى وآليَّة من آليات إنتاج المعنى، خاصة بعد أن أصبح الصراع على آليات إنتاج المعنى أحد المؤشرات الدالة على معالم الأزمة داخل الخطاب الديني".
وتدرس "مشكلات الخطاب الديني" إمكانية الحديث عن الله بشكل له معني إذا كانت المفاهيم التقليدية المتعلقة بأن الله كيان معنوي، مطلق، وأبدي مُسلم بها. ولأن المفاهيم التقليدية عن الله جعلت من الصعب وصفه في ادبيات الفلسفة الغربية المعاصرة، بذلك فمن الجائز أن تصبح لغة الخطاب الديني بلا معنى عندهم. ولقد حاولت النظريات المتعلقة بالخطاب الديني إما إثبات أن هذا الخطاب بلا معنى، أو إيضاح أن الخطاب الديني على الرغم من كونه مُعضل فهو ذو معنى.
لقد تم تفسير الخطاب الديني بشكل تقليدي على أنه إنكاري، تناظري، وأسطوري، وكل هذه الصفات تمثل طريقة للحديث عن الله بمصطلحات تخص الإنسان. فالإنكار هي طريقة للإشارة إلى الله بما ليس فيه. وأما التناظرية ففيها تستخدم الصفات الإنسانية كمعايير لمقارنة الصفات الإلهية. والرمزية تستخدم هنا بشكل غير حرفي لوصف خبرات لا توصف. وقد نظر الفكر السوسيولوجي الغربي إلى جوانب الإعجاز في السرديات الدينية على أنها ولتفسير الخرافي للدين يحاول كشف حقائق رئيسة خلف القصص الدينية. وتصيغ التفسيرات البديلة للخطاب الديني على أنه له وظائف سياسية، إلزامية، ووظائف خاصة بالأداء.
ولقد قدم تناظر ألعاب اللغة، وهو متعلق غالبًا بلودفيغ فتغنشتاين، طريقة لإيجاد المعنى في الخطاب الديني. تؤكد هذه النظرية أن اللغة لابد وأن تُفهم من خلال لعبة: وكما أنه لكل لعبة قواعد تحدد ما يمكن وما لايمكن عمله، فلكل سياق لغوي قواعده الخاصة التي تحدد ما له وما ليس له معنى. ويُصنف الدين على أنه لعبة لغوية ممكنة ومُباحة ولها معنى من خلال سياقها الخاص.
وقد أعتبر الخطاب الديني من ناحية أخرى كمشكلة فلسفية تنبع من صعوبة وصف الله بدقة. ولأن الله يُرى بشكل عام على أنه كيان معنوي، مُطلق، وأبدي، فإن اللغة العادية لايمكن دائمًا أن تنطبق عليه. مما سبب مشكلة في الاعتقاد الديني، حيث إن القدرة على وصف الله والحديث عنه أمر بالغ الأهمية في الحياة الدينية. ولقد عبرت سيمون ويل عن هذه المشكلة في كتابها "في انتظار الله". ففي هذا الكتاب وصفت مشكلتها؛ حيث إنها كانت على يقين بحب الله وكانت في نفس الوقت على دراية بأنها لاتستطيع وصفه بشكل ملائم.
وترى عالمة اللاهوت سالي ماك فوج أن المشكلات الحديثة المتعلقة بالخطاب الديني قائمة على تجارب فردية وذلك بسبب زيادة العلمانية في المجتمع. ولقد لاحظت أن تجارب الإنسان هي تجارب دنيوية بدلًا من كونها تجارب إلهية، مما يجعل الشعور بوجود الله أمر غير شائع وربما غير ضروري. ولذلك فقد قالت أن الخطاب الديني هو خطاب وثني؛ لانه فشل في التعبير عن الخضوع لله وهو أيضًا غير مرتبط بالسياق؛ لأن الخطاب الديني يصبح بلا معنى عند اختيار الكلمات غير المناسبة.
تأريخانية الخطاب الديني في نظر بعض المفكرين العرب المعاصرين:
لقد انقسم الخطاب الديني الاسلامي خلال التأريخ إلى انواع مختلفة، وتختلف بحسب مناشئها الفكرية والمذهبية، ومقدار تداخل التأثير السلطوي أو السوسيلوجي فيها.
ولكن وعلى العموم فإن أبرز مدرستين للخطاب الديني تمثلتا بتوجهين عامين، هما المدرسة الشيعية الإمامية الإثني عشرية، المدرسة السنية بفرعها العام، والسلفي.
تأثر الخطاب الديني الرسمي للمدرسة السنية بمؤثرات الفعل السلطوي والسياسي، وتداخل هذا الفعل مع كل موارد المعرفة المجتمعية، قاد إلى ان تذبذب هذا الخطاب وتبعيته للسلطة الحاكمة وخروجه من محددات وضوابط العقلانية القرآنية التي فرضها الله على العباد، إلى التحول نحو الصيغة التبريرية في الخطاب الديني، الذي ساهم في بناء سوسيولوجيا معرفة مشوهة، وأدى لخلق مجتمعات تكفيرية او تباعدية، تطورت بعدها لتكون مشاريع تصادمية مع سلطاتها الدنيوية، ومع المختلف عنها فكرا ومنهجا وطريقة.
نتيجة لهذه الإنحرافات، برز الفكر العربي المعاصر، والمتأثر بادوات المنهجة السوسيولوجية والهيرمونطيقية الغربية، ليفكك هذا الخطاب السلطوي، ويحيله إلى أدوات اشتغال غربية، عمد من خلالها لا إلى ضرب أسس هذا الخطاب، بل إلى اجترار العداء الغربي نحو الدين إلى ساحات الفكر الاسلامي المعاصر ومن أهم المناهج التي أستخدمت من قبل أولئك الكتاب والمفكرين المعاصرين هو منهج التأريخية، أو التأريخانية.
والتاريخية من أهم مضامين الخطاب الحداثي ومحاولات تأسيسها من أهم أهداف هذا الخطاب، فالنظرة التفاضلية للنص كانت إحدى أهم الوسائل من أجل تحقيق هذا المبتغى. والتاريخية نزعة يرى أصحابها نسبوية القوانين الاجتماعية والحكم بوضعيتها وتعرف بأنها مذهب يقرر نسبية القوانين الاجتماعية واتصافها بالزمكانية، وأن القوانين من نتاج العقل البشري الجمعي، وتسحب ذلك على الأديان أيضا. فالتاريخية إذن اتجاه يحكم بعدم شمولية القوانين المختلفة وحتى الأحكام الشرعية، فترتب على ذلك القول بتاريخية النص الديني، أي أنه نسبي فيما تضمن من أحكام، ونسبي فيما أرسى من تصورات ومسائل عقدية، ونسبي فيما حث عليه من أداب وأخلاق، وبالتالي فهو صالح لبيئته الاجتماعية في زمان ومكان خاص بها، لا غير.
