تعد مراكز الأبحاث في الوقت الحاضر حلقة امتداد للسياسات العامة في الدول الديمقراطية، إذ أصبح لها دور فاعل في رسم تلك السياسات وتقديم الخيارات والبدائل والاستبيانات وممارسة النقد المنهجي لصناع القرار ومتخذيه، وأصبح يطلق عليها أيضا مراكز تفكير لما لها من دور واسع وريادي في حل الأزمات...
تعد مراكز الأبحاث في الوقت الحاضر حلقة امتداد للسياسات العامة في الدول الديمقراطية، إذ أصبح لها دور فاعل في رسم تلك السياسات وتقديم الخيارات والبدائل والاستبيانات وممارسة النقد المنهجي لصناع القرار ومتخذيه، وأصبح يطلق عليها أيضا مراكز تفكير لما لها من دور واسع وريادي في حل الأزمات والصراعات الدولية والمحلية.
وبدأت ظاهرة ازدياد وتنامي عدد هذه المراكز يتبلور في دول العالم لاسيما المتقدمة في أوروبا وأمريكا وتعددت توجهات تلك المراكز في مختلف الاتجاهات السياسية والاقتصادية والأمنية.
أما في دول العالم الثالث فتثار تساؤلات عديدة عن فاعلية وواقع تلك المراكز ودورها الحقيقي، فعلى سبيل المثال في بلد مثل العراق لم يعرف منذ تأسيس الدولة العراقية ظاهرة تعدد المراكز البحثية وانتشار الأبحاث إلا بعد عام ٢٠٠٣ إذ كان التخطيط المدروس غائبا وإدارة البلد تخضع للميول والآراء الفردية والحزبية.
وبقى صانع القرار العراقي بعد ٢٠٠٣ بعيد جدا عن الاستماع والأخذ بآراء ودراسات مراكز الأبحاث، ولعل تسيد هذه الثقافة في واحدية اتخاذ القرار أو حصره في نطاق دائرة الحزب أو التيار السياسي راجع إلى أسباب كثيرة، وما يرتبط بموضوع مراكز الأبحاث فله أسباب عديدة منها:
١- أغلب هذه المراكز غير محايدة وغير موضوعية ومحسوبة على جهات صانع القرار ودائما تأتي طروحات تلك المراكز متماشية مع توجهات تلك الأحزاب والجهات.
٢- إن أغلب الأحزاب وصناع القرار خاصة في مراحل الانتخابات واستلام المواقع والمسؤوليات يضطلعون بتأسيس مراكز أبحاث ودراسات وقياس الرأي العام ويتم توجهيها لتتطابق مع سياسات وخيارات مؤسسيها بشكل مباشر أو غير مباشر.
3- توجد هنالك بعض مراكز الأبحاث والدراسات الفاعلة والمستقلة سواء كمنظمات مجتمع مدني أو ضمن نطاق الجامعات العراقية، لكنها مهملة وغير مدعومة ولا تخصص لها الموارد وتعاني من ضعف التمويل بل انعدامه ويبقى التفاعل معها سياسيا في إطار البعد الإعلامي والمجاملات السياسية ومحاولة تسويق أجندات الأحزاب وصناع القرار ضمن نشاطات تلك المراكز ولهذا تم التشخيص في مؤتمرات وندوات ونشاطات بعض تلك المراكز أن صانع القرار والمسؤول يحضر ليلقي كلمته ثم يغادر دون الاستماع لوجهات النظر الأكاديمية والمهنية والأخذ بها.
٤- عدم تبني صناع القرار العراقي دراسات هذه المراكز وبحوثها يرتبط بضعف الخبرة الأكاديمية الفعلية لصانع القرار، إضافة إلى محدودية الخبرة السياسية في المجال العملي يجعل منهم في غنى عن البحوث والدراسات التي يحتاجها البلد في ملفات حل الأزمات، الأمن، النظام السياسي، الدستور، العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، الاقتصاد، المياه، الثروات الطبيعية، ومستقبلها.
٥- واحدة من معوقات ضعف مراكز الأبحاث في العراق والمنطقة العربية عموما ترتبط بالجمهور الذي لا يعتد بمخرجات تلك المراكز ونادرا ما يقرأ ويتفاعل بشكل جاد ما يصدر عنها ولا يطلع أو يعيد النقاش بخصوصها في الفضاء العمومي بل غالبا ما يذهب إلى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ليأخذ المعلومات والأخبار بشكل فوري وسريع، مما يدفع بصناع القرار لتجاهل تلك المراكز والتركيز في الظهور والرد في وسائل الإعلام والتواصل التي باتت تشكل منبرا ضاغطا ومحركا دافعا لصناع القرار لمحاكاة توجهات الناس إزاء مطالبهم ومواقفهم وانتقاداتهم في تلك الوسائل، ولو كان هذا التفاعل من قبل الجمهور مع المراكز بشكل مكثف لكان صانع القرار مضطرا للأخذ بمخرجاتها ودراساتها.
