انعدام النظام السياسي السليم تصميماً وتطبيقاً الذي يجعل أبناء الوطن الواحد بمختلف انتماءاتهم يشعرون بالأمان وضمان حقوقهم، بالتزامن مع انعدام النظام اقتصادي القادر على إشراك الجميع في الإنتاج ولا يقصي أحد، أديا لظهور الفساد. ونظراً لاستمرار إهمال النظام السياسي السليم والنظام الاقتصادي القادر على إشراك الجميع...

لم يكُن الفساد حالة محلية بل هو ظاهرة عالمية تشمل جميع دول العالم النامية والمتقدمة على حدٍ سواء، ولكن مع اختلاف النسب فيما بينها.

العراق أحد تلك الدول كان ولازال وسيظل يعاني من الفساد مستقبلاً وبشكل متفاقم نظراً لانعدام البوادر الحقيقة لمكافحته فضلاً عن منعه.

لم يظهر الفساد بشكل فجأة في العراق بعد 2003 بل هو امتداد لسنوات طويلة قبل هذا العام، لكن ما حصل، إن الفساد لم يكُن بيد السلطة الحاكمة فحسب بل أصبح منتشراً وظاهراً في أغلب-إن لم تكُن كل- المؤسسات الحكومية.

في العادة، يكون الفساد أكثر وأكبر في الدول الديكتاتورية سياسياً والاشتراكية اقتصادياً، وأصغر وأقل في الدول الديمقراطية وذات الحرية الاقتصادية التي تجعل الدولة اقل تدخلاً في الاقتصاد.

هنا ينبثق التساؤل لماذا يزداد الفساد في العراق حجماً وكميةً في الوقت الذي يتبنى الديمقراطية واقتصاد السوق أنظمة للسياسة والاقتصاد؟ بمعنى يُفترض انسجاماً مع الفقرة السابقة أن يكون الفساد في أدنى مستوياته أو على الأقل في اتجاه الانخفاض ولكن لماذا يزداد؟

هذا التساؤل يجرنا لسؤال آخر هو موضوع المقال "الفساد في العراق...سبب أم نتيجة؟" إذ يشير الكثير إلى إن الفساد هو سبب تعثر الاقتصاد -هذا صحيح فيما بعد- دون التطرق لسبب ظهور الفساد بالأساس.

وإذا ما توصلنا لسبب ظهور الفساد في العراق سنحصل على الجواب بشكل تلقائي عن السؤال المطروح بدايةً لماذا يزداد الفساد في العراق مع تبني الديمقراطية والسوق في العراق؟

استمرار الفساد لضبابية التشخيص

وكما أسلفنا بدايةً، إن الفساد هو امتداد لسنواتٍ طويلة، مما يعني إن الفساد نتيجة لحقبةٍ ماضية، ظهرت بشكل جليّ بعد عام 2003؛ ونظراً لعدم مكافحته وعدم معالجة أسباب ظهوره بالأساس استمر في التراكم وأصبح لاحقاً سبب لتعثر الاقتصاد.

هذا التشخيص يختلف عن التشخيص السائد، حيث يرى الأغلب إن الفساد سبب وليس نتيجة، مما حدا بهم أن يذهبوا لمعالجة النتيجة، من خلال وضع اللجان وتغليظ القوانين وزيادة الإجراءات؛ قبل معالجة السبب الأساس، الذي سيتم تناوله أدناه؛ ونظراً لعدم معالجة السبب ستستمر النتيجة.

إن تشخيص مشكلة الفساد بشكل غير دقيق يعني الاستمرار في الفساد واستمرار المعاناة وهدر الطاقات وضياع الوقت واستمرار التخلف، لان أغلب الحلول التي سيتم وضعها بعد التشخيص غير الدقيق ستكون بعيدة عن معالجة الفساد بشكل دقيق نظراً لضبابية التشخيص.

الفساد نتيجة

لتقريب فكرة، كيف أصبح الفساد نتيجة نسوق هذا المثال: إن أغلب التطبيقات الالكترونية تتعرض للاختراق نظراً لعدم تصميم النظام بشكل محكم، أي وجود ثغرات تسمح باختراقها وعند استغلالها من قبل الآخرين ستتسبب في تعطل التطبيقات أو إن أداؤها يكون سيئاً للغاية.