ونتج عن ذلك النداء بالعلمانية في مجال السياسة والحكم كأهم رؤية قريبة تشكلت عن مقدمات سبقت، فحدث شرخ كبير في الفكر الإسلامي، ساعد الخطاب الحداثي وبعض القراءات التراثية في اتساعه إلى حد بعيد، إلى درجة الانفصال عن النص الديني، ورفضه كمرجعية أساسية لمختلف انشغالات الحياة المسلمة، مبررين ذلك بأنه نتيجة طبيعية لقراءة ابستيمولوجية لهذا النص والتمعن في هذه النتائج يؤكد لنا إفرازات توظيف بعض المناهج؛ أي أن هذا النص قد قرأ من خارج، بمناهج مستوردة منقولة وليس بمناهج أصيلة، ومقتضياتها لا تتناسب مع مقتضيات الممارسة التراثية ولا مع الاجتهاد الديني.
وهذا التيار الذي يشتغل بهذه المناهج ويسلك هذه الرؤية يشكله جماعة من المفكرين برزوا كمفكري العصر مثل: محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، محمد عابد الجابري.. الذين تبين كتاباتهم أنهم قرأوا النص الديني من خارجه، وبأدوات ومناهج غريبة عنه كمناهج: غاستون باشلار، میشال فوكو، جاك دريدا وغيرهم من مفكري الغرب وفلاسفته الذين تميزوا بأبحاثهم في هذا الميدان خاصة بعد تأسيس المدرسة البنيوية التي كان لها منهجها الخاص في دراسة النصوص الدينية وغير الدينية، وكيف أنها تمارس التأويل وتنتصر إليه. وبعد تأسيس فلسفة العلوم أيضا التي كانت المناهج الابيستمولوجية اهم مسالكها، لأنها في زعم اصحابها تمثل السبيل الامثل لتجاوز العقل الميتافيزيقي واللاهوتي ولإرساء قواعد التفكير الوضعي.
يجادل أركون أن الحقيقة في الإسلام – وبعكس الاعتقاد السائد- لم تتجسد كلياً، أو كما يجب في التاريخ إلا لفترة وجيزة، على الرغم من أن جميع الفرق والمذاهب الإسلامية تتنافس وتصطرع في سبيل امتلاك هذه الحقيقة الخاصة بجوهر الدين أو الإسلام. وما ادعاء القول بحقيقة " إسلامية متعالية وجوهرية مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم، إلا وهماً لا علاقة له بالحقيقة والواقع، ولهذا فقد وجد نفسه بإزاء مشكلة الحقيقة في نظرية المعرفة الدينية الخاصة بالإسلام وتراثه متشككاً معرفياً، في ما يزعمه أصحاب الخطاب الديني، بخصوص امتلاكهم الحقيقة والمعنى المكتملين في الدين والنص المقدس. وكان عزمه الإبستمولوجي قد اقتضاه دراسة العقل الإسلامي المنتج للتراث التفسيري أو التأويلي الخاص باندراج الحقيقة في عالم الإسلام، طوال تاريخه العقدي والأصولي، وما تضمنه من أنظمة فكرية تشكلت عبر تاريخ الظاهرة الإسلامية كلها، ونشطت في عملية استيعاب النص (القرآن)، واحيانا امتلاكه ايدولوجيا باسم الدين.
فكانت هذه الانتقادات أن أدت إلى تكوين رؤى كثيرة إزاء الموروث الإسلامي وقبل ذلك إزاء نصوص الوحي تحديدا باعتبارها الجانب المقدس في الإسلام فكان القول بتاريخية النص الديني الإسلامي. ـ طبعا كانت الغاية هي محاولة تحرير المعنى والتأويل من كل سلطة سوى سلطة التأويل؛ وهو ما شدد عليه فيلهيم دلتاي عندما أقحم الهيرمينوطيقا في صميم إشكالية العلوم الإنسانية، وتأثر به هؤلاء المفكرين العرب والاسلاميين.
لهذا فهناك مبررات عديدة جعلت من القول بتاريخية النص موضوعا جديرا بالبحث والدراسة لما يشويه من غموض، ولما يترتب عليه من نتائج خطيرة من منظور إسلامي، ومن هذه المبررات أولا: إن القول بتاريخية النص الديني مظهر من مظاهر التحديات التي يجابهها العقل المسلم: وذلك من خلال محاولة الخطاب الحداثي بيان أن النص الديني لا يعد أن يكون وضعا بشريا يناسب مرحلة الطفولة العقلية للإنسان، أو أنه نتاج ثقافي أفرزته أوضاع مقدمة اجتماعية وثقافية معينة غير الأوضاع الراهنة، مبررين ذلك بأن العقل البشري وصل إلى مستوى جد متقدم من الوضعية التي تجاوز بها هذا العقل الصبغة اللاهوتية التي هي صبغة العقل الديني الذي مرجعيته النص.
وهذه رؤية مادية بعيدة عن روح الإسلام والخطاب الإسلامي، كما أنها بينة الخطورة لما فيها من دعوة إلى الانفصال عن النص وتصادم مع الدين. ويتجلى القول بالتاريخية أيضا كتحد في محاولات تأويل النص التي تسعى إلى ربط النص بسبب نزوله واعتبار السبب علة لا مناسبة، ولما كانت الأحكام تدور مع العلل وجودا وعدما، فإذا غابت العلة غابت وظيفة النص لغياب علتها تلك، ومن ثم فأحكام القرآن الكريم المختلفة ليست مطلقة، وقد كان قول بعضهم: أحكام التشريع في القرآن ليست مطلقة، ولم تكن مجرد تشريع مطلق فكل أية تتعلق بحادثة بذاتها، فهي مخصصة بسبب التنزيل، وليست مطلقة وكل آيات القرآن نزلت على الأسباب -أي لأسباب تقتضيها- سواء تضمنت حكما شرعيا أم قاعدة أصولية، أم نظما أخلاقية، إنها أحكاما مؤقتة ومحلية تنطبق في وقت محدد وفي مكان بعينه.