٦- إن المناخ السياسي وسيطرة قوى سياسية تقليدية على الحكم والفضاء السياسي، وهذه النخب تعتمد على أجواء التعصب والاستقطاب التي تتعارض مع حرية الرأي والتعبير، أحيانا يجعل منها بعيدة كل البعد عن الأخذ بدراسات وأبحاث تلك المراكز فطالما أنها قوى سياسية ليست حداثوية وأغلبها ذات أبعاد أصولية وتأسيساتها تراثية فهي تعد تلك المراكز من قيم العولمة وتحولاتها التي تتقاطع مع الأسس والأصول التي تنطلق منها.
٧- قامت بعض مراكز الأبحاث والدراسات في العراق بعد عام ٢٠٠٣ بعقد العديد من الندوات والمؤتمرات وكتابة الكثير من التوصيات والبدائل الرصينة، إلا أن تلك الأبحاث ونتائجها وتوصياتها تركن في الرفوف مما سبب في الوقت الحاضر تراجع في دافعية الباحثين من المشاركة الجادة والرصينة وعدم تقديم الدراسات الفاعلة لمعرفتهم نهاياتها ونسيانها وإهمالها.
٨- هناك معوقات أخرى منها: إن أصحاب الأفكار من المبدعين والمبتكرين في الغالب هم إما أساتذة جامعات أو موظفين أو مهاجرين ومهجرين، ولديهم التزامات متعددة ويعانون من صعوبة وتعقيدات إدارية ومالية تحرمهم من المشاركة في مثل هذه المراكز.
هذه الصعوبات والمشاكل لا تمنع من طرح حلول ومقترحات لتفعيل دور مراكز الأبحاث في العراق لتتحول من الإطار النظري إلى الإطار العملي والفاعل في تسويق نتاجاتهم وأفكارهم وهذا يكون عبر:
١- تشريع قانون لمراكز الأبحاث والتفكير من قبل مجلس النواب وفصله عن منظمات المجتمع المدني فمنظمات المجتمع المدني شيء ومراكز الأبحاث والتفكير شيء آخر، يتضمن هذا القانون تحديد آليات عمل تلك المراكز ويلزم الوزارات المعنية بالتفاعل مع تلك المراكز والأخذ بما تطرحه إذا كان ضمن الأطر القانونية، كما يحدد هذا القانون طرق تمويل تلك المراكز وهيكلتها ومراقبة نشاطاتها وفعاليتها بما ينسجم وحجم التمويل.
٢- تعمل الحكومة على تأسيس مراكز أبحاث متقدمة ومتطورة ومستقلة تضم نخب وباحثين وكفاءات ذات معيارية وجودة عالية من كل الاختصاصات ترفد الحكومة وصناع القرار بكل ما يدعم السياسات العامة والحكم الرشيد والحوكمة والتخطيط والإحصائيات والدراسات المقارنة وأهم المشاكل والمعوقات وسبل تجاوزها بشكل دوري يلزم الحكومة وصانع القرار بالأخذ بتلك الدراسات والاستفادة منها.
٣- تفعيل الجانب الاستشرافي في نتاجات تلك المراكز، فكلما كانت تلك الدراسات تتضمن جوانب مستقبلية واستشرافية مخطط لها بشكل جاد وفاعل سيكون عمل الحكومة مثمر ومنتج للسنوات المقبلة.
٤- وفقا لكل ما ذكرناه أعلاه، يجب أن تعمل مراكز الأبحاث والدراسات في العراق وفق آليات وعمليات التفكير لإنضاج المشاريع العلمية، وبلورة الإشكالات القائمة، ودراستها وفق تكامل علمي ومعرفي انسجامي، مما يجعلها من الضرورات السياسية الملحة، إذ يجب أن تسهم مخرجاتها في إنتاج الأفكار، وصنعها، وتسهم في إعادة توظيف واستخدام ما هو متاح من المعلومات لخدمة مؤسسات الدولة ورسم أبعادها المستقبلية.
٥- يجب أن تؤدي مراكز الأبحاث أدوارا أساسية في نشر الوعي السياسي والمعرفي والثقافي وتنمية وإذكاء وإثراء الخيارات لصانع القرار.
٦- مغادرة الطرق التقليدية لتكوين تصورات متكاملة عن الموضوعات السياسية والستراتيجية ووضع تصورات حديثة تلائم المتغيرات والتحولات وهذا يكون عبر الاستعانة بالمختصين وذوي الخبرة ممن عملوا في المؤسسات ومراكز الأبحاث العالمية لوضع إستراتيجيات عمل جديدة لها فالاستفادة من تجارب المراكز العالمية والإقليمية عبر التوأمة والتفاعل وتبادل الخبرات يجعل تلك المراكز قادرة على إعطاء المشورة لصناع القرار وتحقيق الحكم الرشيد.
أخيرا نقول: "إن مراكز الأبحاث والدراسات العالمية تعد من المختبرات التي تضع الخطط والستراتيجيات والمعلومات وما تحتاجه الدولة من خطط التنمية، كما تعد أشبه بحكومات ظل تراقب صناع القرار عند صنع السياسات العامة، لهذا لابد من الاهتمام بنتاجاتها وقبل ذلك دعمها وتمويلها والحفاظ على مهنيتها واستقلاليتها، هذه المقترحات تحتاج إلى مراحل زمنية إلى أن تصل إلى درجة الاحترافية والاستقلالية والمهنية والفاعلية فيما يخص العراق.
اضف تعليق