كذلك الحال بالنسبة للفساد، إذ أصبح نتيجة لعدم تصميم وتطبيق الديمقراطية واقتصاد السوق بشكل مناسب وسليم، حيث تم تصميمهما بشكل غير مناسب وتم تطبيقهما بشكل مفاجئ ومزدوج، مما دفع لإيجاد ثغرات سياسية وديمقراطية دفعت لتفاقم الفساد وانتشاره.

قصور السياسة عن إشراك الجميع

حيث تم بناء الديمقراطية على أساس الهويات الفرعية -شيعة، سنة، أكراد-لا الهوية الأصلية-المواطنة-التي تنضوي تحتها جميع هذه الهويات بالتزامن مع الاحتفاظ بكل واحدة منها باستقلالها وحقوقها وواجباتها.

هذا البناء الهوياتي -هو ثغرة سياسية بحد ذاته- دفع كل هوية إلى وضع الخطط والبرامج لتعزيز هويتها والحفاظ عليها بصرف النظر عن مصالح الهويات الأخرى مما دفع لتشظي الهوية الوطنية واستمرار الخلافات السياسية التي انعكست بظلالها على المشهد الاقتصادي والاجتماعي بشكل تلقائي.

بمعنى عدم وجود نظام سياسي سليم يستوعب الجميع ويعطيهم الأمان بضمان مكانتهم وحفظ حقوقهم ومصالحهم ومصيرهم، مما جعلهم قلقين إزاء النظام السياسي واللجوء لتقوية كيانهم بعيداً عن الدولة ومن خلال الدولة وهذا ما جعل الدولة غطاء لتحقيق المصالح الفرعية لا الأصلية، وهذا بحد ذاته فساد.

قصور الاقتصاد عن إشراك الجميع

كذا الحال بالنسبة لاقتصاد السوق، حيث لم يتم العمل على تصميم نظام اقتصادي قادر على استيعاب وإشراك الجميع في الإنتاج بعيداً عن الإقصاء والتهميش ليتم توزيع النمو على الجميع وفق الحاجة والاستحقاق.

حيث ظلت الدولة هي المهيمن الرئيس على الاقتصاد بفعل هيمنتها على الثروة النفطية وعدم إدارتها بشكل مهني يسهم في دعم الاقتصاد وتحويله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي.

إن هيمنة الدولة على النفط والاقتصاد أدى إلى النتائج أدناه:

الأولى: غياب قواعد اقتصاد السوق، المتمثلة بالحرية الاقتصادية والمنافسة ومنع الاحتكار؛ وانحسار دور القطاع الخاص في الاقتصاد الحقيقي، وانخفاض فرص العمل وزيادة البطالة وزيادة الفقر.

الثانية: توظيف الثروة النفطية بعيداً عن الوجهة السليمة التي تسهم في بناء الاقتصاد وتقويته، أي توظيفها وفقاً للأغراض السياسية وخدمة للمصالح الخاصة والهويات الفرعية الناجمة عن النظام السياسي السيء تصميماً وتطبيقاً.

الثالثة: توسَع الوظائف الحكومية بعيداً عن الحاجة الحقيقية وزيادة الطلب عليها نظراً لانحسار القطاع الخاص المُولِد لفرص العمل وطبيعة الصناعة النفطية التي تتسم بأنها كثيفة العمل لا رأس المال، ويتم إشغالها بناءً على معايير المحسوبية والمنسوبية والفساد توافقاً مع النظام السياسي السيء.

الخلاصة

إن انعدام النظام السياسي السليم تصميماً وتطبيقاً الذي يجعل أبناء الوطن الواحد بمختلف انتماءاتهم يشعرون بالأمان وضمان حقوقهم، بالتزامن مع انعدام النظام اقتصادي القادر على إشراك الجميع في الإنتاج ولا يقصي أحد، أديا لظهور الفساد.

ونظراً لاستمرار إهمال النظام السياسي السليم والنظام الاقتصادي القادر على إشراك الجميع في الإنتاج، أصبح الفساد متراكماً وسبباً لمشاكل أخرى، لكن تبقى المسألة إن السبب الرئيس وراء ظهور الفساد هو ضعف السياسة والاقتصاد.

ومن أجل معالجة الفساد سبباً ونتيجةً لابد من العمل بشكل متوازي على تصميم وتطبيق نظام سياسي واقتصادي سليم لمنع الثغرات التي تسمح للفساد بالظهور والعمل على مكافحته عند ظهوره من خلال القوانين.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

اضف تعليق