هذا الحكم الذي قيل به في مجال الأحكام الشرعية والنظم الأخلاقية والقواعد التي يستعان بها في مجال الاستنباط. سحب أيضا على العقائد في الخطاب الحداثي وهنا تتجلى الخطورة أكثر، ويبرز التحدي بشكل أقوى وأخطر لأن في ذلك محاولة للانفصال عن العقيدة الإسلامية، وتأسيس تصور آخر مناهض للتصور الإسلامي، وهذا ما قال به البعض من خلال التصريح بأن: الخطاب الإلهي (القرآن) خطاب تاريخي لا يتضمن معنى مفارقا له إطلاقية المطلق. ثانيا: إن القول بالتاريخية مسعى لتكوين رؤية موازية للرؤية الإسلامية الأصيلة. قد تكون هذه الرؤية امتداد للمركزية الأوروبية.
وقد أفضى القول بتأريخية القرآن وأحكام الإسلام، إلى إحداث قطيعة مع النص الديني، وبالتالي إلى ضرب كل أشكال الخطاب الديني، فالتأريخية تدعو إلى استمداد القيم واتخاذ المرجعيات بالعودة إلى الفلسفات المادية، التي تجاوزت حسب الخطاب الحداثي المرحلتين اللاهوتية والميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية التي صارت فيها المعرفة تتصف بمختلف خصائص المعرفة العلمية. التي توافق العقل المعاصر بعيدا عن ميثولوجيا اللاهوت. وهذه الرؤية الموازية ليست مشكلة في ذاتها إذا ما تعاملت مع النص الديني الثاني (= التراث) إنما تكون مشكلة حينما يكون التعامل مع النص الديني الأول (= الوحي). ولذا فتأسيس مذهب آخر، أو الاجتهاد وفقا للضوابط المتفق عليها والمختلف فيها عند علماء الإسلام بالنسبة للخطاب الحداثي لا يهم ولا عبرة به: لأنه لا يحقق النقلة النوعية في مجال المعرفة طالما المرجعية تبقى هي هي، ولذلك يلغي الخطاب الحداثي الفوارق التي وجدت تاريخيا ولا تزال بين المذاهب الإسلامية، كالفرق بين السنة والشيعة مثلا.
ثالثا: إن القول بتاريخية النص الديني، قول متهافت لما يحتويه من مفارقات؛ فمن جهة يتعامل مع نص له خصائصه بمنهج وأليات غريبة عنه، وهذا غير ممكن لأن الممارسة القرآنية المتعلقة بالنص الديني الإسلامي لها آلياتها الأصيلة، ومن جهة أخرى يبرز التناقض بين المنطلق والهدف في القول بالتاريخية؛ فمن جهة هو خطاب يرفض الدينية ويعتبرها غير علمية، ومن جهة أخرى يقف على أرضها وينطلق منها، وهذه إحدى صور التضارب في الرؤية الحداثية التي تبرز لنا تلفيق أصحابها كما هو الأمر مع نصر حامد أبو زيد الذي يعتبر الإيمان بالوجود الميتافيزيقي للنص يطمس إمكانية فهمه العلمي والقول من جهة ثانية بأن الإيمان بمصدره الإلهي لا يتعارض بإمكانية تحليله وفهمه. وهذا التضارب في الرؤية والموقف جلي مما يبدي عدم استقامة القول بتاريخية النص الديني.
رابعا: إن النص عموما والنص الديني خصوصا تبدل وتغير مجال الاهتمام به؛ فقد كان عند القدامي أداة للمعرفة فيوظف على أنه دليل على حكم، أو مرجعا في العمل أو أداة لإثبات أو نفي أمر ما، هذه الكيفية في التعامل مع النص تغيرت فبعدما كان أداة صارت له كينونته الخاصة: أي أنه أصبح مجالا معرفيا مستقلا، يمكن دارسه من إنتاج معرفة تجعله يعيد النظر فيما كان يعرفه، وذلك بتوظيف آليات قراءة حديثة وقديمة مثل الفللوجيا، والهرمينوطيقا، والسيمولوجيا، ويوسع من اجتهاده بغية الوصول إلى التحقق منه، ومن ثم توظيف ما كان يعرف عن النص الديني.
دعوى تجديد الخطاب الديني ليتلائم مع انماط المعرفة المجتمعية المتطورة في الخطاب الديني السني:
يرى بعض العلماء أن ما يصلح في القرن الثاني الهجري ربما لا يصلح في القرن الخامس عشر الهجري، والأسلوب الذي كتب به الخطاب الديني في عصر ما ليس صالحا بالضرورة لكل عصر، وخاصة العصر الحديث.
ليس ثَمَّ شك أننا نعيش اليوم في ظلال تيار قوي من الدعوات إلى تجديد الخطاب الديني، وهذه الدعوات تصدر من جهات دولية ومحلية. إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ينظر لها لدى أصحاب الخطاب المتطرف، انها دعوة حق، وهي تعبير قوي عن الشعور بالحاجة إلى المراجعة والنقد الذاتي. !
خاصة وان الخطاب السني المتطرف في أدبياته مع بقية المذاهب والأديان، ومع أطر الحداثة، قد اصطدم بمناهج المعرفة المجتمعية الحديثة، خاصة لدى فئة الشباب، فالشباب العربي اليوم في ظل هذا التقدم الهائل لوسائل التواصل والاتصال الحديثة بحاجة ملحة إلى عرض جديد بشكل جديد للمعتقدات والمفاهيم الدينية والأخلاقية؛ لينطلقوا نحو التغيير والإبداع، متسلحين بسلاح قوي من المعرفة والعلم في ظل هذه المتغيرات العالمية.
ولا يخفى أن انغلاق كثير من الدعوات المعتمدة على الأساليب التقليدية كانت سببا في إعراضهم عن الخطاب الديني، بل وعاملا في طريقهم إلى الإلحاد.
وغالبا ما ينظر للمهتمين بتجديد الخطاب الديني على أنهم فئة وقعت في فخ أعداء الدين، حيث وجهت لهم عدة اتهامات، منها العمل على تقديم خدمة للغرب على حساب ديننا ومصالح الأمة.
صحيح أن الدعوات للإصلاح جاءت في بعض الحالات من الغرب، فالغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر طالب كثير من ساسته ومفكريه بهذا التجديد؛ لأنه يساعد على تجفيف منابع العنف والإرهاب من وجهة نظرهم، ووجدوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ما يكفي من الذرائع للمطالبة بتغيير مناهج التعليم، ومنها معاهد التعليم الشرعي.
ليس كل خطاب ديني على مستوى واحد من الانضباط بالأصول المنهجية وعلى مستوى واحد من الكفاءة والجَوْدة، ونرى كذلك بعض الحكومات العربية والإسلامية طالبت بتجديد الخطاب الديني بسبب أعمال العنف التي واجهتها في بلادها، وهناك تيارات أخرى غير دينية من مفكرين وإعلاميين طالبت كذلك بإدخال العديد من التطويرات في بِنْيَة الخطاب الديني.
وهناك أعداد لا يستهان بها كذلك من أهل الشريعة السنة والشيعة، تطالب هي الأخرى بتجديد الخطاب الديني على نحو ينسجم مع المفاهيم والأوضاع الجديدة التي أوجدتها العولمة، وأعظم أدواتها في العصر الحاضر شبكة الإنترنت.
ويرى هؤلاء العلماء أن الإصلاحات المصممة لمسايرة التطورات الهائلة التي تحدث من حيث كمية وتنوع المعلومات المتاحة ضرورية، وأن هذه الإصلاحات، خاصة في المجال الثقافي، تجعل الوقت مناسبا للإصلاح. من الحكمة الانتباه إلى هذه الأصوات، خاصة مع وتيرة الحياة الحديثة التي تغير بسرعة احتياجات وتوقعات الجمهور المتدين.
صياغة منهج ملموس للإصلاح
يرى الكثير من فقهاء ومفكري العالم الإسلامي أن إصلاح الخطاب الديني بات من ضروريات خلق مجتمعات معرفية صالحة في هذا الزمن، معتمدين في ذلك على:
أولا: لا يصح عقلا ولا شرعا أن نترك تطوير أساليبنا ومفاهيمنا لأن الغرب يرغب بذلك، فما يقوله الآخرون فينا أو ينتقدوننا به قد يكون بعضه صوابا، ومن واجبنا أن نستمع ونحاكم ونتأمل، وبعد الاستماع والمحاكمة والتأمل إما أن نقبل أو نرفض، أو نصحح البعض ونترك بعضا آخر، أما أن نُعْرِضَ عن فكرة التجديد والتطوير للخطاب الديني جملة واحدة لمجرد أن مَنْ يخالفنا يريد ذلك فليس هذا واردا في العقل ولا في الدين.
ويرى بعض العلماء أن ما يصلح في القرن الثاني الهجري ربما لا يصلح في القرن الخامس عشر الهجري، والأسلوب الذي كتب به الخطاب الديني في عصر ما ليس صالحا بالضرورة لكل عصر، وخاصة العصر الحديث.
ويصبح الإصلاح ضرورة حين يدرك العقل البشري حقائق الوجود والأشياء، ومقومات النهضة والتغيير والتطور على سبيل التدرج. ومن ثم، فبدون تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن تنهض الأمة العربية والاسلامية، ولا يتسنَّى للشباب أن يجدوا ضالتهم المنشودة في الارتقاء في العلم والمعرفة وصولا إلى الإبداع والتغيير.
يحمل الوضع القائم عدة عواقب وخيمة على مجتمعنا، فقد رأينا كيف أنتج الخطاب المتشدد منظمات إرهابية مثل: "القاعدة" و "داعش".
ثورة الاتصالات والتواصل الحديثة جعلت العالم اليوم قرية صغيرة، وصار للناس تطلعات ومفاهيم جديدة، الأمر الذي فرض عليهم سُلَّم أولويات جديدا في القيم والسلوك، فإذا لم يغيّر الخطاب الديني اليوم طروحاته ليواكب ذلك سيكون في واد آخر غير الوادي الذي تستمع له الناس أو تراه أو تمارسه، وحينئذ يفقد أهميته وتأثيره. فالأسلوب العاطفي ودغدغة المشاعر لم يعد كافيا اليوم، ولا بد أن يسير في خط مواز مع الفكر والعقل، وأن يُطَعَّم مع التقدم العلمي المعاصر حتى ينسجم ويتناغم معه.
لذا فهم يرون أنه وفى حال فشل المجتمعات الإسلامية والمتممات الدينية الأخرى في تنفيذ تلك الإصلاحات فإن البشرية ستخسر معركتَها لصالح دَعَوات وشعارات التطرف والتزمت التي تسود فضاء وخطابات أهل التدين.
ونحن نتفق مع الرأي الذي يذهب إلى أنه ليس كل خطاب ديني على مستوى واحد من الانضباط بالأصول المنهجية وعلى مستوى واحد من الكفاءة والجَوْدة. فهناك مَنْ اتَّسم خطابهم بالخرافة، والأحاديث الموضوعة، والقصص الغريبة العجيبة، يريدون بذلك استثارة حماس الناس وإعجابهم بهم والصعود على أكتاف عواطفهم. وهناك من يغلب على خطابهم الاهتمام بالجزئيات الصغيرة، ويطرحون المسائل الهامشية، ما دعا كثيرا من الناس إلى اتهام الخطاب الديني بأنه لا يحقِّق طموحاتهم، ولا يستجيب لمطالب العصر.
كل ذلك مِنْ شأنه أن يحمِلَ أرباب الخطاب الديني على بذل مزيد من الجهد لمحاولة التطوير المستمرة لخطابهم، بحيث يكون على المستوى المطلوب الذي يلامس تطلعات الشباب والأجيال القادمة.
وخلال كل تأريخ الأديان، تم توظيف الدين أحيانا من قبل البعض لأغراض سياسية؛ لأجل السلطة والمكاسب الدنيوية، وليس من أجل إصلاح المجتمعات وإصلاح العمران وبناء الدول، مما نَتَجَ عنه حدوث صراعات دامية بين أتباعها، لذلك يصبح تجديد الخطاب الديني عند كل الأديان وليس الخطاب الإسلامي فقط، ضرورة ملحة؛ لتقضي على كل أشكال التعصب الديني وكراهية الآخر المختلف دينيا ومذهبيا وعِرْقيا. ويتطلب ذلك منا القيام بدورنا على أكمل وجهه لتعزيز هذه الإصلاحات.
الخطاب الديني الشيعي:
ينقسم الخطاب الديني الشيعي من وجهة نظر الباحث إلى قسمين:
الأول الخطاب الديني الشيعي الذي تأسس بالضد من حالات الإفناء والإقصاء التي مارسها الآخر ضده.
الثاني: هو الخطاب الديني الشيعي الموجه نحو الداخل الشيعي.
اختلف الباحثون والمفكرون في تقييم الخطاب الديني الشيعي، ومقدار تداخله في بناء سوسيولوجية معرفة نسقية، يمكنها من التأسيس لمجتمع متدين، يستطيع التعايش مع الآخر، ويستطيع في الوقت نفسه التعاطي مع متغيرات وتعقيدات العصر المدني الحاضر.
لا نستطيع أن نحكم على الخطاب الديني الشيعي بنفس أدوات الحكم والتقدير التي نستخدمها في تقييم بقية أنواع الخطابات الدينية، سواء الإسلامية منها، أو في الديانات الأخرى، فمقدار الظلم والتغييب القسري، وخطاب الكراهية الذي كان مواجه للطائفة الشيعية خلال التأريخ، حصرها في إطار خطاب ديني سوسيولوجي، يكتفي بالحفاظ على أشكال التدين فكرا وممارسة، ويحاول جاهدا الإبتعاد عن التأسيس لمجتمعات تتميز بقوة الوعي والتماسك الديني بمنهج وطريقة أهل البيت عليهم السلام، وبسبب الكم الكبير من القتل والتهجير والتصفية والإبادة التي حكمت آليات التعامل مع الشيعة من قبل أغلب السلطات ذات اللون المذهبي المغاير، نجد أن الخطاب الديني الشيعي، قد اصطبغ بصبغة علمية تثقيفية بحتة، حاول من خلالها سبر وعي المجتمع، والتعاطي مع مشاكله ووجدانياته باستخدام أدوات مختلفة، مكانه منها التعدد والتنوع في مناهج التعاطي السوسيولوجي هذه، ما بين العاطفي (السردي التأريخي) وما بين العقلاني والعلمي.
وهذا ما جعل الطرح الإسلامي الشيعي طرح ذو مواصفات ومميزات علمية وفاعلية سوسيولوجية بطراز خاص وهذه هي الحقيقة التي يذعن لها المتتبع للشأن الشيعي على المستوى العلمي والذي يتوخى الإنصاف والتجرد في الوصول للحقيقة.
لقد تعرض الخطاب الديني الشيعي المعاصر إلى ضربات صميمة تم توجيهها له من قبل قوى وأدوات فكرية ومؤسسات بحثية متنوعة، حاولت أن تعمل أدوات التفكيك والتقييم النصي لهذا الخطاب، فكان تقييم هذه المؤسسات لهذا الخطاب تقييما مبتورا يفتقر لروح الموضوعية الحدثية والظرفية التي كانت تحتم على الخطاب الديني الشيعي، اجراء تغييرات، أو اتباع حالات الإنكفاء على الداخل أحيانا، بسبب الظروف القهرية التي تم تسليطها عليها. ولكن مع كل هذا وذاك هناك أزمات طفت على الواقع الشيعي ومن المشاكل التي طفت على الواقع الشيعي والتي تحتاج الى وقفة جادة وبروحية تعتنق الإصلاح والتقويم وبتجرد تام يبتعد عن الانحيازية التي تنبع من التعاطف والارتجال بالقراءة..
لذا، يرى بعض الباحثين توهما، بأن الخطاب الديني الشيعي (بدأ يفقد الكثير من مواطن القوة التي يتضمنها ومن نقاط القوة التي فقدها.. الشمولية..، حيث انه في مساره وهدفه أصبح ينحصر بالدائرة الشيعية وكأن الرسالة السماوية ومنهجيتها في البناء الإنساني لا تهم أي أحد سوى الشيعة وحدهم وهذا ما أفرز حالة لا تتناغم وأخلاقية الإسلام العظيم الذي هو دين الإنسانية كل الإنسانية ولأنها لم يكن في حساباتها أن تكون شرقية أو غربية، عربية أو غير عربية ولم تجيء للأبيض دون الأسود بل كانت وما زالت وستبقى عالمية بكل ما للكلمة من معنى من أجل الإنسان وإنسانيته الكريمة السمحاء وبذلك انفرزت حالة الانفكاك الشيعي عن الجسم الإسلامي وبدا الشيعة وكأنهم حالة شاذة عن هذا الجسم أو الوجود الذي اسمه الإسلام وهذا ما عزز حالة التنافر والتقاطع ومن ثم الاصطدام الأيدلوجي بين الشيعة وغيرهم من المسلمين وما شكل بالتالي مشكلة أسمها (الطائفية) المقيتة التي طفا معها على السطح الإسلامي المجتمعي الكثير من التقاطعات والتشابكات التي اتخذت أشكال وصور متعددة، وبذلك على كل من يوجد الخطاب أن يكون متوخي للدقة كل الدقة من خلال التركيز على البعد الشمولي الجامع الذي لا يتحدد بحدود الطائفة جغرافياً ومجتمعياً وأيدلوجياٌ، ومن نقاط القوة التي فقدها الخطاب الديني الشيعي).
وصريح القول يضطرنا إلى نقد هذا النوع من التقييم للخطاب الشيعي الذي حاول دعاته أن يكونوا في حالة توائم ما بين قدسية الدم الشيعي، وصونه من محاولات الهدر والهتك، وما بين النظر بنظرة الأخوة لبقية أبناء المسلمين، حتى وان كانوا مخالفين لمذهب التشيع مذهبيا أو مناصبين العداء لأهله.
وهذا لا يعني أن كل الخطاب الديني الشيعي هو خطاب رزين ومعتدل، حيث ظهرت بعض أنواع هذا الخطاب بمظهر السطحي الساذج الذي يبتعد كل الابتعاد عن العمق الذي تتسم به المدرسة الشيعية وعندما صار سطحيا وساذجا صار لا يستطيع أن ينهض بالفكر الإسلامي الجمعي حتى يكون بالتالي فكر يختزل عملية التكامل التي تحقق بدورها الصيرورة والسيرورة التأريخية ومعهما صار هذا النوع من الخطاب الإسلامي الشيعي لا يستطيع أن يوجد العقل الجدلي الذي ينسف كل ما يجب نسفه من العادات والتقاليد التي أستشرت على الواقع الإسلامي باسم الدين.
تداخل العرف الإجتماعي مع الديني، شكل أهم مشكلة من مشاكل الخطاب الديني الشيعي الداخلي.
من ناحية أخرى، يرى الباحث أن وجود نوع من أنواع التشظي في سوسيولوجيا الخطاب الديني الشيعي (كما يدعي البعض) هو أمر طبيعي لمدرسة تؤمن بالإجتهاد، وتسير ضمن أطر معينة يتوافر فيها كم لا بأس به من حرية الفكر، مع عدم وجود مناهج للقسر والفرض والتحييد والتغييب، لذا انبثقت الكثير من أنواع الخطاب التي اتسم بعضها بالضعف والسطحية، واتسم بعضها الآخر بالضلال والابتعاد عن جوهر الدين، فبما أن عامل القسر والإرهاب الفكري غير موجدين في أدوات التعاطي الفكري والعلمي الأصيل في المدرسة الشيعية، من الطبيعي ان نجد الكثير من حالات الشذوذ، والتي من الألطاف اللإلهية نجد أن التحييد المجتمعي لها، يشتغل بمشارطه وأدواته التوعوية، لنبذها وهجرها ومن ثم اضمحلالها. لذا فهو ليس تشظي، بقدر ما هو عملية سننية طبيعية، لإعادة تشذيب الوعي الديني النخبوي والمجتمعي، من إرهاصات التراكم الحدثي، وترسبات المشاكل العامة في الحياة.
تداخل حركية الإجتهاد مع روحية الخطاب الديني في مجتمع متجدد:
الخطاب الديني الأساسي والجوهري في المذهب الشيعي اليوم، هو الخطاب الصادر من المرجعيات الدينية، التي تحوي علما ومعارف كثيرة في مختلف المجالات، والتي تتعاطى مع وقائع الحياة، بحركة مرنة، تتفاعل مع كل احداثيات الرهان الواقعي.
يضع فقهاء الامامية عدد من الضوابط التي ينبغي للمجتهد المجدد ان يحيط بها علما ومنها أن يتوفر له الوعي الديني المستنير المنفتح والوعي الزماني لمجرى الاحداث وحقائق الحياة من حوله وان يتخلى عن الوهم أن الاسلام قادر على مقاومة كل تهديد لمجرد ما فيه من مزايا وخصائص، وأن يكون ذا فكر مبدع وخلاق وان يتحرر من القيود والتقاليد التي لا يفرضها عقل ولا دين لكي يستطيع أن يوائم بين النصوص ومقتضيات العصر.
وحتى بالنسبة لعملية الاستنباط للإحكام الشرعية من المصادر الرئيسية الاربعة عند الشيعة فإن المجتهد يجب ان يتحلى ايضا بالنظرة الموضوعية والقدرة التحقيقية لمعاينة النص واستعراض تجلياته على صعيد الزمان والمكان قبل ان يتم استنباط الحكم الشرعي منه، ويشير بعض الفقهاء الى انه لابد من ملاحظة مضمون النص وطبيعة موضوعه والمخاطب به ولسانه او لغته التعبيرية، فقد يستكشف من ذلك كون النص مرحليا او محدودا من حيث الزمان والمكان.
ولعل هذه النظرة الموضوعية للظروف على صعيد الزمان والمكان بالنسبة لنصوص الاحكام الشرعية ساهمت في ظهور اتجاه اجتهادي أوسع من مفهوم الاجتهاد الاساسي وهو ما أصطلح عليه (تحول الاجتهاد) وهو اتجاه اجتهادي اصلح عليه بعض الفقهاء ويقوم على أساس تغيّر الزمان والمكان والظروف في شتى مجالات الحياة، والذي يستتبع حدوث موضوعات جديدة، أو تغير أصل الموضوعات أو خواصها وبالنتيجة تغير أدلتها الشرعية أو تغيّر فهم الفقيه للموضوعات السابقة.
ويشير فقهاء المدرسة الامامية أيضاً الى ان السمة الاساسية للإسلام هي ان فقهه متحرك، وهي الحركة النابعة من علاقة ابيستمولوجية تبادلية ما بين الفقيه ومجتمعه، وان الزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد، وأن الفقيه المجتهد يجب ان يكون محيطا بأمور زمانه، وهو مصداق لحديث الامام جعفر الصادق (عليه السلام) في قوله: (العالم العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس).
وهكذا نرى ان الاجتهاد كان السمة البارزة في الفقه الجعفري وخطابه الديني المتجدد، باعتباره مجالا للإبداع والتجديد من قبل الفقهاء للحفاظ على ديمومة الدين من خلال انفتاحه المتواصل وعطاءه الدائم في معالجة الموضوعات المتجددة في الحياة، ولذلك كان المناخ السائد في الحوزة العلمية التي تعتبر المدرسة الدينية للشيعة هو تجديد الخطاب الديني وتعدد اليات العمل الاسلامي بحسب ما يقتضيه الزمان والمكان وهو ما ابرز تفوق مدرسة اتباع اهل البيت (عليهم السلام) على المدارس الاخرى التي بقيت تراوح في دائرة الفقهاء الاربعة وكتبهم ومذاهبهم التي أكل الدهر عليها وشرب بعد انقطاع علماء مدارس تلك المذاهب الاربعة عن التواصل والتجدد مع المتغيرات ومسايرة الشيعة في اطلاق الاجتهاد لمعالجة مكامن الخلل والشلل على صعيد الفكر والفقه.
لذا لم يكن هناك أي نوع من الحساسية تجاه قضايا التجديد في الخطاب الديني الشيعي، وذلك لما يمتلكه هذا الخطاب (بضوابطه وأصوله الفقهية التي يمثلها المراجع العدول)، من مساحات اشتغال واسعة متنوعة، ويختصر فقهاء الشيعة اهمية التجديد في مفهومهم بأنه ضرورة من سنن الحياة فلا بد أن تجري، ومن لا يتجدد تخلفه الحياة ويصبح ميتاً أو جزء من الماضي، كالماء الراكد فإنه يفسد ولكنه يحى ويتجدد بالجريان.
وللتجديد عند الامامية معايير وضوابط تستند الى ان الشريعة وأصولها غير قابلة للتمييع او التلاعب، وأن معايير الاصالة في عملية التجديد تتمثل في الاستقامة على الثوابت والمصادر المستخلصة منها، ثم التزام النتائج بها، لاقتران التجديد بالأصالة وكونه محكوما بالثوابت.
وبعبارة أوضح فإن التجديد والإصلاح لا يعبر عن التنازل عن الثوابت وتكييف الدين لصالح المتغيرات وإنما هو عملية اعادة صياغة وبلورة الفكر الاسلامي والأحكام الشرعية بصيغة تراعي متطلبات الواقع، ولذلك فإن نظرة الشيعة الى الاصلاح والتجديد في الاسلام لا تعني اعادة النظر بالدين، بل اعادة النظر في رؤيتنا وفهمنا الديني والعودة الى الاسلام الحقيقي والوقوف على الروح الحقيقية للإسلام.
لذلك فإن من الخطأ الف مرة أن نقول بأن الاسلام يتكيف وفق الزمان، الاسلام فوق الزمان والمكان، لأنه من وضع الواضع الذي خلق الزمان والمكان، فقد قدّر لهذه الرسالة القدرة على الامتداد مهما أمتد المكان والزمان. وكذلك فإن رؤيتهم للإسلام أنه فوق التجدد وفوق التغيير وانه الحاكم لعوامل التغيير وليس محكوم عليه من قبل عوامل التجدد، وبعبارة أخرى فإن الصيغة النظرية للإسلام صيغة ثابتة فوق التجدد، فوق التغيير، لا بدّ لها هي أن تحكم كل عوامل التغيير وكل عوامل التجدد.
لقد وقع الاختلاف بين الفقهاء حول حجية العقل، وقاد هذا الإختلاف إلى نوع من التذبذب في الخطاب الديني، في مواجهة النقد الثقافي المعاصر، فمنهم من رفضه مطلقاً ورفض أي تدخل له في التشريع وتشبث بنصوص الوحي والسنة النبوية والأخبار المنقولة، فيما اعترف أخرون بهذه الحجية خصوصاً في أصول الاعتقادات (إثبات الخالق والمبدأ والتوحيد والنبوة) واعتبروا أن نفى الاعتبار والحجية عن العقل في أصول الدين إنما هو بمثابة إسقاط لاعتبار الدين، هذه الأصول لا تثبت إلا بالعقل. أما في مجال استنباط الأحكام، فهناك إجماع على مدخلية للعقل في هذا الاستنباط مع تفاوت بين المجتهدين في حجية العقل في هذا الاستنباط، باستثناء الأخباريين وأهل الظاهر الذين لا يعترفون بالعقل ويقدمون الأخبار عليه، انطلاقاً من بعض النصوص الحديثية التي تحرم الرأي في الدين. لكن عدداً من علماء هذا الاتجاه يقرون بالبراهين والأحكام العقلية ويعتمدونها حجة في رد أو قبول معاني ومتون الأخبار والروايات. كذلك اعترف أرباب الاجتهاد بمجموعة من المصادر الاجتماعية للمعرفة الفقهية كالعرف وسيرة العقلاء وأهل الخبرة، ومدخلية تغير الأزمان في فهم أو تعطيل العمل ببعض الأحكام وكذلك مدخلية المصلحة الاجتماعية في توجيه بعض الأحكام.
ومن خلال كلمات عدد من الفقهاء والمجتهدين نلاحظ مدى تأثير الواقع والظروف الاجتماعية في المعرفة الدينية وكذلك تأثير هذه المعرفة في الواقع وتوجيهه، بحيث نستطيع أن نقول بأن هناك جدلية تأثير وتأثر بين الواقع والمعرفة الدينية، لكن دون أن يؤثر ذلك في خصوصية المعرفة الدينية وأصلها المفارق والمتعالي على الواقع من حيث أصل نزولها الإلهي والسماوي. فالمفسر الكبير العلامة الطباطبائي، يرى أن الصورة في المعرفة الوحيانية تتأثر ببعض الظروف الاجتماعية والإنسانية المحيطة، نحو: الظروف الزمانية، الإنسان والمصالح، وتعدد الشرائع يرجع إلى هذا السبب، ولكن مضمون المعرفة الوحيانية ـ وتبعاً له مضمون الشرائع ـ لا يقبل التغيير لأن هذه المعرفة حضورية وكسبها يكون من الله مباشرة أو غير مباشرة.. وهذه المعرفة معصومة عن الخطأ ومنزهة عن التغير والتبدل، لكن أصل نزول الوحي واقع تحت تأثير الأسباب الإنسانية، وذلك لأجل إيصال المعرفة القرآنية إلى حد فهم الإنسان... وكذلك النزول التدريجي للقرآن متأثر أيضاً بالأسباب الإنسانية والاجتماعية لأن هذه المعرفة الوحيانية، إنما أنزلت لهداية المجتمع.
الشهيد مرتضى مطهري كذلك تحدث عن هذه الإشكالية، وخصوصاً الثابت والمتغير في الإسلام، فهو ممن يقول بأصالة الفرد والمجتمع معاً ودورهما المؤثر في إنتاج المعرفة، لكن المعرفة ليست نتاجاً للمجتمع وحده بل هناك عوامل متعددة «تدخل على خط الوعي والمعرفة، فالعقل والفطرة من جملة العوامل المؤثرة في تأسيس الوعي البشري.. » وبالتالي فالمجتمع بالنسبة للشهيد مطهري يؤثر في فكر الفرد، ولكن ليس وحده المتحكم في صناعة وإنتاج المعرفة، لكن هذا التأثير لا يجب أن يتحول إلى الحيز الاجتماعي..
أما الشهيد الصدر، فقد أقر بوجود مستوى من المعرفة يخضع للمجتمع في الفهم، والذي قد يشمل بنحو ما مجالات واسعة من المعرفة لا سيما تلك المعارف التي ترتبط بالنص حتى في الدائرة الفقهية.. لذلك يرى الشهيد الصدر أن الفهم الحقيقي للفقه واستنباطاته الشرعية، إنما يتحقق متى سلكنا في طريق الاجتهاد أسلوب الفهم والتفسير الاجتماعي للنص.. لأن الظروف الاجتماعية تساعد الفقيه على توسيع دائرة النص أو تضييقه أو توجيهه.. وبالتالي فخلاصة الفكرة هي أننا إذا فهمنا النص فهماً اجتماعياً فسوف نكون أقرب إلى واقع الحدود المحتملة لتلك الأحكام.. وهذه وجهة نظر مهمة في علاقة الاجتماع الإنساني بالمعرفة الدينية.
تعتبر المعارف العقلية القبلية من القضايا التي لها دور أساسي في بحث علم اجتماع المعرفة موضوع المعارف العقلية القبلية، فهل من الصحيح وجود مثل هذه المعارف أو الصحيح نفي ذلك؟ وأهمية هذا الموضوع تبرز في أننا مع تبني هذا النوع من المعارف فإن ذلك سوف يشكل سداً حائلا لعلم اجتماع المعرفة ومهده أي ما يسمى بـ (ما بعد الحداثة). وبناء عليه لا يمكن تبني سوى الشيء اليسير من علم اجتماع المعرفة في الفكر والمعرفة؛ وذلك لأننا مع القبول بأصل وجود معارف قبلية فإن مجالا مستقلا للعقل البشري سوف يكون ثابتاً، ولن تجد النسبية لها طريقا إلا في بعض المعارف.
في هذه النقطة بالتحديد للشهيد الصدر بيان يمكن من خلاله الموازنة بين هذين المذهبين والوصول إلى موقف محدد من موضوع علم اجتماع المعرفة. فيذكر الشهيد الصدر أن من أهم النتائج المترتبة على المذهب التجريبي هو أن كافة المعارف البشرية الأولية هي جزئية؛ لأن الحس هو بداية المعرفة ووظيفة الحس إدراك الجزئيات. وبناء عليه لا يقين لنا بأي قضية كلية خارجة عن المدركات الحسية، وهذا يقع على ضرورة وجود نقطة بداية للمعارف البشرية سواء توصل إليها الإنسان عن طريق الاستنباط أو عن طريق الاستقراء لا بد لها من نقطة بداية لا تكون المعرفة فيها نتاجاً لمعرفة أخرى؛ لأن عدم وجود نقطة بداية كهذه تعني أن نواجه سلسلة لا متناهية، وتوقف الوصول إلى أي معرفة على سلسلة غير متناهية من المعارف، وهذا ما يؤدي إلى أن تكون أصل المعرفة مستحيلة.
ويمكننا القول بشكل حاسم أن الشهيد الصدر يتبنى القول بوجود دائرة من المعرفة (المعرفة الأولية) في الإنسان لا ترتبط بأي وجه بالحس والتجربة. وينتج من ذلك أن هذه المعارف لم يتم تلقيها من المجتمع وليس للمجتمع أي تأثير فيها. وبهذا يظهر أن جزءا من المعرفة الإنسانية يكون مستقلا ومنفصلا عن المجتمع والاجتماع.
وفي ملاحظة الأبعاد الاجتماعية للنص في معرض حديثة عن أحد الفقهاء يلفت الشهيد الصدر النظر إلى مسألة مهمة. وهذه المسألة تتمثل في إثبات أن المدلول الاجتماعي للنص شيء مختلفة ومتمايز عن المفهوم اللغوي واللفظي للنص الشرعي، وأن الفهم والتفسير الاجتماعي للنص الديني هو عنصر أساس في عملية الاجتهاد. ويذكر في هذا المجال التالي: «هل يصل الشخص الذي يحاول فهم النص إلى المعنى النهائي له بكل حدوده وأبعاده، إذا أحصى الدلالات اللفظية من وضعية وسياقية، واستوعب المعطى اللغوي للنص؟ والجواب بالإيجاب والنفي معا، فالجواب بالإيجاب إذا افترضنا أن هذا الشخص الذي يحاول فهم النص الشرعي إنسان لغوي فحسب، أي إنسان تلقن اللغة وحياً وإلهاماً فهو يعرف اللغة ودلالات الألفاظ الوضعية والسياقية وليست له أي خبرة من نوع آخر، فإن هذا الإنسان اللغوي الذي لا توجد له خبرة سوى الخبرة اللغوية سوف ينتهي عمله في فهم النص عند جمع الدلالات الوضعية والسياقية وتحديد الظهور اللفظي على أساسها.
والجواب بالنفي إذا كان الشخص الذي يحاول فهم النص قد عاش الحياة الاجتماعية مع سائر العقلاء من أفراد نوعه في مختلف المجالات الحياتية، فإن الأفراد الذين يعيشون حياة اجتماعية من هذا القبيل تتكون لديهم خبرة مشتركة، وذهنية موحدة، إلى جانب ما يتميز به كل فرد من خبرات، واتجاهات، وتلك الخبرة المشتركة والذهنية الموحدة تشكل أساساً لمرتكزات عامة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعي والتقنيني، والمرتكزات العامة والذوق المشترك في المجال التشريعي والتقنيني هو ما يطلق عليه الفقهاء في الفقه اسم مناسبات الحكم والموضوع.
ويأتي دور الفهم الاجتماعي للنص حين ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له. فإن الفقيه في الدرجة الأولى يحدد المعطى اللغوي واللفظي للنص، ثم بعد أن يعرف معنى اللفظ يسلط عليه الارتكاز الاجتماعي ويدرس المعنى بالذهنية الاجتماعية المشتركة، (مناسبات الحكم والموضوع) فيظهر له من النص أشياء جديدة ». من الواضح بناء على هذا الكلام أن الذهنية المشتركة التي تحصل لدى الإنسان بسبب الحياة الاجتماعية ـ والتي يراها الشهيد الصدر أمراً عرفياً ـ لها دور أساس في فهم النص وفي العمليات العلمية للفقيه، بل إن ملاحظة هذه الجنبة الاجتماعية وإدارك هذا النوع من الإدراك المشترك هو الذي يجعل الفقيه متمكناً من الوصول إلى الرأي الصحيح والمراد الواقعي للنص. ومن هنا يمكن الحكم بأن الشهيد الصدر يرى أن بعض أبعاد الحياة الاجتماعية (المعارف المشتركة والارتكاز العام) لها تأثيرها على معرفة الإنسان (الفقيه والباحث) وفهمه.
يوجه الشهيد الصدر هذا النوع من الفهم الاجتماعي للنصوص من خلال إرجاعه إلى أصل حجية الظهور، والتي هي أمر عقلاني ثابت ومستدل عليه. ويذكر الشهيد الصدر في بيانه لذلك التالي: «أما المبرر للاعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النص فهو نفس مبدأ حجية الظهور؛ لأن هذا الارتكاز يكسب النص ظهوراً في المعنى الذي يتفق معه، وهذا الظهور حجة لدى العقلاء كالظهور اللغوي؛ لأن المتكلم بوصفه فردا لغوياً يفهم كلامه فهماً لغوياً، وبوصفه فردا اجتماعياً يفهم كلامه فهما اجتماعياً، وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم». والملاحظ في كلام الشهيد الصدر أن هذا الفهم الاجتماعي الذي نجده متداولا في كلمات الكثير من الفقهاء والأصوليين تحت عنوان (العرف وارتكاز العقلاء) ونحو ذلك، هو نوع من الدلالة ـ إلى جانب الدلالة الوضعية والسياقية ـ يظهر من النص ومن الكلام، وأصل حجية الدلالات ولها نوع ارتباط بها. ولذا لعل بالإمكان توضيح رأي الشهيد الصدر بالنحو التالي: للمجتمع والعلاقات الاجتماعية الحاكمة نفوذاً عن طريق اللغة في المعرفة واستظهار الإنسان. وبناء عليه فإن للمجتمع تأثيراً حتمياً في المعرفة الإنسانية، وهذا هو الحد الأدنى من مقولة سوسيولوجيا المعرفة في الخطاب الديني الشيعي.
اضف تعليق